د. ماهر عبد المحسن
في سياق الحديث عن أدب الاعتراف يٌشار دائماً إلى القديس أغسطين وجان جاك روسو. فكلاهما قدم تجربة تأسيسية فريدة في أدب الاعتراف حملت نفس العنوان تقريباً “الاعتراف” . وتميزت كل واحدة عن الأخرى باسم صاحبها : “اعترافات القديس أغسطين” و”اعترافات جان جاك روسو” . غير أن التمييز الحقيقي لا يقتصر على العنوان ، لكن في المضمون . فبالرغم من أن كلاهما كان يمتلك من الجرأة ما جعله يضمّن اعترافاته أحداثاً ومواقف مخجلة اعتاد الناس على إخفائها من أجل الحفاظ على صورة شخصية ناصعة بيضاء ، لا ينفر منها الآخرون ، إلا أن تجربة أوغسطين كانت دينية وكانت تجربة روسو دنيوية. وبهذا المعنى كتب أغسطين عن الكيفية التي تحول بها من المانوية إلى المسيحية، وعن سنوات حياته الأولى التي عاش خلالها في الخطيئة وارتكب الكثير من الموبقات ، كما أنه لم يتوقف عند حدود البوح واجترار الماضي الأثيم بل استطاع تحويل تجربته إلى فلسفة عندما أعاد تقييمها وصياغتها في شكل أسئلة خاصة : لماذا سرق ؟ لماذا كذب ؟ لماذا ارتكب الفاحشة ؟ . وجاءت إجاباته في شكل مبادئ عامة تجاوزت خصوصية التجربة ، منها انطلاقه من طفولته الشخصية من أجل استخلاص استنتاجات عامة حول طبيعة الطفولة.
وفي المقابل كتب روسو عن حياته الخاصة وتجاربه الدنيوية ومشاعره الشخصية. وعن الغرض من الاعترافات كتب يقول : “إن غرضي هو أن أعرض للناس وبكل الطرق، صورة حقيقية عن الطبيعة البشرية ، وأن الرجل الذي سوف أقوم برسمه ، باعتباره ممثلاً لهذه الطبيعة ، هو أنا” .
وقد توالت قائمة كتاب الاعتراف بعد ذلك في الأدب الغربي ، لنجد أسماء جديدة من قبيل جوته ، وردزورث ، ستندال ، دي كوينسي .
ولم يقتصر الاعتراف على السير الذاتية وإنما امتد إلى مجال الشعر ، لتظهر مدرسة الشعر الاعترافي في الولايات المتحدة خلال الخمسينيات من القرن الماضي ، التي عُرفت بأنها شعر الشخصية أو الذاتية، وفيه يتم التركيز على اللحظات المتطرفة في التجربة الفردية بأبعادها النفسية والشخصية خاصة ما تعلق منها بالمحرمات من قبيل الأمراض العقلية ، والجنس والشذوذ والرغبة في الإقدام على الانتحار ، ومن أعلام هذه المدرسة روبرت نويل ، سيلفيا بﻻث ، جون بيرمان ، آن سيكستون .
ومع ازدهار الحركة النسوية في النصف الثاني من القرن العشرين خاضت المرأة مضمار أدب الاعتراف ، وقدمت إنتاجاً أدبياً مثيراً للجدل من فرط جرأته حتى أنه قوبل بالنقد داخل الثقافة الغربية التي أفرزته ، وفي هذا السياق تتحدث الكاتبة لارا زاروم في مقالتها “هل الكتابة الاعترافية نسوية؟” عن الموضوعات السطحية التي تتناولها النساء في اعترافاتهن بغية إثبات الذات ولفت الأنظار ، فالمرأة المعاصرة – من وجهة نظرها – ترفض ذكورية الرجل ، لكنها تحرص على أن تكون موضوعاً لنظرته واهتمامه . ومن هنا يتركز أدب الاعتراف النسوي حول الحياة الشخصية للكاتبة وخاصة ما يتعلق بجسدها ، فتكتب البعض عن وقائع الاغتصاب أو التحرش الجنسي التي تعرضت لها ، وتكتب أخرى عن مشاكل الثدي التي تعرضت لها ، بينما تكتب طائفة ثالثة عن شهيتها المفرطة للطعام ومشكلتها مع البدانة والرغبة اليائسة في تحقيق الوزن المثالي .
