د. ماهر عبد المحسن

لا يمكنني أن افصل المواد التي تقدمها إذاعة مترو الانفاق عن سياسة الدولة، لذلك يحلو لي البحث عن رسائل ربما تكون مضمرة في الاغاني
والفقرات الصوتية التي تقدمها هذه الإذاعة. والمسألة ليست دائما خيالا محضا أمارسه في سياق موقف متعنت من النظام الحاكم، فقد نجحت أكثر من مرة في الإمساك بشيء من الدلالة التي تقف وراءها.
لكني مؤخرا لاحظت أن الإذاعة تقدم لحنا راقصا، لا يملك المواطن أمامه سوى أن يهتز استجابة لهذا الإيقاع الراقص. وبالرغم من أن الناس لم تكن تمارس الرقص فعليا، لكن شيئا ما راقصا كان يتحرك بداخلهم، ويدفعهم لهذه الحركة الفطرية. حاول البعض أن يكبت هذا الشعور ويكون أكثر تماسكا، فتصرف بنحو افتعالي عمل على أن يبدو من خلاله أكثر صلابة، والبعض الآخر كان أكثر مرونة وربما ذكاء، وأحسبني منهم، فاختار أن يستخدم طاقة اللحن الإيقاعية الراقصة في القفز فوق درجات السلم بنحو يبدو طبيعيا، وإن كان يضمر استجابة فطرية للإيقاع الراقص.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا يجد الإنسان نفسه، في بعض الأحيان، مرغما على الرقص؟ وكيف يمكن للرقص أن يكون تعبيرا عن غير مشاعر الفرح ؟ في الحقيقة أن الرقص تعبير جسدي مهم جدا، لأنه يشمل طاقة الجسم كله، ولأنه بهذا المعنى صار قادرا على تلبية أغراض أخرى كثيرة لا ترتبط بالاحتفالات السارة فحسب، لكن أيضا أغراضا إنسانية أكثر تعقيداً. فالرقص فد يكون وسيلة للمقاومة، أو تعبيرا عن الاحتجاج، أو يكون انعكاسا لموقف وجودي يثبت به الإنسان ذاته في مواجهة العالم. وفي هذا السياق عرفنا “رقصة الوداع” و “رقصة الموت”.
ويمكن أن نعثر على الرقص كتعبير عن المقاومة في أغنية “علّي صوتك” التي غناها محمد منير في فيلم المصير وتقول كلماتها:
” ترقص؟ أرقص غصب عني أرقص

ولا انهزام ولا انكسار
ولا خوف ولا حلم نابت في الخلا 
علّي صوتك بالغنا
لسه الأغاني ممكنة “
ونجد الرقص القسري كتعبير عن المقاومة وقبول التحدي سائدا في السينما الهندية. ولعل أشهرها الرقصة التي أدتها هيما ماليني فوق شظايا الزجاج في فيلم “الشعلة”، وتلك التي أدتها ميناكشي شيشادري تحت وقع السياط في فيلم “جانجا، جاموني، ساراسوتي”. وفي كلتا الرقصتين نجد البنية الدرامية للمشهد واحدة. فهناك ضحية ترقص مرغمة، وهناك جلاد يدفعها للرقص كلما توقفت، عن طريق إيلامها (مرة بالزجاج ومرة بالسوط)، وهناك جمهور يشاهد الرقصة (أفراد العصابة في الفيلم الأول، والفلاحين المنتمين لمالك القرية الظالم في الأخير)، ويتلذذ بإيلام الضحية، وأخيرا هناك البطل المخلص (اميتاب باتشان غالبا) الذي يظهر في اللحظات الأخيرة قبل موت الراقصة!
وإذا كان الإنسان المقهور، كما تصوره السينما الهندية، يمكنه أن يتحمل الألم في سبيل مواصلة الرقص كشكل من أشكال المقاومة، تمهيدا للحظة قادمة سيتحقق فيها الخلاص، فإن أغنية كاظم الساهر العاطفية “المستبدة” تعكس لنا حالة خاصة من القهر، يمكن من خلالها أن يحوّل المقهور معاناته إلى إيقاع راقص عندما يقول: “صبرا يا عمري لن تريي دمعا يسيل.. سترين معنى الصبر في جسدي النحيل.. فتفرجي هذا المساء رقصي الجميل”!
وأهم ما يميز هذه الأغنية أنها تجسّد حرص الراقص المقهور على أن يؤدي رقصته على مرأى ومسمع من المستبد الذي تسبب في معاناته، لأنه بهذه المثابة إنما يثبت لنفسه وللعالم أنه مازال قادرا على الفرحة، وهي خط دفاعه الأخير ضد الظلم، أو قل ضد الموت نفسه!


أضف تعليق