د. ماهر عبد المحسن

فى تجربة جديدة، تحت عنوان “أجازة بابا”، يقدم لنا الكاتب المسرحى والروائي الكبير السيد حافظ  ثلاث مسرحيات قصيرة، تنتمى إلى نوعية المونودراما: ”إكسبريسو”، ”الخادمة والعجوز”،“أجازة بابا”. والمونودراما هى أحد الفنون الدرامية، وشكل من أشكال المسرح التجريبى، يعتمد على ممثل واحد يسرد الحدث عن طريق الحوار، ويقع على عاتقه عبء توصيل رسالة المسرحية عبر مشهد واحد طويل.
والمونودراما هنا لا يمكن النظر إليها إلا فى سياق مشروع السيد حافظ التجريبى الكبير. فهى بمثابة رحلة طويلة امتدت عبر نصف قرن من الزمان. بدأها حافظ  عام 1968 بمسرحية ”كبرياء التفاهة فى بلاد اللامعنى” تحت إسم مستعار ”أوزوريس” حتى وصلت، ولا نقول انتهت،  إلى تكريمه فى حفل افتتاح مهرجان المسرح المصرى فى دورته الثانية عشرة كأحد رواد المسرح المصرى الكبار. وهى مسألة ذات دلالة أن يبدأ رحلته فى الخفاء (باسم مستعار) ثم يصل إلى هذا الاعتراف العلنى الكبير،  من المؤسسة الرسمية، بريادته وعبقريته التى أساء فهمها الكثيرون فى البداية. وبين محطة الانطلاق ومحطة الوصول منح حافظ نفسه كامل الحرية فى التحرك،  بحيث مارس كل ألوان الكتابة الأدبية، دون أدنى تحفظ، فكتب المسرحية والرواية والمسرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً. وبلغ فى حرية التحرك الإبداعى أقصى مدى، حتى أن كثيراً من أعماله كانت تستعصى على التصنيف. ليس هذا فحسب، بل كان السيد حافظ نفسه عصياً على التصنيف، وكما اختلف النقاد، خلال مسيرته الإبداعية، حول أعماله، اختلفوا أيضاً حول شخصيته.
ومن خلال القسم المخصص للآراء والدراسات من هذا الكتاب يمكننا أن نضع أيدينا على نقاط الاتفاق والاختلاف، التى بين النقاد، حول أعمال السيد حافظ من ناحية، وحول الشخصية الإبداعية للسيد حافظ نفسه من ناحية أخرى. وفى هذا السياق يقول د.عقيل مهدى عن أسلوب السيد حافظ فى إبداع نصوصه:”هنا يبدع السيد حافظ استراتيجية نصية، درامية، ليس غرضه سرد كلمات وجمل ومقاطع، بل معالجة الحكاية بحضور جمالي للصوت المطرز بالموال والأغنية والشعر والجناسات والمفارقات، حتى لا يُقفل المعنى على اتجاه خطي، وأحادي، للموروثات من الحكايا والقصص والأخبار، التي تتوفر عليها ذاكرة الشعب، أو المخزونة بكتب المؤرخين التي غالبًا ما يجرى أسطرتها، وتجريدها، وتثبيتها في أفق أعلى من أحاسيس الناس وأفكارهم”.  وعن مسرحية ”بوابة الميناء” تحدثنا د. حنان حطاب قائلة:  تشتغل مسرحية “بوابة الميناء” على ركيزة أساسية مبناها اجتماعي سياسي، حيث تسعى من خلال شخصياتها إلى طرق مواضيع اجتماعية و أحداث سياسية في قالب ساخر، لا يبتعد عن مرارة الواقع وسوداوية التراجيديا. إذ تعرض المسرحية صراع أهل البلدة والتناقض الفكري و الاجتماعي الذي يحيونه في ظل نظام العمدة، لتقف من خلال أحداثها ومشاهدها إلى الحل النهائي والحتمي والوحيد لهذه البلدة”.