وفي ذات السياق تكتب إليزابيث ستوكر بروينج” في مقالتها “لماذا نعترف : من أوغسطين إلى أوبرا” عن الاعتراف بوصفة منتجاً استهلاكياً وعن المرأة المعترفة بوصفها سلعة . فعندما تكون الأدبيات الاعترافية في كل مكان – عندما تكون هناك صناعات بكاملها مكرسة لإنتاجها – فإن نوع الشخص المعترف به هو نفسه على نحو متزايد يكون الإناث ، خاصة اللائي يكن في الغالب شابات يرغب الجمهور في التطلع إلى أدائهن ، ولكن في كثير من الأحيان يحتقر هذا الأداء .
إن الاعتراف كسلعة هو النوع الثالث الذي يهيمن على الساحة الآن بعد الاعتراف الديني عند أغسطين والدنيوي (الاجتماعي) عند روسو.
هذا عن أدب الاعتراف في الثقافة الغربية . فماذا عنه في الثقافة العربية ؟ كثيراً
ما يثور التساؤل عن سبب غياب أدب الاعتراف في الثقافة العربية. وفي هذا السياق تعددت الآراء ، فيرى الشاعر حسن طلب أن هذا اللون الإبداعي يندر وجوده في الثقافة العربية المعاصرة ، لأسباب أخلاقية ودينية ، وأسباب تخص اللحظة المتخلفة التي نعيشها ، والتي تكثر فيها التجريمات وتكثر فيها التابوهات ، ويتكون لدى كل كاتب اعترافات “رقيب داخلي” أشرس وأشد عنفاً من رقيب المجتمع (آلاء عثمان ، موقع البيان ، 22 يوليو 2016م).
ويستثنى طلب بعض الكتابات مثل “الخبز الحافي” للكاتب محمد شكري التي مُنعت ولقى صاحبها هجوماً كبيراً، واعترافات لويس عوض ، ويعلق على هذه الاعترافات بأنها توقفت عند سقف محدد من الصراحة في الاعتراف، وأن اللحظة الحضارية والثقافية هي المسئولة عن مساحة هذا السقف بدليل أن شعراء العربية كانوا يمارسون هذا اللون من الأدب في قصائدهم واعترفوا بأشياء يخجل الناس من الاعتراف بها حالياً عندما سمحت اللحظة الحضارية في القرنين الثالث والرابع الهجريين بذلك.
وحدث نفس الشيء في الغرب عندما كانت اللحظة الثقافية قادرة على تحمل اعترافات جان جاك روسو التي تحدث فيها عن حياته الخاصة وعن بعض الأمور التي نخجل نحن من ذكرها ، لكنه لم يخجل ، ولم يلبس نفسه قناعاً يظهره على غير حقيقيته.
والحديث عن اللحظة الثقافية العربية يعتبر النغمة السائدة لدى معظم المثقفين (نقاداً ومبدعين) الذين يبحثون عن تفسير لغياب أدب الاعتراف في الثقافة العربية . فالعادات والتقاليد الاجتماعية والأخلاقية والدينية هي الحاجز الذي يقف دائماً حجر عثرة في طريق الاعتراف خاصة في شكله الغربي الصريح . وفي هذا السياق يرى الدكتور محمد عبد المطلب أن “ثقافتنا القائمة على الكتمان هي السبب الرئيس وراء غياب أدب الاعتراف .
أما الأمر في الغرب فهو مختلف لأن ثقافة الاعتراف موجودة في الكثير من تجليات الفكر الغربي” (أدب الاعتراف ولعبة الوجه والقناع ، موقع الخليج ، 25/9/2010م).
ويستثنى محمد عبد المطلب بعض الاعترافات مثل اعترافات لويس عوض في كتابه “أوراق العمر” ، وطه حسين في “الأيام” . ويرى أن الكثير من المثقفين قد تحايلوا على المسألة ولجأوا إلى الكتابة الدلالية من دون الاعتراف بأنها تدل على حياتهم، لأن من سيقدم على كتابة حياته علناً سيقاطعه الآخرون ، فالثقافة الشرقية لا تعترف ولا تحبذ فكرة الاعتراف خاصة إذا طالت أشياء معيبة ارتكبها الكاتب في حياته.
وفي ذات السياق يقر بول شاؤول بأن أدب الاعتراف العربي قليل جداً لأن العادات الشرقية ومفاهيم التربية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تحول دون تحرير الفكر الإبداعي من ظلمات القرون الوسطى ، حيث مازال الأديب والشاعر والروائي ، يضع رقابات مختلفة ، ذاتية ، وهي ضحك على الذقون ، وأخلاقية أشد سخرية . ويرى شاؤول الحل في أن يتحدى الكاتب المجتمع ، وأن يمتلك الجرأة والوعي والثقافة والتاريخ ليتمكن من إسقاط أقنعته الذاتية أولاً وبعدها أقنعة الآخرين . (أدب الاعتراف ولعبة الوجه والقناع).
