أدارت الحوار الكاتبة والناقد الأدبية:
د. نجاة صادق الجشعمي

– هل النص المسرحي في ورطة الآن للتعبير عن الحالات المتعددة والمتغيرات المتلاحقة في الواقع السياسي والاجتماعي في الوطن العربي مما يؤدي إلى عجز المؤلف عن التعبير عن الأحداث أو المواقف؟ وما هو الأفق للحل ؟
لا يمكن أن ننكر أن النص المسرحي، العربي تحديداً، يعاني أزمة في التعبير عن هموم الوطن وتحولاته السياسية والاجتماعية. والحقيقة أن أسباب هذه الأزمة عديدة ومتنوعة. فمنها ما يرجع إلى المؤلف نفسه، ومنها ما يرجع إلى النص، ومنها ما يرجع إلى المخرج. 
وفي هذا المعنى، نجد أن هناك ندرة في وجود الكاتب المسرحي الحقيقي، والسبب يرجع أولاً إلى صعوبة الكتابة المسرحية التي تحتاج إلى دراسة منهجية من ناحية، وإلى توفر قدر كبير من الثقافة المسرحية والثقافة العامة من ناحية أخرى. بالإضافة إلى وعي شامل بقضايا الوطن ومشكلاته التاريخية والراهنة، وكلها أمور من الصعوبة بحيث لا تتحقق إلا فى قلة قليلة ممن يتصدون للكتابة المسرحية.
النص المسرحي نفسه يعاني من أزمة نتيجة لعجزه، بحكم طبيعته اللفظية،  عن تقديم عناصر إبهار توازي ما تحقق في السينما والتليفزيون، وسائر الفنون المرئية التي تعتمد على الصورة، بالأساس، في توصيل رسالتها. وربما كان ذلك أحد أسباب تحول كتّاب المسرح، فى السنوات الأخيرة إلى الكتابة في هذه الفنون، خاصة أنها تحظى بجماهيرية كبيرة، وتدر عائداً مادياً أكثر ربحية.
ونتيجة لهذه الأزمة تنشأ أزمة أخرى بين المؤلف والمخرج المسرحي المعاصر، الذي يعي حقيقة القصور اللغوي، ويرغب فى تغليب العناصر البصرية على المسرحية، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر على علاقة النص بالعرض. والمسألة لن تُحل إلا من خلال الورش المسرحية، التي تتيح فرصة العمل المشترك بين المؤلف والمخرج من أجل إنتاج عمل مسرحي متوازن ومتكامل.
أضف إلى ذلك، المناخ غير الديمقراطي، سياسياً واجتماعياً، الذي يعيشه المبدعون كافة في الوطن العربي، ما أدى إلى عجزهم عن التعبير عن قضايا وهموم المجتمع وأفكارهم الخاصة حول هذه القضايا، خاصة ما تعلق منها بالنقد والإصلاح.
ولأن قضية الحرية والديمقراطية من الأمور الشائكة والمعقدة بحيث لا يُحتمل أن تُحل في القريب، فليس أمام كتّاب المسرح سوى اللجوء للرمز والاستعانة بالتاريخ من أجل مساءلة الحاضر في شئ من الإيماءة الذكية، التي تكون قادرة على بعث رسالة التنوير دون الوقوع تحت طائلة المسئولية، أياً كانت، سياسية أو اجتماعية أو دينية.