ويلاحظ من الكلمات السابقة أن التجريب عند حافظ ليس استغراقاً فى الشكل على حساب المضمون، على نحو ما يفهمه الكثيرون خطأً، لكن يظل للقضية الاجتماعية والصراع السياسى والمعنى الإنسانى الصدارة. وهذا ما لخصه أ. سعيد فرحات فى كلمات معبرة عندما قال: ”والهدف الأساسي عند الكاتب ليس المسرح في حد ذاته ـ ليس الصيغة الفنية علي أي شكل من الأشكال، ولكنه الكلمة والمضمون، إنه يمتلئ بمضمون ما، ثم يصبه في قالب فني ، ومضامينه ذات صبغة إنسانية عامة، وتلمس في عمله الواحد كل ركائز التكوين الاجتماعى”.
وفى المقابل يرفض عبد الفتاح البارودى ما قدمه السيد حافظ على أنه فن تجريبى،لأنه مليئ بالألغاز واللوغاريتمات غير المفهومة، وهو ما يتعارض مع تقاليد المسرح العالمى، قديمه وحديثه، ولا يتناسب مع سلسلة المسرح الجماهيرى التى نشر حافظ مسرحياته من خلالها، فيقول البارودى: ”أمامى كتاب فيه مسرحيتان قصيرتان من تأليف مؤلف من الجيل الجديد إسمه أوزوريس،  وأنا اتمنى تشجيع المؤلفين الجدد ، ولكني لم أفهم من المسرحيتين شيئاً!! الأولى إسمها ” الطبول الخرساء فى الأودية الزرقاء” وهي شديدة الغرابة ، والثانية أشد منها إغراباً ، ويكفي أن أذكر أسمها “حدث كما حدث ولكن لم يحدث أي حدث” .. وربما يكون عدم فهمي لهما راجعاً إلى أنهما تنتميان – حسب ما نشر في الكتاب نفسه – إلى المسرح التجريبي، ولكن هل معنى التجريب عدم الوضوح إطلاقاً ؟“.
وحول شخصية السيد حافظ يقول على شلش: ” إنه شاب جريء جداً ، وطموح جداً ، حطم بطموحه وجرأته قواعد المسرح من أرسطو إل بريخت! ”. وعن نفس المعنى يحدثنا عبد العال الحمامصي عن السيد حافظ قائلاً: ” ومن هنا ينطلق هذا الكاتب الشاب “أوزوريس” بحماسته المتأججة.. ووطنيته المتدفقة.. وتوقه الملتهب كي يعطي لمصر شيئاً.. وربما تدفعه حماسته الملتهبة .. وكذلك حبه إلى جموح في الاندفاع وراء التجارب المسرحية الجديدة بدون أن يحقق التوازن بين طموحه وبين مناخ التربة”.
ويبدو أن التخفيف من غلواء التجريب والتغريب مطلباً عاماً وملحّاً لدى نقاد حافظ فيقول كمال النجمى بنبرة تهكمية: ”مع ذلك أقول أن السيد حافظ موهبة مسرحية ، لا ينقصها إلا أن تخفف قليلاً من إعجابها بالإبر والفانلات والدوائر والمثلثات والمكيروفونات!..”
غير أن البعض يحاول أن يضع تفسيراً لهذا الاندفاع والجموح الذى يسم شخصية السيد حافظ،، فيقول عبد الله هاشم: ”على أنه كاتب طليعي يرفض بإرادة عنيدة متمردة أن يكون مقلداً لغيره،  فهو يأبى التقيد في مسرحياته بالقالب الواحد يصب فيه مسرحيته،  كما يضع الكاتب الكلاسيكي أو الطبيعي أو الواقعي، بل هو يؤثر التنقل في المسرحية الواحدة بين الأجواء المختلفة لتحلق بنا وراء الحدود المألوفة لما اتفقنا أن نسميه الواقع لتغلب العقل الباطني علي سمات العقل الواعي”.
وفى كل الأحوال، فإن الجدل الذى أثير حول مسرح السيد حافظ وشخصيته الإبداعية، إنما يعنى أننا أمام حالة فنية وإنسانية تملك من الخصوبة والثراء ما يستفز فى الملتقى، المشاهد العادى أو الناقد المتمرس، ملكة التأمل والتفكير. وهى الملكة التى ينبغى على الملتقى أن يشحذها قبل الدخول إلى عالم مونودراما حافظ، لأنه جزء لا يتجزأ من تجريبيته المسرحية ذات التاريخ الطويل والممتد لأكثر من نصف قرن.