ويفسر الدكتور جابر عصفور شيوع أدب الاعتراف في الثقافة الغربية دون العربية بأن فن الكتابة الذاتية نشأ في الآداب الغربية من فكرة الاعترافات المترسخة في الديانة المسيحية التي ترتبط بالتطهر الروحي كوسيلة لراحة الضمير . والاعتراف بهذا المفهوم ليس غامضاً عند الأوربيين الذين مارسوه بصراحة شديدة في أشكال أدبية متعددة ونراه في المذاكرات والرسائل والسير الذاتية كما في اعترافات القديس أغسطين واعترافات جان جاك روسو ونيتشه وبودلير (أحمد الجندى، أدب الاعتراف سباحة ضد تيار المجتمع العربي ، صحيفة الاتحاد الإلكترونية ، 13 نوفمبر 2005م) .
ويقر عصفور بوجود إبداع أدبي عربي يدخل في إطار الأدب الذاتي لكن إنتاج بعضهم ظل بعيداً عن أدب الاعتراف ، حيث كان التدوين يراعي قيماً وقيوداً اجتماعية ترفض الجرأة المطلقة في الحديث عن الذات . ومن هذه الإبداعات قديماً “المنقذ من الضلال” للإمام الغزالي و”طوق الحمامة” لابن حزم و”المنازل والديار” لأسامة بن منقذ ، وحديثاً تبدى ذلك في أعمال طه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم ولويس عوض.
ويلاحظ من آراء عصفور أن ثمة تمييزاً بين الكتابة الذاتية أو السيرة الذاتية وأدب الاعتراف ، وأن هذا الأخير يمثل المرحلة القصوى في سيكولوجية البوح لدى الكاتب ، وهي المرحلة التي يعجز الكاتب العربي عن الوصول إليها لأسباب تخص القيود الاجتماعية التي ترفض الجرأة المطلقة في الحديث عن الذات . وإذا كان عصفور قد عثر على الأساس الديني لذيوع أدب الاعتراف في الثقافة الغربية ، فإن الناقد إيهاب النجدي من خلال دراسته المتعمقة “أدب الاعتراف .. مقاربات تحليلية من منظور سردي” قد عثر على أساس ديني لإحجام الكُتاب العرب عن الكتابة الاعترافية بالمعنى الغربي ، حيث يقول في مقدمة الدراسة: “… والقارئ العربي متطلع إلى النموذج الفذ، عالق بالمثال الكامل لصاحب السيرة، يؤوده أن يرى بطله هاوياً في مقبحه ، أو مقارفاً لذنب ، أو مفضياً بسريرة كان فيها – مثل بقية أبناء آدم – خطّاء أو مقراً بضعفه الإنساني ، وعلى الإجمال تتوافر لفظة السيرة – في الوعي الجمعي – على أنها حسنة ، أو عطرة حتى إشعار آخر ، وطريقة متبعة ، وقدوة ، وهداية تهتدي بها الأجيال ، وتنطلق في آفاق هذا الوعي من أصول دينية ، وذؤابتها السيرة النبوية الشريفة ، ثم سير الصحابة والأولياء”.
وأهم ما يميز مقاربة النجدي لأدب الاعتراف هو رؤيته المبتكرة لمفهوم الاعتراف الذي يدمج الفني بالواقعي ويجعل من تجارب الكاتب الحياتية المعبرة عن تطوره العقلي والروحي – حتى في صورتها النقية المطهرة من الآثام – شكلاً من أشكال الاعتراف الذي يستحق التدوين، فليست كل خفايا المرء تقع في دائرة الخطايا والأوزار . وبهذا المعنى فإن الأدب الصادق يلامس جوهر الاعتراف ، ليس بالتصور الظاهر القريب للكلمة ، وإنما بالمعنى الداخلي لها ، حين يستعيد الأديب لحظات الحقيقة الغائبة فتعود إلى الوجود بوساطة فنية من جديد ، وجه ينير للأجيال القادمة دروب التطور الروحي والفكري لجيله الذي ينتمي إليه . ويضرب مثلاً بالعقاد عندما وصف أدب المازني ، على تنوع أشكاله ، بأنه أدب اعتراف ، في محراب الفن لا في محراب الكهانة .
