د. ماهر عبد المحسن
في سنوات الطفولة الباكرة كان الواقع يختلط بالخيال، و كثيراً ما كنت أرى الأشياء من حولي في صورة مبالغ فيها من حيث الحجم وتأثيرها في النفس. وأذكر، مثلاً، أن مدرستي الابتدائية كانت واسعة جداً، وكان لي فيها ذكريات جميلة ترتبط بمساحتها الكبيرة، خاصة حوش المدرسة، لكن عندما رجعت إلى مدرستي، بعد سنوات، لتقديم أوراق اخي الصغير للالتحاق بها، لاحظت أن المدرسة صغيرة وأن الحوش كان ضيقاً جداً حتى كدت أشعر بالاختناق.
وبنفس المنطق كنت أرى الشوارع والميادين ووسائل المواصلات، وحتى البشر أنفسهم، الذين كنت أتعامل معهم في طفولتي. ويمكن أن نلمس نفس الشعور إزاء الأعمال الفنية، وبخاصة الأفلام القديمة التي كنا نراها في الصغر، ثم نعود لنراها مرة أخرى في الكبر، ونتعجب كيف كنا نتفاعل ونتأثر عند مشاهدة هذه الأفلام، بالرغم من إمكانياتها المتواضعة جداً قياساً بما وصلت إليه صناعة السينما هذه الأيام.
ومن نفس المنطلق، توقفت عند بعض الظواهر التي بدت لي خارقة، في الصغر، على غير الحقيقة، مثل قيادة السيارات والدراجات البخارية والسباحة فوق الماء!
وعند هذه الأخيرة توقفت كثيراً، وأبهرتني مهارات القفز من أعلى والغوص في الماء، لكن ما أبهرني أكثر فكرة الطفو في حد ذاتها. فقد ظللت لسنوات طويلة ألعب، في المصايف كأي طفل، علي الشاطئ دون أن أملك جرأة النزول إلى الماء، وعندما كبُرت قليلاً وبدأت النزول في الماء كنت أقف بالقرب من الرمال وأحاول محاكاة الكبار الذين يجيدون السباحة والطفو بخفة فوق الماء، لكني بالرغم من ضحالة الأماكن التي كنت ألعب فيها كنت أسقط في كل مرة ويدخل الماء إلى أنفي وفمي في إشارة صارخة لعجزي عن الطفو.
فالطفو فوق الماء بدا لي، بنحو ما بدا لأنيس منصور في الألعاب الأوليمبية، كنوع من الميتافيزيقيا. والمسافة الفاصلة بين حالتي الطفو والسقوط صغيرة جداً، لكنها صعبة جداً وعصيّة على العبور بالنسبة للشخص الذي لا يعرف السباحة.
وبهذا المعنى، صار الطفو بالنسبة لي حلماً يُضاف إلى مجموعة أحلامي الطفولية الكبيرة والبريئة في آن. وفي غياب هذه المهارة كانت المحاكاة الهزلية هي البديل، فكنت أتظاهر بالسباحة من فوق سطح الماء بينما تقف قدماي على الرمل.
في مرحلة الصبا كسرت هذا الحاجز عندما اشتركت في مركز شباب الجزيرة، وتعلمت الطفو، فى دروس السباحة، على يدي مدرب خبير، وأدركت وقتها أن المسألة سهلة جداً، فقط كانت تنقصني شجاعة المبادرة. لكني لم أصبر على مرحلة “المبتدأ”، وانضممت الي الصبية في مرحلة “المتوسط” الذين كانوا يتدربون في منطقة في وسط الحمام أكثر عمقاً. وكان الخطأ الكبير الذي أدركته فيما بعد أني لم استكمل تدريبي في المبتدأ، ومن ثم لم أتعلم مهارة التنفس أثناء السباحة، وظللت أسبح في المتوسط عن طريق الطفو فقط ومن خلال نفس واحد أستنشقه واحتفظ بالهواء في صدري، قدر طاقتي، وعندما أعجز عن التنفس وأوشك على الاختناق أتوقف عن السباحة وأقف علي قدميّ.
ومنذ ذلك التاريخ تحددت علاقتي بالماء (في المصايف أو حمامات السباحة) إلى ما قبل “الغريق”. أي السباحة على أساس آمن من رمال الشاطئ أو سيراميك الأرضية في حمامات السباحة، اللذان يلامسان أقدامي كلما تعبتُ من الطفو وكاد أن يتوقف النفس.
في حمام المدينة الجامعية ابتكر أحد أصدقائي، الذي كان يعاني نفس مشكلتي، طريقة جيدة للطفو فوق سطح الماء الغريق دون خشية من الغرق، وهي السباحة بجوار الحائط، والإمساك بالماسورة الممتدة بطول الحائط، وهنا سوف يحملك الماء تلقائياً، ويمكنك بهذه الطريقة أن تتحرك بحرية جيئة وذهاباً، إلى أسفل وإلي أعلى، كأي سبّاح عالمي، على ألا تبتعد عن الحائط!
لقد أدركت مبكراً عظمة قانون الطفو، الذي اكتشفه أرشميدس، لكن مع تقدم العمر أدركت أن رمزية الطفو لا تقل عظمة.. فالحياة مثل البحر أو حمام السباحة، والناس يمكن تصنيفها بحسب درجة قدرتها على السباحة. فهناك الذين يعيشون كالموتى فتطفو جثثهم فوق السطح ويدفعهم التيار كيفما اتفق لأنهم لا يحتاجون إلى التنفس. وهناك من يجيدون الطفو دون التنفس، فيكافحون في الحياة لمسافات قصيرة، ولا يبرحون مكانهم الآمن، ويحتاجون في كل مرة إلى التوقف لالتقاط الأنفاس. وهناك من يسبحون بجوار الحائط، فيعيشون في الظل، لديهم القليل من الماء والهواء والكثير من الشعور بالطمأنينة، هؤلاء يوهمون أنفسهم بأنهم يسبحون في الغريق، بينما هم في الحقيقة لا يملكون سوي حرية التحرك رأسياً، من أعلي إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى، دون إمكانية الابتعاد عن الحائط. وهناك من يملكون روح المغامرة والرغبة في اكتشاف الجديد، فيعيشون بالقرب من الأخطار، لكنهم ما يلبثوا أن يهرعوا إلى الشاطئ كلما علت الأمواج واشتدت الريح. وهناك من يقضون العمر كأنهم في نزهة أو مصيف ممتع وهادئ، فيتجنبون الزحام وتقلبات الطقس، ويختارون أوقات الصباح الباكر أو الغروب، وهؤلاء لا ينزلون الماء كثيراً، لأن متعتهم الحقيقية في الجلوس على الشاطئ أو في التراس، مستمتعين بجو الطبيعة الساحر دون مخاطرة أو مجهود زائد. وهناك من يملك روح الشباب، فيهوي اللعب مع الأمواج، وأنه بهذه الروح يمكنه القفز فوق التحديات أو اقتحامها دون أن يخشى الغرق، لأنه يجد متعة كبيرة في الارتطام المثير بالموج، ومعانقة شلال الماء الذي يغمره. وبالرغم من براعة هؤلاء وأولئك في التكيف مع غدر الماء وثورات الأمواج، تظل الحياة الحقيقية والبطولة الحقيقية والسعادة الحقيقية لدي هؤلاء القادرين على الطفو والتنفس، والسباحة لمسافات طويلة… ضد التيار!