وبالرغم من أن المونودراما بنية مسرحية واحدة متماسكة، إلا أننى أقترح أن تُفهم جزئياً، بمعنى أن يركز القارئ على عنصر واحد، ويتتبعه داخل النص الواحد، أو داخل النصوص الثلاثة مجتمعة. على سبيل المثال يمكن قراءة المونودراما هنا من منظور المشروبات التى تُقدم فى النصوص الثلاثة، خاصة أن حافظ دأب فى الكثير من عناوينه على استدعاء المشروبات الساخنة ذات الدلالة من قبيل النسكافية والكابتشينو والقهوة السادة والشاى الأخضر، فضلاً عن نص ”إكسبريسو” الموجود ضمن نصوص المونودراما التى بين أيدينا الآن.
وفى هذا السياق، ينبغى أن نبحث، فى قراءتنا عن أجوبة لأسئلة من قبيل: لماذا يختار حافظ دائماً المشروبات الساخنة دون الباردة؟ وهل تأتى هذه المشروبات بشكل عرضى، مجانى، أم أن لها دوراً فى العمل؟ .. بالنسبة للسؤال الأول يمكننا القول إن المشروبات الساخنة فى مونودراما حافظ هى الأنسب للحالة النفسية لشخصيات العمل. فالشخصيات جميعها، الفنانة الشهيرة التى أفل نجمها والأب الذى هجره الأبناء والزوج الذى سافرت زوجته وأولاده، تعانى الوحدة وبرودة المشاعر التى تلف العالم من حولها. والمشروبات الساخنة ترتبط بالتجارب الإنسانية الفردية بنحو أكثر، حتى لو حدثت فى مكان يجتمع فيه الناس مثل شرب الشاى فى المقاهى أو شرب القهوة فى سرادقات العزاء. لأن التجربة هنا رغم جماعيتها تظل فردية فى معناها العميق، وذلك بعكس المشروبات الباردة والمثلجة التى ترتبط بالتجارب الجماعية أكثر على نحو ما نرى فى المصايف والرحلات وحفلات الغناء والرقص. كما يلاحظ أن المشروبات الساخنة ترتبط بالحزن والمشروبات الباردة ترتبط بالفرح. كما ترتبط المشروبات الساخنة بالسكون وترتبط الباردة بالحركة. وكلها سمات تناسب مونودراما حافظ وشخصياته المأزومة القلقة. فهى شخصيات يطغى عليها الحزن والشعور بالعجز عن الفعل ومبارحة المكان، فتحيا على الذكريات.
وإذا انتقلنا إلى السؤال الثانى، الذى يدور حول مدى أهمية الدور الدرامى الذى يمكن أن يلعبه المشروب الساخن، فسنجد أن الإكسبريسو يلعب دوراً كبيراً فى حسم الصراع الدائر فى مونودراما ”إكسبريسو”، حيث تنجح ”روزا” فى القبض على مجموعة من الإرهابيين المسلحين، الذين يقتحمون الكافيتريا ويثيرون الذعر فى نفوس الَناس، عن طريق إلقاء قهوة الإكسبريسو الساخنة فى وجه أحدهم والاستيلاء على سلاحة ثم أسلحة باقى الإرهابيين. فى مونودراما ”الخادمة والعجوز” تستهل الخادمة عملها بإعداد كوب من الشاى إلى العجوز صاحب المنزل، ومن خلال الحوار ندرك أن مشروب الشاى كان واحداً من الاهتمامات التى استغرقت منه نصف عمره، فتراه يقول: ”شاى رائع أمضیت نصف عمرى الأول أشرب الشاى والدخان والنساء والشعر والبحر والصید والجرى وراء اللاشئ”. ويأتى الشاى كمعبر إلى عالم من الذكريات البائسة التى يجترها العجوز أمام الخادمة العشرينية التى أتت للتو لتنظيف المنزل، وهى ذكريات باردة تبدأ فى ليلة ممطرة عندما يطرق بابه الإبن الأكبر وزوجته المدللة، طالباً منه مبلغاً من المال لتلبية طلبات الزوجة التى لا تنتهى.
من المفارقات أن الذكريات تُعيدنا إلى الإبن الأصغر وزوجته اللذين خططا لقتل العجوز،  عن طريق وضع السم فى العصير، للاستيلاء على أمواله، غير أنه اكتشف الخدعة ونجا بحياته. والمفارقة تكمن فى أن الموت، يقبع، استثناءً، فى العصير لا الشاى. فالأدبيات كلها تؤكد على أن السم يوضع دائماً فى العصائر الباردة وليس المشروبات الساخنة . وربما يكون السبب أن القتل بالسم ينطوى على خدعة، ويتم بدم بارد.