والحقيقة، ليس هناك تعارض بين الاعتراف الأدبي والالتزام الأخلاقي “فإذا كانت الحرية شرطاً من شروط الإبداع ، فإن الأخلاق ينبغي أن تكون محوراً للأدب الخلاق ، بل إنها يجب أن تبحث عن معاييرها المتجددة فيه . والكاتب الحقيقي هو الذي يبدع في مجالات واسعة ومتعددة ليس فيها من تعارض جوهري بين التحرر والالتزام .. فليس من العدل والإنصاف ، أن يهرب الحس الإبداعي من قلب الكاتب ، خوفاً مما يمكن أن يسميه اعتباطاً: “أوهام الالتزام” ، لكي يحتمي بإصراره على هتك المزيد من الأستار” (زياد صلاح ، أدب الاعتراف ، صحيفة ذي المجاز الإلكترونية ، 6/10/2017م).
وفي السياق نفسه يحاول البعض تأسيس الاعتراف على الأخلاق الدينية . فالاعتراف في صورته الغربية يتعارض مع المبدأ الأخلاقي في الشرع الإسلامي الذي يرفض المجاهرة بالإثم أو فضح المستور ونشره بين الناس ، وقد نهى الرسول (ص) في اكثر من موضع عن المجاهرة وتوعد المجاهرين . ومنها : الرجل يبيت بذنب وقد ستره الله فيصبح ويحدث الناس بما فعل (أحمد إبراهيم ، الجائز والممنوع في أدب الاعتراف ، موقع لها أون لاين، 1/10/2002م).
والحقيقة أن أنصار هذا الرأي الأخير ممن يدعون إلى الربط بين الأخلاق والدين من ناحية وبين أدب الاعتراف من ناحية أخرى – رغم قلتهم – هم الأقرب إلى الواقع الثقافي والاجتماعي للمجتمعات العربية .
فالمسألة من المنظور الثقافي البحت تقتضي احترام الخصوصية الحضارية والأخلاقية لهذه المجتمعات ذات المرجعيات الدينية والثقافية المختلفة ، وليس من الذكاء أو الفطنة أن ندعو للتحلل من ثقافتنا وأخلاقياتنا وقيمنا التي يمليها علينا الدين أو العرف الاجتماعي إذا
ما تعارضت مع لون أدبي أو فني ، لمجرد أنه ازدهر في الغرب الذي لا يحمل نفس الأفكار والقناعات .
فالمثقف العربي يدرك جيداً الاختلاف الجذري بين تقاليده التي تربى عليها وتلك التي يعيش في ظلها الكاتب الأوربي .. كما يدرك أيضاً تلك النزعة الواحدية المهيمنة التي يمثلها النموذج الغربي ، ولا تحمل في طواياها ما يميزها عن النماذج الحضارية الأخرى الشرقية. إن محاولتنا الساذجة لنزع “برقع الحياء” من على وجوهنا تشبهاً بالآخر الذي لا يشبهنا على الحقيقة ، إنما هي محاولة أشبه بمن يدعو للتعري وتعريض الجسم لأشعة الشمس في محاكاة هزلية لمرتادي شواطئ العراة.
إن الواقع الثقافي والأدبي قد أثبت وجود حاجز ما يمنع الأديب العربي من تخطي الخطوط الحمراء في كتاباته الذاتية . وهذا الحاجز – المتشكل بفعل الأعراف والتقاليد الأخلاقية – هو الذي يجعل الكاتب يقف على حافة البوح بحيث يأتي الاعتراف منقوصاً ، أو متوارياً. والحقيقة أن البوح عن طريق الإيماء هو أيضاً نوع من الاعتراف ، لكنه الاعتراف الفني غير المباشر . ومعظم السير الذاتية العربية التي حاولت أن تخوض منطقة الاعتراف الملغمة اتخذت هذا الشكل .
وبهذا المعنى ستكون إجابتنا عن سؤال الاعتراف العربي بالإيجاب ، إذا ما اعترفنا بمشروعية “الاعتراف الضمني” أو “المستتر” .