– إشكالية غياب الجمهور عن المسرح بكل أطيافه وأنواعه الكوميدي والاجتماعي والسياسي والطفل، حتى إن الجمهور يتغيب عن العروض المجانية في المهرجانات.  هل هي بوادر انقراض فن المسرح ام غياب مؤقت ؟
ترجع أسباب غياب الجمهور عن المسرح لنفس الأسباب التى تُفسر غيابه عن الفعاليات الثقافية عموماً، ومن أهمها غياب عنصر الجذب في الأعمال المسرحية الذي يوازى فنون السينما والتليفزيون والإنترنت. فالعرض المسرحي، خلافاً للتليفزيون والإنترنت، يتطلب الذهاب إليه، وهى مسألة باتت عسيرة فى ظل الحياة الاستهلاكية المعاصرة التى تهيمن عليها ثقافة الديلفري (توصيل الطلبات إلى المنازل). والحقيقة التي لا ينبغي التغافل عنها هي أن الثقافة صارت سلعة تخضع لقوانين السوق، والعمل المسرحي باعتباره واحداً من تجليات الثقافة المهمة، ينبغى أن يكون قادراً على تطوير نفسه بحيث يمكنه جذب جمهوره وتوصيل رسالته إليه. 
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فكما أن الكتابة للمسرح تتطلب تأهيلاً خاصاً للكاتب، فإن جمهور المسرح أيضاً يحتاج إلى تأهيل. فغياب الثقافة المسرحية لدى الجمهور العام هو الذي يحدث حالة من الاغتراب بينه وبين العمل المسرحي، ومن ثم إحداث فجوة عميقة بين الطرفين. وليس أدل على ذلك من نفور الجمهور من المسرح التجريبي، لعدم قدرتهم على تذوقه واستيعابه، وإقباله على ”مسرح مصر” بالرغم من عمق الأول وسطحية الأخير.
فمازال الجمهور العربى يميل أكثر للمسرح فى شكله التقليدي، الذي يحتوي على حبكة وشخصيات وبنية سردية خطية، وإن افتقد الحماس للجلوس فى صالة العرض ومشاهدة عروض تحتل مساحات زمنية طويلة.
والمسألة، فى الأخير، تتطلب إدخال الثقافة المسرحية في المدارس، جنباً إلى جنب مع دروس الشعر والقصة، حتى يتعلم الطالب، فى مرحلة مبكرة من حياته، كيف يكون متلقياً إيجابياً واعياً.
وبهذا المعنى، لا يمكننا الحديث عن انقراض لفن المسرح، لكن، بتعبير أدق، انقراض لشكل من أشكال المسرح. وهو الشكل التقليدي، الذي يمكن أن ينفصل فيه النص عن العرض ويتحول إلى رواية تُقرأ، ويحل محله شكل جديد تمتزج فيه العناصر المكتوبة بالعناصر المرئية، وهى مسألة ستحتاج إلى وقت طويل حتى ترسخ في وعي الجمهور وتصبح جزءاً من تكوين ذائقته الفنية المسرحية.

– لماذا لم تظهر  نظرية مسرحية عربية تُصدر إلى الغرب سواء كانت على مستوى النقد أو الإخراج او التأليف ؟
في الحقيقة أن الإبداع في أى مكان وأي مجال مرهون دائماً بدرجة تقدم الأمم. بمعنى أنه لكى تبتكر نظرية في الفن أو الأدب ينبغي أن تكون لديك نظريات سابقة في العلم. فالتقدم العلمي هو الذي يضمن التقدم في شتى مناحي الحياة المختلفة، بما فيها مجالات اللعب والتسلية والترفيه.
كذلك لا يمكننا التحدث عن تصدير نظرياتنا وأفكارنا إلا إذا كنا نمتلك ثقافة غالبة لا مغلوبة. وهى نتيجة لازمة على مقدمتنا، السابق الإشارة إليها، التى تستدعى مقولة العلم كخطوة أولى في  طريق التقدم الإبداعي والحضاري.
وليس أدل على ذلك من إخفاق المحاولات التى قام بها الرواد العرب، فى أكثر من مجال، في الوصول إلى الثقافات الأخرى والتفاعل معها. وفى هذا السياق، يمكننا أن نقول إن المسرح العربي لم يعدم نظرية خاصة به تعبّر عن مشكلاته وقضاياه، خاصة على مستوى الكتابة. ونذكر منها تجربة يوسف إدريس التى اعتمد فيها على إحياء الفنون الشعبية، وتجربة سعد الله ونوس فى تسيس العرض، والسيد حافظ فى المسرح التجريبي. لكن تظل تجربة توفيق الحكيم هى الأكثر اكتمالاً، على نحو ما عبّر عنها فى كتابه ”قالبنا المسرحي”، لأنه احتوى على مقدمة نظرية يؤسس بها للمسرحيات الوارده فى الكتاب. وفي هذه المقدمة يتضح وعي الحكيم بضرورة وجود مسرح عربي عالمي، أي أن يجمع بين كونه عربياً وإنسانياً فىغ الوقت نفسه. ولتحقيق هذا المطلب الطموح طرح الحكيم رؤيته النظرية فيما أسماه ب”القالب المسرحي”، ووفقاً لهذا المصطلح دعا الحكيم لإحياء فنون الحكي الشعبية العربية التى كانت سابقة على فن المسرح، بحيث تكون بمثابة القالب أو الشكل الذي يمكن أن يُصب فيه أي محتوى، سواء أكان عربياً أو غربياً.
ولعل السبب الذي ذكرناه من ضعف الثقافة المنتجة للنظرية، وكونها مغلوبة وتابعة هو ما منع انتشارها على نحو ما كان يصبو إليه الحكيم.

