د. ماهر عبد المحسن
عندما أقرأ شيئا لإدوارد سعيد أو حسن حنفي أو الجابري او أركون أو لأي من مفكرينا العرب الكبار، اتساءل دوما.. لماذا لا يستطيع أبناء جيلي أن يقدموا شيئا على نفس هذا المستوى من الكثافة والعمق ؟!.
سؤال أطرحه على أبناء جيلي، وأطرحه على نفسي من قبلهم.. وعندما فكرت في الإجابة اكتشفت أننا لا نعيش في نفس المناخ الذي توفر لكل هؤلاء . فليس هناك نقص في الكغاءة أو عجز في المقدرة، ولكن ليس هناك مناخ صحي ومعيشي مناسب. وأذكر أنى سبق وأن كتبت منشورا من هذا المكان قلت فيه: لو توافرت لي نصف الظروف التي توافرت لماركس أو كانط أو نيتشه لقدمت إبداعا فكريا لا يقل عن إبداعهم. فكيف ذلك ؟!
في الحقيقة أن الباحث العربي في هذه الأيام يواجه بمجموعة من الإكراهات التي من شأنها أن تثنيه عن الإبداع الحقيقي وابتكار المميز والمختلف، ونظره سريعة للأسباب التي تدفع الباحث للكتابة يمكنها أن تضعنا في قلب الحقيقة المرة والمؤلمة. فقبل أن يحصل الباحث على الدكتوراة يظل طوال الوقت يقرأ ويكتب فقط من أجل الحصول على الدرجة العلمية، وبعد الحصول عليها تأتي مرحلة العرفان بالجميل وسداد الدين، فيجد نفسه مضطرا للكتابة عن أساتذته الذين تعلم على أيديهم وكان لهم الفضل في حصوله على الدرجة، ثم تبدا المرحلة العملية إذا كان الباحث معينا بالجامعة، وهنا يخصص كل جهده لإنجاز بحوث الترقية في أسرع وقت، وهى بحوث ذات مواصفات جاهزه تناسب الاكاديمية ولا تتماس مع الواقع في شىء ، وهنا يؤجل الباحث دوره التنويري والتثقيفي لحين الوصول إلى درجة الأستاذية. وبعد أن يفرغ من ذلك يحاول إثبات ذاته ويعبر عن أفكاره غير أنه لا يجد سوى طريق المشاركة في الندوات والمؤتمرات والنشر فى الدوريات المتخصصة، وكلها لديها سياساتها الفكرية الخاصة وموضوعاتها التي تخدم توجهاتها هي لا توجهات الباحث، وهنا يضطر الباحث مرغما إلى تطويع أفكاره وأدواته البحثية لخدمة أغراض المؤسسة التي يرغب في النشر من خلالها، والنتيجة تأتي فى الغالب على حساب الإبداع الحقيقى الذي ينبغي أن يكون استجابة لهم شخصي أو اهتمام عام يشغل الباحث وينبع من ذاته، لأن الكتابة هنا تدور في سياق ما يمكن تسميته ب “كتابة المناسبات” أو “الكتابة بالمناسبة”.
وفي مرحلة أخرى بعد أن تضيق الظروف الحياتية بالباحث ويكون مسئولا عن أسرة وأولاد، تبدأ مرحلة “الارتزاق” أو “الكتابة لسد الرمق”، فيبحث الباحث لا عن فكرة جديدة، ولكن عن مصدر جديد للحصول على المقابل المادي، فتتوجه جهوده للبحث عن الجهة التى تنشر بمقابل مالي، وكلما كان هذا المقابل أكبر كلما كانت الجهة التى تمنح هذا المقابل هى الاولى بجهود الباحث و ولائه لها. والحقيقة أنها أسوأ مرحلة يمر بها الباحث لأنه يتاجر بعلمه ويخون رسالته الحقيقية فى الإبداع والتنوير.
وأخيرا تأتي مرحلة الكبر، حيث يكتشف الباحث أن العمر قد تسرب من بين يديه دون أن يحقق شيئا مما كان يصبو إليه في شبابه، فلا يملك إلا أن يعمل على جمع أبحاثه ومقالاته المتفرقة هنا وهناك، والتى كتبها لأسباب فرضت عليه ذات يوم، ويحاول اعادة طبعها بين دفتي كتاب أو أكثر ليقف مزهوا بين الناس مدعيا انه لا يقل عن إدوارد سعيد أو حسن حنفى أو الجابرى او أركون لولا الظروف!!

