د. ماهر عبد المحسن
في أحد الأيام نزلت مع ابني الكبير من العمارة التي أسكن بها لأداء صلاة الجمعة، وكان المسجد أسفل العمارة المقابلة مباشرة. ولأن تجمع المصلين يكون أكثر في صلاة الجمعة، فقد اعتاد العاملون بالمسجد على فرش عدد من الحصر في الشارع بين العمارتين، ما من شأنه أن يسد الطريق أمام العابرين وقت الصلاة.
ونظرا لبعض الظروف الطارئة تأخرت في النزول إلى الصلاة، وكان الإمام في الركعة الثانية، وعندما حاولت الدخول إلى المسجد لم استطع من فرط الزحام، وعندما حاولت الصلاة في الخارج لم أجد مكانا خاليا، ولم يكن أمامي، أنا وابني وساكن ثالث بالعمارة، سوى أن نصلي في حيز صغير على الحصيرة أمام المصلين، غير أننا لم نلحق حتى الركعة الأخيرة من بدايتها!
وعندما انتهى الإمام من الصلاة، قمنا لاستكمال ما فاتنا من الركعات، في الوقت الذي بدأ فيه المصلون يلملمون الحصر، عدا الحصيرة التي نصلي عليها، ويغادرون المكان. وفي هذه اللحظة خرجت امرأة من العمارة التي تحتها المسجد، وهي تصيح بعلو صوتها منددة بموقفنا غير الملتزم تجاه صلاة الجمعة، ومعبرة بنفس حدة الصوت عن استيائها من نزولنا المتأخر للصلاة مما فوت علينا الخطبة وركعتي الجمعة، وتساءلت بتهكم كيف يمكن أن يبارك لنا الله في حياتنا ونحن بهذه الحال من عدم الالتزام، في إشارة إلى تردي الأوضاع في المجتمع.
حدث ذلك أثناء أدائنا للصلاة، وبعدها اقترب مني الشيخ الإمام ناصحا إيانا بالنزول المبكر لصلاة الجمعة خاصة أننا نسكن بالقرب من المسجد. فعل ذلك تجاوبا مع المرأة التي عبّرت عن غيرتها الظاهرة على الدين بالصوت العالي وسط الرجال المصلين!
والحقيقة أني لم أكن حريصا على الرد، على المرأة أو الشيخ، فهززت رأسي بالموافقة وانصرفت من أمام الشيخ وأنا عاقد العزم على ألا أتأخر في النزول إلى الصلاة في المرات القادمة. فالمكابرة لن تفيد، وفي الأخير، لا يصح إلا الصحيح. لكن إلى أي مدى كان سلوك المرأة صحيحا؟ وإلى أي مدى كان سلوك الإمام كذلك؟
لقد تجاوزت المرأة تعاليم الدين الإسلامي التي تدافع عنها، عندما عبّرت عن موقفها بالصوت العالي، وصوت المرأة عورة خاصة إذا كان عاليا وعلى مسمع من الرجال. ربما لا يكون الصوت هنا مدعاة للغواية، لأنه لا يعكس خضوعا بالقول يؤدي إلى أن يطمع الذي في قلبه مرض، خاصة أن المستمعين، جميعهم، من المصلين، والمقام مقام عبادة لا مقام معاملة. غير أن آداب الحوار أو التعبير عن الرأي تستوجب خفض الصوت والدعوة بالحسنى حتى بالنسبة للرجال لا النساء فحسب.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فالموقف ليس موقف دعوة أو إصلاح، لكنه بالأحرى موقف نصح، لأنه يراد به تصويب نمط من السلوك يحتاج إلى مراجعة، وهو الذهاب إلى صلاة الجمعة متأخرا، بعد الخطبة، ودخول الإمام في الصلاة. والواقع أنه نصح يتوجب على الإمام لا المرأة العابرة للطريق مصادفة. وبهذا المعنى يمكننا القول إن المرأة عمدت إلى أن تقوم بغير دورها، لذلك لم تكن موفقة في الطريقة التي قدمت بها النصح، لأنه جاء في شكل صرخة احتجاج على الأوضاع المتردية بعامة، بعد أن اختزلتها في السلوك غير الملتزم لبعض المصلين. إن حقيقة الموقف تكمن في كون المرأة كانت منفعلة، وأرادت أن تمر من الشارع غير أن المصلين المتأخرين في الصلاة منعوها من ذلك. فالموقف برمته انفعالي شخصي يعكس أزمة داخلية للمرأة أو كبتا وجد فرصته في الخروج في موقف المصلين المستفز من وجهة نظرها! والموقف يتكرر كثيرا في المجتمعات التي يعاني فيها الأفراد من الضغوط المتزايدة طوال الوقت، فلا تجد الذات من حيلة لمواجهة هذه الضغوط سوى خلط الموقف الشخصي بالموقف العام لتتحول الأزمة الخاصة إلى قضية عامة. وهي حيلة ذكية تمنح الفرد المشروعية كي يعبّر عن معاناته الذاتية بأساليب لا يلتزم فيها بآداب الاحتجاج. ليس هذا فحسب، بل إنه يكسب تعاطف الآخرين مع القضية العامة، التي هي قضيته الشخصية في التحليل الأخير!
وهذا يفسر لنا سلوك الشيخ الإمام عندما تقدم إلينا بالنصح، لأنه أحس أنه، كإمام للصلاة، ينبغي عليه أن يكون هو المدافع عن الدين، الغيور على الالتزام بتعاليمه. والإمام لم يخلط الأوراق كما فعلت المرأة، لكنه استجاب لموقفها الانفعالي، لأنه تذكر فجأة أنه صاحب النصح في هذا المقام، وعليه أن يقوم بدور ما، ولو على استحياء، خلافا لما فعلت المرأة عندما تصرفت بجرأة لا تتناسب وطبيعة الموقف التي كانت تتطلب حوارا أكثر هدوءا وعقلانية.
وفي التحليل الأعمق، نجد أننا إزاء نوعين من السلطة اجتمعا في غيبة العقل: سلطة المنصب الديني وسلطة العاطفة النسائية، فكلاهما عبّر عن نفسه دون روية، ودون تأمل في روح الدين التي راعت الظروف الإنسانية المحيطة بالعباد. فالعبادة علاقة روحية بين العبد وربه، لكنها مرتبطة بظروف المكان والزمان، لذلك أباح الله للمريض والمسافر أن يفطرا في نهار رمضان، كما رفع عن الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. ومن هذا المنطلق جاء الدين، في تعاليمه، بنحو يرفع عن الناس الحرج، فمن نام عن صلاه أو نسيها فكفارتها أن يقضيها عند تذكرها، ومن فاتته صلاة الجمعة، مضطرا، فله أن يصليها ظهرا، أي أربع ركعات.
وبهذا المعنى، أجدني نزلت إلى الصلاة في سكينة رغم تأخري، لأني كنت محاطا بسماحة الدين، وعدت إلى منزلي، رغم قضائي للصلاة، مهموما مكدرا، لأني أديت صلاتي محاطا بغلظة البشر!