– ما سر اختفاء الموسم المسرحي في جميع الدول العربية والاكتفاء بالمهرجانات  المسرحية هنا وهناك كبديل ؟
لم يختف تماماً الموسم المسرحي، لكنه لم يعد متمتعاً بذات الحضور كما كان فى السابق. ولأن المسرح عمل جماعي، فإن الأسباب متعددة، غير أن غياب الجمهور يظل هو السبب الأكثر تأثيراً، وقد تحدثنا عن أسباب غيابه، بقى أن نتحدث عن الكيفية أن يمكن أن نعيده بها إلى المسرح.
بجانب تثقيف الجمهور مسرحياً، والاستفادة من الفنون الأخرى، خاصة الأكثر جماهيرية مثل السينما والتليفزيون، ينبغي الاستجابة لثقافة ”الديلفرى”، التي تهيمن على مجتمعاتنا الاستهلاكية، بحيث لا ينتظر المسرح أن يذهب الجمهور إليه، وإنما يذهب هو إلى الجمهور من خلال المسرح المتنقل ومسرح الشارع، وهي أشكال مسرحية قريبة من ذائقة الجمهور المحلية، التي تربت على فن الأراجوز وعروض السيرك المتنقلة.
هذا على مستوى التلقي، أما على مستوى الإبداع، فإن الكتّاب والممثلين قد هجروا المسرح واتجهوا إلى السينما والتليفزيون، مثل الجمهور، ليس بحثاً عن المتعة والراحة فىغ آن، لكن جرياً وراء الشهرة والربح المادي الكبير.
وفي هذا السياق ينبغي العمل على إعادتهم إلى بيتهم الأول بالشكل الذىغ يليق بهم، من خلال عمل الدعاية اللازمة، واختيار نصوص مناسبة تضيف إلى رصيدهم  مثلما حدث مع يحيى الفخراني في مسرحية “الملك لير”، كما يمكن الاستعانة بنجوم السينما والتليفزيون كما حدث مع حسين فهمى وعزت العلاليلى فى مسرحية “أهلاً يا بكوات” والمسرحيتان تم عرضهما على المسرح القومي، وقد حققتا نجاحاً جماهيرياً ونقدياً كبيراً وقت عرضهما.
كذلك ينبغي اختيار الوقت المناسب لفعاليات الموسم المسرحي، بحيث لا يكون النجوم منشغلين في الوقت نفسه بأعمال أخرى في السينما أو التليفزيون.

– هل هناك مستقبل للمسرح كفن في الوطن العربي  من خلال تجربتك المسرحية ؟
رغم كل الصعوبات التي تواجه مسيرة المسرح العربي يظل الأمل موجوداً في مستقبل أفضل. فالتاريخ الطويل للممارسة المسرحية العربية، تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً ونقداً، تنبئ بتطور قادم نحو الأفضل.
فلدينا جيل واعد من شباب المسرحيين لديه الوعي والثقافة والقدرة على مواكبة العصر وتقديم الجديد. فقط هم فى حاجة إلى التشجيع، وتوفير مناخ الحرية الذي يسمح لهم بالتعبير عن أنفسهم، وعن همومهم وأحلامهم.
من هذا المنطلق ينبغى العمل، من قبل المسؤلين، على دعم المسرح الجامعي، ومسرح الهواة، والفرق المستقلة حتى يمكنها أن تعمل بعيداً عن إكراهات السلطة المؤسسية، سواء أكانت سياسية أو اجتماعية.
كما ينبغى إحياء الفنون الشعبية ذات الطابع المسرحي، مع الاستفادة من المسرح الغربي، ودون الوقوع فى أسر العولمة والتغريب. فتحقيق التوازن بين الطرفين مطلوب ومشروع، ولا يصعب تحقيقه.
وإذا كان البعض يرى أن ثورات الربيع العربي كان لها أثر سلبى على النشاط المسرحي، فإننا نرى أن الأثر كان سلبياً في وقته، لأن الجمهور كان منشغلاً بمتابعة الأحداث السياسية الساخنة في ذلك الوقت، والتي كانت بمثابة المسرح البديل. أما الآن، فإن الأحداث تحولت إلى معنى ودلالة، وهذا من شأنه أن يحفز المسرحيين على إبداع الجديد، شكلاً ومضموناً.


أضف تعليق