د. ماهر عبد المحسن

كتبت هذه المجموعة منذ زمن بعيد، ونشرتها منذ عدة سنوات، لكني في النهاية ألقيت بها في فضاء الإنترنت كما يلقي الملاح التائه برسالة استغاثة في عرض البحر. ومن حسن حظي أن عثر  عليها الكاتب الكبير أحمد رجب شلتوت، فكان خير منقذ للرسالة ولكاتبها على السواء.
دراسة قيمة جدا وعميقة جدا حتى أنها تستحق دراسة مستقلة في حد ذاتها. فقد نجحت في الوصول إلى أعماق الكاتب وملامسة الكثير من همومه الحياتية والإبداعية وأزماته الوجودية مع الناس والعالم، وعبرت عن كل ذلك بلغة سلسة ومعبرة تتناسب وكاتب كبير بحجم سيادته.
المقال وسام على صدري، وشهادة سأعتز بها ما حييت.

المقال:

“الجانب البعيد من المنضدة”: كتابة تقف أمام مرآة الذات


أحمد رجب شلتوت

تتميز التجربة الأدبية للدكتور ماهر عبد المحسن بطابع تأملي وفلسفي واضح. وقد تجلي ذلك في مجموعتيه الشعريتين “فوبيا المشي على حبل الغسيل” و”ميتافيزيقا البانيو”، ثم في مجموعته القصصية “الجانب البعيد من المنضدة”، الصادرة عن مؤسسة رؤى للإبداع، القاهرة، 2021. وهو في مقدمة مجموعته يحرص على أن يقدّم نفسه بوصفه قارئًا متدرجًا في فهم فن القصة القصيرة، انتقل من الدهشة الأولى أمام كتابات محمد حافظ رجب ومحمد الراوي إلى وعي ناضج بمفهوم القصة بوصفها “لقطة”، و”مقطع عرضي من الحياة”، تأثر فيها بيوسف إدريس ومحمد المخزنجي، ثم بنزعة فلسفية تجريبية اتخذت من آلان روب غرييه و”الفينومينولوجيا” زادًا معرفيًا وجماليًا.

