د. ماهر عبد المحسن

بينما كنت جالسا في مكتبي في المصلحة الحكومية التي أعمل بها مديرا لإحدى الإدارات القانونية، دخل عليّ أحد الزملاء راغبا في أن يشرب معي شاي الصباح. وبينما كان يشرب الشاي وهو جالس أمام مكتبي شعر بشيء من البرودة يتسلل إليه عبر النافذة المفتوحة في مواجهته، فقام بغلق النافذة وهو يسألني عما إذا كنت أشعر بالبرودة أيضا، فرددت بالإيجاب، فتعجب زميلي، وسألني مرة أخرى: ولماذا إذن لم تغلق النافذة ؟!. قلت له: إن الزملاء هم الذين فتحوا النافذة، وإنهم ربما لا يشعرون بالبرودة مثلي.
تعجب زميلي أكثر، وقال: لكنك المدير، وكلمتك هي التي ينبغي أن تُنفذ. ضحكت، وقلت له: إن المسألة أبسط من ذلك بكثير، وأنا متعمد أن أترك للزملاء حرية فتح النافذة أو غلقها.
رشف زميلي رشفة من كوب الشاي، ثم قال لي بروح الناصح الأمين: أعلم أنك شخصية مسالمة ومتصالحة مع نفسها ومع الناس، وأنك لا تريد التورط في صراعات يومية مبتذلة حتى لا تخسر الآخرين، ولكي لا تفقد احترامك لنفسك. لكني أقول لك إن موقفك الزاهد من أمور الحياة التي تبدو تافهة من شأنه أن يضعف سلطتك أمام مرؤوسيك، وتفقد كثيرا من سطوتك. فربما تكون من داخلك قويا وذا شأن، لكن ذلك لا يكفي لردع الآخرين وجعلهم يعملون لك ألف حساب. إنك تحتاج إلى أن تكشر عن أنيابك من آن لآخر حتى تكسب الاحترام الذي تستحقه أمام الناس، ولو كان السبيل إلى ذلك افتعال الأزمات، أو غلق نافذة يريد الآخرون أن يفتحوها!
لم أستطع أن احتفظ بملائكيتي كثيرا أمام منطق زميلي الذي لا يخلو من وجاهة، خاصة أني كنت أعاني من الشعور بالبرودة طوال الوقت. لذلك وجدتني أعيد التفكير فيما قاله الزميل عندما عدت إلى المنزل، وأنقل لزوجتي ما دار بيننا من حوار.
وكان لزوجتي رأي آخر، فقالت لي: إني عهدتك إنسانا طيبا، وأن الطيبة لا تعني الضعف، بل على العكس، يجد الكثيرون من الناس صعوبة في أن يكونوا ذلك الشخص الطيب الذي ينأى بنفسه عن الصراعات اليومية الصغيرة، ويعمل طوال الوقت على أن يكون متسامحا مع الآخرين. وأضافت وهي تعد لي طعام الغداء: ربما كان كلام زميلك صحيحا فيما يتعلق بالأمور الإدارية، خاصة تلك التي تحتاج إلى قرار وإلى حسم، وأهم تلك القرارات ما كان من شأنه أن يحقق العدل بين الزملاء، أما الأمور الشخصية التي تخصك وحدك، مثل شعورك بالبرودة، فيمكنك أن تتسامح فيها وتترك للآخرين، كما فعلت، حرية فتح النافذة إذا لم يشعروا بالبرودة نفسها.
أعجبتني حكمة زميلي، وأعجبتني حكمة زوجتي أكثر، لكن كان لي حكمتي الخاصة. إن أمور الحياة بعامة تحتاج إلى الشدة كما تحتاج إلى اللين. ومن الطبيعي أن يميل البعض إلى الشدة ويميل البعض الآخر إلى اللين، لكن التحدي الأكبر يكون دائما في أن تكون لينا، لأن حجم التضحيات يكون غالبا أكثر، ليس هذا فحسب، لكن أن تكون لينا في كل الأحوال، فيما يخصك وما يخص الآخرين، دون أن يتعارض ذلك مع عدالتك التي ينبغي أن تسود كافة العلاقات.
ربما بدت المعادلة صعبة، لكن تحقيقها ليس مستحيلا، فقط تحتاج إلى رؤية كلية للعالم، وإلى قدرة على الاستغناء كبيرة. والرؤية الكلية تجد مصدرها في أهداف بعيدة نسعى إليها تكون أبعد من حاجاتنا المباشرة وصراعاتنا الصغيرة، والقدرة على الاستغناء تأتى من المران وتدريب أنفسنا على فن التمتع بالحياة بحيث تكون سعادتنا وبهجتنا مرتبطة بكل ما هو بسيط وقليل وليس محلا للصراع بين الناس.


أضف تعليق