د. ماهر عبد المحسن


الحديث عن علاقة الفلسفة بالحياة اليومية يحتل أهمية خاصة في ظل عالم مضطرب، مليء بالغموض والتعقيد، والفوضى التي تصل، في كثير من الأحيان، إلى درجة العبث. وربما كان من مظاهر هذا العبث نفسه وضع الفلسفة ذاتها في موضع الشك والتساؤل عن مدى جدواها وأهميتها في هذا العالم!
والحقيقة التي لا فكاك منها أن للفلسفة أزمتها الخاصة وإشكالياتها التي تختلف عن أزمة العالم وإشكالياته، بحيث يبدوان على طرفي نقيض. فكيف يمكن أن يلتقي الطرفان النقيضان؟! بعبارة أوضح، كيف يمكن للفلسفة أن تلعب دورا في حل أزمة العالم، التي هي أزمة الإنسان في الأساس؟ وبعبارة أبسط يمكن أن نتساءل عن جدوى الفلسفة للإنسان بعامة، وللإنسان العادي بنحو خاص؟
في البداية ينبغي أن نعترف بأن الحديث عن راهنية الفلسفة، والفلسفة والحياة، والفلسفة واليومي، كلها عناوين تأتي في سياقات عصرية أشبه بالموضة الفكرية كما حدث في السابق تجاه الاتجاهات الوجودية والبنيوية والتفكيكية. وكلها اتجاهات لا يمكن أن ننكر أهميتها والدور المحوري الذي لعبته، وما زالت، في تشكيل الوعي الثقافي والاجتماعي والسياسي للإنسان، لأنها، في التحليل الأخير، كانت وليدة لحظات تاريخية لها خصوصيتها، وقدرة الفكرة على تجاوز لحظتها هي التي تضمن لها الفاعلية والاستمرار في الزمان.
وفي هذا السياق، يمكننا القول إن أحد الأسباب المهمة في أزمة الفلسفة هو اهتمامها بالقضايا المتعالية ذات الأبعاد الميتافيزيقية، التي تضع مسافة بينها وبين الإنسان غير المتخصص، ساعد على ذلك اللغة المفاهيمية التي تغلب على الكتابة الفلسفية، والحرص على مراعاة القواعد المنهجية الأكاديمية الجافة. فما ينقص الفلسفة، في عصرنا الراهن، هو الخروج إلى الناس، والتعاطي مع مفردات الحياة اليومية.
كانت هذه قناعاتنا منذ سنوات بعيدة، وقد ظلت ملازمة لنا كمشروع كبير نطمح في تحقيقه مهما كبدنا من وقت ومن جهد. وكانت رحلة بحث طويلة تراوحت ما بين القراءة والكتابة في الثقافتين العربية والغربية بحثا عن اليومي في الفلسفة، وعن الفلسفة في اليومي. ربما لم تكن الثمار كثيرة، لكن كانت خصوبة التجربة هي النتاج الجدير بالتأمل. فقد وقف أمامنا سؤالان يحتاجان إلى إجابة حتى يمكننا صياغة شكل من أشكال التفلسف يناسب الرجل العادي ويملك القدرة، والشجاعة، على اقتحام تفاصيل حياتية صغيرة درجت الفلسفة التقليدية، الأكاديمية، على تجاهلها والنظر إليها من فوق بنحو متعال!
أما عن السؤالين، فهما:
كيف يمكن كتابة فلسفة بلغة تناسب العامة؟ وكيف يمكن إخضاع القضايا اليومية الصغرى إلى أطر فلسفية مستمدة من الأنساق الكبرى؟ أو بعبارة سارتر: كيف يمكننا أن نتفلسف حول قدح من القهوة؟!
الإجابة لم تكن عسيرة، فقد عثرت على الأولى لدى زكي نجيب محمود الذي اعتمد في لغته الفلسفية على الصورة الأدبية، ولدى حسين على الذي اعتمد على التراث الشعبي من الأمثال والأغاني. وعثرت على الأخرى لدى محمود رجب الذي كتب مؤلفا كبيرا حول المرآة، ولدى برتراند راسل الذي كتب عن الكسل، وهنري برجسون الذي كتب عن الضحك، ورولان بارت الذي كتب عن الموضة والأكل والرياضة ومساحيق الغسيل.
إن مصطلح “اليومي” صار له حضور قوي في الكتابات الأكثر معاصرة، خاصة في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي ساعدت على الكتابة الموجزة المكثفة، التي تملك القدرة على التعبير عن الراهن، بحيث لم تعد هناك مسافة كبيرة بين الحدث والتعبير عنه فلسفيا. وفي هذا السياق ظهرت كتابات سلافوي جيجك وجوليان باجيني وآلان دو بوتون. كما ظهرت مدونات تعزز الاتجاه نحو اليومي بجرأة لم تعهدها الفلسفة من قبل، مثل: “الفلسفة بالمناسبة” Philosophy by the way  ” فلسفة الحياة” Philosophy of life   “الفلسفة تيك أواي” Philosophy take a way  ومدونة كاتب هذه السطور “فيلسوف الحياة اليومية”  Philosopher of everyday life.
غير أن الملاحظ أن الأكاديمية لم تقف مكتوفة الأيدي، فحاولت أن تستفيد من الاتجاه العام نحو اليومي، وبدأت تدلي بدلوها المنهجي الدقيق في هذا الميدان الجديد تحت مسميات عدة مثل: الفلسفة العامة Public philosophy,  جماليات الحياة اليومية Aesthetics of everyday life,  أخلاقيات الحياة اليومية  Ethics of everyday life
كما صدرت دوريات أكاديمية متخصصة في هذا المجال مثل مجلة فلسفة الرياضة Journal of the Philosophy of Sport وكتب مثل فلسفة كرة القدم The Philosophy of Football  لستيفن بورجSteffen Borge  .
ومن جماع ما تقدم تشكلت لدينا صورة محددة لفلسفة الحياة اليومية، تناسب قناعاتنا تجاه الدور اليومي الذي ينبغي أن تقوم به الفلسفة في عالمنا المعاصر. ومن خلال هذه الصورة كتبنا مجموعة كبيرة من المقالات، التي تراوحت ما بين القصيرة وجمعناها في كتاب “ميكرو صوفيا” والمتوسطة وجمعناها في كتاب “ميني فيلوسوفي”، والطويلة وجمعناها في كتاب تحت الطبع اخترنا له عنوان “الفلسفة في زمن التيك توك”. ومن خلال هذه الكتابات رصدنا حركة الفلسفة عندما تتغلغل في حياتنا اليومية لنضبطها متلبسة وهي تدخل مطابخنا وغرف نومنا وتشاركنا مقعدنا العزيز، الذي حصلنا عليه بالقوة بعد صراع مرير في باص مزدحم بالركاب!


أضف تعليق