مفاتيح العالم الخفي
يقول الدكتور ماهر عبد المحسن بأن هدفه الأساسي هو لفت الانتباه إلى الدلالات العميقة التي تسكن الأشياء اليومية الصغيرة، تلك التي “يتجاوزها الوعي من فرط بساطتها”، لكنها في الحقيقة تشكّل “مفاتيح” للوعي، وتؤدي أدوارًا خفية في تشكيل المصائر الإنسانية، وتتجلى هذه الرؤية جماليًا في كثير من قصص المجموعة، حيث تغدو التفاصيل – التي تبدو هامشية في ظاهرها –جوهرا للحكاية. المقعد، المرآة، القبعة، الساعة، الحذاء، السجادة، الورقة الصغيرة، وحتى حركة بندول الساعة أو ثقب في الرأس، جميعها ليست زينة وصفية، بل علامات حاسمة في الكشف عن الذات والعالم. فالقصة عنده لا تنمو حول حدث كبير، بل حول انفعال داخلي يولّده تفصيل صغير، قد يكون ظلال ابتسامة أو غياب قبعة عن رأس رجل.
ويتحول الشيء اليومي في هذه القصص إلى نقطة انبثاق رمزية، تكشف الخلل الوجودي في العلاقة بين الإنسان ومحيطه. وبهذا، يحقق الكاتب ما يشبه إعادة اكتشاف العالم: الكتابة ليست استعراضًا لحوادث، بل إنصاتًا لما هو مهمل، مألوف، ومتروك خلف ستار العادة. في هذه التفاصيل، كما توحي قصص المجموعة، يكمن ما هو أهم من كل الأحداث الكبرى: يكمن المعنى نفسه..
مرآة باطنية
ليست “الجانب البعيد من المنضدة” مجموعة قصصية تقليدية، وإنما هي أشبه بمرآة باطنية تواجه فيها الذات نفسها، وتتفحص شقوقها، وتعيد قراءة تفاصيل الواقع اليومي من زوايا غير مألوفة. الكاتب ماهر عبد المحسن لا ينتمي إلى السرد التقريري، ولا يكتفي بالحكي عن وقائع أو شخصيات، بل يكتب من موقع المساءلة والقلق، ويقارب العالم عبر فلسفة الأشياء الصغيرة، والعلاقة المعقدة بين المرئي والمستور.
في مقدمته الطويلة والمركّبة، يكشف عن مسار تطوّره كقارئٍ وكاتبٍ للقصة، متحدثًا عن لحظات الحيرة الأولى، ثم عن وعيه بنظرية القصة القصيرة بوصفها لقطةً عابرة، ثم انتقاله إلى حس فلسفي تأثر فيه بأدب آلان روب-غرييه والفينومينولوجيا، حيث لا معنى ثابتًا للعالم، بل كل شيء يتشكّل لحظة التلقي.
جماليات التشكيل القصصي:
تتميز قصص المجموعة بلغة كثيفة، تميل إلى الاقتصاد الشديد والتكثيف المشهدي. لا يشرح الكاتب، بل يلمّح، ويقدّم عوالمه برهافة لغوية تستدعي قارئًا يقظًا. الجملة القصصية تمضي على حافة الشعر، خاصة حين يستدعي الكاتب ذاكرة الشخصية الداخلية، أو يدخل في وعي متشظٍّ كما في قصة “الرؤى الأربع”.
كذلك تنبني المجموعة على سرد غير خطي، متشظٍ، متقطع، يقاوم التسلسل التقليدي. في “ثقب في رأس إنشائي”، ينقلب السرد إلى مونولوج داخلي يعبّر عن وعي مأزوم، هش، يخشى السؤال، ويتحاشى الضوء. الزمن دائري، والشخصيات تتحرك في فراغ وجودي لا بداية له ولا نهاية.
وأيضا تنهض كثير من القصص على مفارقة داخلية: كأن تتصارع الجماعتان على دفن الميت في “الأحياء والأموات”، بينما الميت، كما يقترح الشيخ، “يعرف طريقه”. أو أن تُسلب الملامح من الشخصية في “سارقة الملامح”، ليكتشف البطل في النهاية أنه بلا ملامح أصلًا.