إن ثقافتنا في – الحقيقة – ثقافة إضمار وإخفاء يحكمها المبدأ الاجتماعي الشعبي “داري على شمعتك تقيد” والمبدأ الديني : “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان” . ونحن
لا نرغب ، بذلك ، في تقديم نصيحة دعوية دينية أو رؤية إصلاحية اجتماعية ، وإنما نعمل على تحويل كتابات الاعتراف المباشرة إلى لون من الأدب ، بحيث تتحول الاعترافات من الأساليب النثرية المباشرة إلى الأساليب الشعرية الموحية . وبهذا المعنى ينبغي أن تتماهى شخصية الكاتب مع شخوص رواياته وقصصه ومسرحياته . ويعتبر الأديب العالمي نجيب محفوظ واحدا من أبرز الأمثلة على هذه الوجهة من النظر ، حيث رفض كتابة سيرته الذاتية في كتاب مستقل لأنه وضعها في ثنايا أعماله الروائية والقصصية ، كما صرح بأن شخصية كمال عبد الجواد – على سبيل المثال – في الثلاثية هي شخصيته على الواقع .
وحتى لا يكون كلامنا نظرياً سوف نقدم نموذجاً تطبيقياً غفل النقاد والمثقفون عن الإشارة إليه ، بالرغم من كونه يُعد بمثابة المثال الأقرب لما ينبغي أن يكون عليه أدب الاعتراف في المجتمع العربي ، وهو السيرة الذاتية للناقد والمفكر الكبير شكري عياد المعنونة بـ “العيش على الحافة” . فكيف استطاع عياد أن يعبّر عن تفاصيل حياته المخجلة دون أن يخدش حياء القارئ ؟
هذا ما سنتعرف عليه في السطور التالية :-
بالرغم من أن عياد يعد قارئه بحديث حميمي صريح ، شديد الوضوح ، إلا أنه ، لا يملك الجرأة الكاملة على التحرر من القيود التي كانت تكبله في سنوات عمره الماضية ، والتي حاول أن يتحرر منها في “العيش على الحافة”.
فعياد مازال يتوخي الحذر في التعبير ، ويعمل للمجتمع وللأعراف ألف حساب. ففي حديثه عن رأيه في استاذه في المدرسة يقول : “أحب أن أقول لك إن كنت كاتب قصة أو تفكر أن تكون كذلك ، أقول لك بكل حزم أن شخصية الأستاذ… (طبعاً أذكر أسمه ولكن ليس من اللائق أن أصرح به وأيضاً لا أريد أن أدخل مع أبنائه أو أحفاده في مشكلات) . ( ص 45) .
وعندما يتحدث عن جريمته الأخلاقية ، لا يقدم لنا تجربته بتفاصيلها الدقيقة كواقعة شخصية حدثت في زمان ومكان محددين ، وإنما يقدم لنا النموذج ، والبناء الكلي للوقائع باعتبارها ظاهرة عامة تتملكه من آن لآخر كلما سنحت لها الفرصة وتوافرت الظروف الخارجية المحرضة لها . فيقول :
“… كنت أسير في طريقي في أمان الله أو لعلي كنت واقفاً في صف للحصول على تذكرة ما ، أو أمام صيدلي حتى يجيء دوري ليعطيني الدواء الذي أطلبه ، عندما يحدث هذا الشيء بسرعة البرق، تتنمر عيناي في نقطة ما ، وما هي إلا لحظة حتى تمتد يدي وكأنما تحولت بسحر هذه النقطة إلى شيء لا علاقة له بي ، وما هي إلا لحظة أخرى وإذا أنا محاط بجمهور كبير من الناس ، كبار وصغار ، نساء ورجال محترمين وغير محترمين ، كلهم يعلق على فعلتي الفاضحة، وكلهم مصمم على تسليمي للشرطة” (ص 15) .
إننا أمام سرد أدبي موح يغلب عليه أسلوب الإيماء والتلميح فلا نستطيع أن نحدد على وجه اليقين أين وقعت هذه الحادثة ومتى وما هي طبيعة الجريمة الأخلاقية التي استفزت الناس وجعلتهم يصممون على تسليمه للشرطة.
يكتب عياد من على مسافة من الحدث ، وهو لذلك لا ينخرط في تفاصيل السرد ، وإنما يتأمل الأحداث من بعيد مثل القارئ تماماً، ولأنه لا يصل في تجربة البوح إلى نهايتها فهو يستعين بقراءاته وثقافته الأدبية من أجل استكمال الحقائق الخفية المكبوتة ، التي خبرها بنفسه لكنه يعجز عن التعبير عنها بالوقاحة المطلوبة . فيحدثنا عن البنوة غير الشرعية ويستدعي الأساطير التي تصور زواج الآلهة من البشر، كما يستدعي الإسكندر الأكبر من التاريخ ، وعنترة ابن شداد من التراث ، وبيرو جان من أدب موبسان.