فى المونودراما الثالثة والأخيرة، يحصل الرجل الأربعينى أحمد سليمان على حريته فى بيته بعد أن سافر الأولاد فى إجازة صيفية لمدة شهر، وشعر أنه فى حل من أى التزام عائلى يمكن أن يثقل كاهله، وينغص عليه حياته، إلا أنه يعجز عن مغادرة المنزل وملاقاة أصحابه نتيجة لوقوف كلب الجيران الشرس بالخارج، والذى لا يكف عن النباح أبداً. إزاء هذا الموقف يضطر أحمد سليمان للمكوث فى البيت، محاولا التشاغل بأى شئ.
الغريب فى هذه المونودراما أن أحمد سليمان يفتح الثلاجة ويبحث طوال الوقت عن شئ يأكله، طعام أو فاكهة أو مكسرات، لكنه لا يحاول صنع أي مشروب، ساخن أو بارد. وهذه مسألة تدعو للتأمل، لأنها تخالف العرف النفسى والاجتماعى للرجل الشرقى عندما يجد نفسه وحيداً فى بيته من ناحية، وتخالف العرف الفنى لمسرح السيد حافظ، الذى يحتفى بالمشروبات الساخنة من ناحية أخرى.
لكن المسألة فى الحقيقة لا تخلو من دلالة، خاصة إذا ما أعدنا قراءة هذه العبارة “مش قادر حتى أقعد كل یوم أقرأ ساعة فى الشعر او قصة من القصص … اتحولت إلى آلة خایبة كنكة اسمها المجتمع”. فإذا لم تكن كلمة ”كنكة” صحيحة، وكانت خطأً مطبعياً، فينبغى أن نعتبرها صحيحة حتى تملأ الفراغ الدلالى الذى خلفه غياب المشروبات الساخنة فى هذا النص الاستثنائى. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن كلمة ”كنكة” تُعيدنا إلى تينسى ويليامز ومسرحيته البديعة ”قطة فوق صفيح ساخن”. فحياة بطلنا أحمد سليمان صارت كلها عبارة عن مشروب يغلى فوق نار هادئة.. نار المسئولية، والسعى المحموم من أجل تحقيق رغبات الآخرين ”أمى عایزة بیت جدید، وأبویا عایز عربیة، وأخویا عایز یكمل تعلیمه فى لندن وعایز فلوس، وأختى عايزانى أساعد جوزها،ومراتى عایزة أأمن مستقبل العیال ومستقبلها”.
إن أحمد سليمان يشبه جنى مشتعل، كُتب عليه أن يصنع المعجزات ويحقق الأمنيات، دون أن يهتم أحد بتحقيق واحدة من أمنياته، أو حتى يتركون لتحقيق أمنياته البسيطة بنفسه. حتى عندما سافرت الزوجة والأولاد، لم يستطع أن ينعم بالوحدة، ولو لأيام قليلة، يلتقى بأصدقائه أو يجلس فى بيته مرتاح البال، فقد تورط، عن طريق مكالمة خطأ فى مشكلة معقدة بطلها شخص مجهول يعتزم الانتحار، وعلى أثرها يشعر أحمد سليمان بمسؤليته تجاه هذا الرجل وتجاه زوجته، فيعمل على إنقاذ الأسرة وإنقاذ الرجل فى آن.
وأخيراً لا يسعنا إلا أن نقول إن أعمال السيد حافظ التجريبية، إنما تحتاج إلى نوع خاص من النقد التجريبى، الذى ينبغى أن يكون على نفس مستوى جرأة وجدة وطرافة هذه الأعمال حتى يمكن أن نوفيها حقها. والحقيقة أنها تحمل فى داخلها من الطاقة والإمكانيات ما يمكنه أن يحرك فى الناقد روح المغامرة والتجريب. ولعل فى محاولتنا المتواضعة لقراءة مونودراما السيد حافظ من منظور المشروبات الساخنة ما يمكن أن نعتبره مدخلاً أو تمهيداً لقراءات أخرى، مشابهة، أكثر شمولاً وأبعد عمقاً.


أضف تعليق