المنضدة والوجود
يتأمل ماهر عبد المحسن في المفردات اليومية: المنضدة، المقعد، المصباح، الساعة، النعش، لتتحوّل كلها إلى كيانات رمزية حاملة لأسئلة كبرى. إنها ليست أشياء تملأ الخلفية، بل هي شخوص بديلة، تحتل المشهد وتفرض منطقها الخاص. في هذا السياق، يبدو أن ما هو مألوف يتحول إلى كيان غريب.
وتعاني الشخصيات في معظم القصص من اضطراب الهوية، من الانفصال بين الأنا والآخر، من غربة داخلية. يتكرر استخدام المرآة، والظل، والثنائية بين الداخل والخارج. في “كل الأعضاء”، يُعذَّب الجسد كصدى لتعذيب داخلي أشد فتكًا: غربة الذات عن ذاتها.
ويبدو الواقع بوصفه عبثًا وجوديًا كما في قصة “الأحياء والأموات”، يتحول طقس دفن إلى صراع أهلي مضحك مبكٍ، يكشف عن حالة الانهيار الرمزي والاجتماعي، حيث يصبح الجثمان موضوعًا للتنازع الهوياتي، لا لمراسم الوداع والسكينة. هذا العبث يتكرر بصور رمزية أخرى في “قطار الزمن البعيد” أو “رجل بلا قبعة”.
رمزية الأشياء
يتقاطع عالم ماهر عبد المحسن مع إرث الكتابة الرمزية الحديثة، حيث يتخذ من التفاصيل اليومية أداة لتفكيك الكليّة الثقافية. الكرسي والمنضدة ليسا مجرد مفردتين للجلوس والعمل، بل بوصفهما شكلين من أشكال التراتب الاجتماعي، والوجود داخل حدود محكمة. النعش ليس فقط تابوت موت، بل حامل لهوية ممزقة، لا يعرف أصحابها أين يبدأ الحق وأين ينتهي الوهم، فالقصة عنده تقوم على التوتر الدائم: بين الواقعي والغرائبي، بين الحكي والتأمل، بين المفهوم والصورة. التراكيب السردية تميل إلى التجريب، لكن دون التفريط في الجمالية.
رؤية خاصة للعالم
نلحظ في قصص المجمعة حضورا قويا لمفهوم “الانكسار”، سواء كان انكسارًا فرديًا (كما في “ثقب في رأس إنشائي”) أو جماعيًا (كما في “الأحياء والأموات”). الأنا في قصص عبد المحسن محاطة بجدران مرئية وغير مرئية، والجسد ذاته يتحول إلى نص، كما نرى في “كل الأعضاء”، حيث العري والتعذيب يمثلان فقدان الكرامة والهوية معًا.
أيضا هناك انتقاد ضمني للسلوك الجمعي، وللادعاء الاجتماعي، وللأخلاق القسرية. مشهد “الدفن” الذي ينتهي ببصق، أو الرجل الذي يُحاكم لأنه أطلق رصاصة على “قبلة”، هي جميعها مشاهد رمزية تعكس تصدع المنظومة القيمية، واختلال موازين العقل والحق.
وأخيرا فإن هذه المجموعة لا تجدي معها القراءة العابرة، لأنها تجربة تقترح شكلاً جديدًا للقص، يزاوج بين التأمل الفلسفي والتجريب الفني، ويعمل على كشف هشاشة الكائن الإنساني في عالم تتداخل فيه الرموز بالواقعي، والعبثي بالوجودي.
إنّ “الجانب البعيد من المنضدة” ليست مجرد مجموعة قصصية بقدر ما هي مشروع تأملي فني، يجمع بين وعي فلسفي حاد وتجريب سردي واعٍ، يسعى إلى إعادة بناء العلاقة بين الذات والعالم، بين اللغة والواقع. ومما يُحسب للكاتب أنه لا ينزلق إلى الخطابية أو التقريرية رغم تشبّعه النظري، بل يوظف المفاهيم الفلسفية ببنية سردية حسّية نابضة بالحياة. ومع ذلك، قد تُشكل الحمولة الفكرية المكثفة في بعض المواضع عائقًا أمام القارئ العادي، الذي قد لا يتلقف بسهولة الرموز والطبقات التأويلية للنص،
ومع أن القصص تتفاوت من حيث الإحكام الفني، فإنها جميعًا تتقاطع على أرضية انشغال وجودي وإنساني عميق، ما يمنح المجموعة وحدتها الجمالية والدلالية.
كما أن قدرة الكاتب على تصوير اللامرئي والباطني بلغة مشهدية مفعمة بالإيحاء، تُعد من أبرز إنجازاته الفنية، وتضعه في مصاف كتّاب القصة القصيرة الذين لا يرضون بالجاهز والمألوف، بل يدفعون الشكل والمحتوى إلى أقصى تخوم التجريب والتكثيف والتأمل. فلم تقف المجموعة تقف عند تمثيل الواقع، بل سعت إلى تفكيكه وإعادة بنائه بوعي فلسفي وتجريب جمالي.
وهي – رغم تفاوت المستوى في بعض القصص – تقدم تجربة لافتة في القصة القصيرة المصرية المعاصرة، حيث ينزاح السرد عن البنية التقليدية، ويتحرر من ثقل الحدث الخارجي، ليتحول إلى مسرح داخلي تشتبك فيه الذات مع عالم غريب، غير يقيني، متشظٍ ومراوغ، فهي كتابة أمام مرآة الذات، حيث لا انعكاس ثابت، بل وجوه متعددة، تتهشم أحيانًا، وتتلألأ أحيانًا، لكنّها في كل الأحوال لا تكفّ عن مساءلة نفسها والعالم.


أضف تعليق