وعندما يحدثنا عن الشذوذ الجنسي يقول واصفاً أحد باعة الليمون في شبين: “حيرني أمره سنين كثيرة، وبعد أن تركت شبين بمدة طويلة، ونسيت أمره ، وعركتني الدنيا وعركتها ، ونلت ما أتاحه لي زماني من خبرة متوسطة بأمور الجنس، تذكرت هذا الرجل فجأة ، وضحكت من غبائي .. هذا الرجل هو النقيض الدياليكتيكي لعبد المجيد…” (ص 92).
وتعبير ”النقيض الدياليكتيكي لعبد المجيد” يجعلنا نعود إلى الوصف الذي سبق وأن قدمه عياد لشخصية عبد المجيد ، وهو وصف أدبي إيمائي يتطلب قراءة ما بين السطور كخطوة أولى للوقوف على حقيقة شخصيته ، ثم – في خطوة تالية – ينبغي قلب المعنى أو المفهوم الذي توصلنا إليه لنتعرف على حقيقة الشخصية الأخرى النقيضة والتي أشار عياد إلى أنه لم يعرف اسمها.
وبالرغم من أن الجنس مسألة محورية في تفكير عياد وله حضور قوي في سيرته “العيش على الحافة” على نحو ما يصرح في أكثر من موضع ، إلا أنه لا يترك السرد الذاتي متدفقاً دون ضابط ، وإنما يعمد إلى قطعه والتدخل فيه بالبحث والدرس ، وكأنه شخص آخر يحلل ظاهرة إنسانية تحتاج إلى الفحص ، فيلجأ إلى نظريات فرويد وكتابات سلامة موسى وحكايات تشايكوفسكي ومحاكمات سقراط وأوسكار وايلد.
إن شكري عياد – في التحليل الأخير – لم يكن كاتباً وقحاً على نحو ما وصف نفسه ، ولم تكن كتابته – بأي حال – نوعاً من الوقاحة ، إن تربيته الدينية والبيئة المحافظة التي نشأ وتربى فيها ، والمجتمع الشرقي الذي ينتسب إليه، لاشك ، كلها عوامل كان لها دور كبير في تهذيب عياد ، وجعله كاتباً أخلاقياً محافظا مهماً بدا غير ذلك ، ومهما حاول هو أن يتحرر من القيود ويبدو غير ذلك .
وبهذا الاعتبار لا يمكننا أن نتخذ من “الوقاحة” مدخلاً لقراءة “العيش على الحافة” ، وعلينا أن نبحث عن مدخل آخر أكثر مناسبة . ونحن في هذا المقام نقترح مفهوم “اللعب” كمدخل للفهم والتفسير ، فاعتماد عياد الأسلوب الإيمائي التلميحي جعله يتحرك بحرية بحيث يعبر عن كل ما يجول بخاطره دون أن يصدم قارئه الذي يحرص على المحافظة عليه حتى النهاية.
واللعب عند عياد ليس مفهوماً غريباً أو مقحماً، فكثيراً ما يستخدمه عياد في سيرته، أحياناً للتعبير عن مراحل الطفولة والصبا ، وهنا يستخدم المفهوم بالمعنى الحقيقى ، وأحياناً أخرى يستخدمه بالمعنى المجازى. ويعنى ذلك أن القيود التى يلقاها عياد فى تعبيره عن مكنونات نفسه يقابلها حرية منطلقة من جهة الفن إذا ما نظرنا إلى السيرة الذاتية كعمل أدبى يخضع للاعتبارات الجمالية، لا كمدونة اعتراف تغلب عليها المباشرة وتتكئ على كل ما هو إثمى وفضائحى.
إن أهم ما يدعم فكرتنا ويعضد وجهة نظرنا أن مصطلح ”أدب الاعتراف” نفسه يؤكد على أولية الأدبى على الاعترافى المحض. ونحن بهذا المعنى سنحصر أدب الاعتراف فى من يمتلكون حسا فنيا وأدبيا، وسنترك للذين لا يمتلكون هذا الحس المذكرات واليوميات ميدانا للتعبير عن أنفسهم وتجاربهم. وفى كل الأحوال سيقع على القارئ مسئولية التمييز بين الفنى الناضج والواقعى الفج، بحيث يستطيع الدخول فى لعبة الإبداع الموحية، ليغنم كل ثمين وينبذ كل مبتذل ورخيص.

