د. ماهر عبد المحسن

دار جدل كبير خلال الأيام القليلة الماضية بعد الإعلان عن تدشين مركز “تكوين الفكر العربي”، وهو مركز يضم مجموعة من الأسماء المعروفة بإثارة الجدل واستفزاز الرأي العام مثل يوسف زيدان وإبراهيم عيسي وإسلام البحيري وفراس السواح وفاطمة ناعوت. وفي سياق اختلاف الآراء حول تشكيل المركز وأهدافه والجهات الممولة له كتب المفكر الكبير مصطفى سكري مقالا مهما، منشورا على صفحة “التجمع العربي للتنوير” في الموضوع بعنوان “مؤسسة تكوين الفكر العربي والجدل المثار حولها” أراد أن يكون فيه موضوعيا فوضع مقدمة يستعرض فيها الرأي والرأي الاخر في محاولة للخروج بالجدل من دائرة التحيز والثرثرة إلى دائرة العقل والعلمية، غير أنه أنتهى بمجموعة من النتائج التي لا تلزم عن مقدماتها بقدر ما تعبر عن أفكار وقناعات الأستاذ سكري الذاتية، ويأتي في مقدمة هذه القناعات محاولة الزج باسم جماعة الإخوان المسلمين في الموضوع باعتبارها العنصر الفاعل وراء اللغط الدائر حول مركز “تكوين”.
فيقول مفكرنا عن النتيجة/القناعة التي تصدرت مجموعة نتائجه / قناعاته:
  “بناءً على ما تقدم أبين ما يلي :
إن جماعة الإخوان المسلمين – المحظورة مصريا والمدرجة عربيا ودوليا ضمن المنظمات التي تغذي التطرف ، والتي تعتبر المصدر الأيديولوجي للإرهاب في العالم – لها اليد الطولى في إثارة هذا الجدل ، وفي تأليب الرأي العام وتحريض الأزهر ضد القائمين على هذه المؤسسة ، علماً أن تاريخ هذه الجماعة يثبت استخدامها الدين والمزايدة فيه من أجل مكاسب سياسية ، وكسلم للوصول إلى الحكم ليس بالطرق الديمقراطية ، بل تحت المبدأ ( الميكافيلي) : الغاية تبرر الوسيلة”.
وبالرغم من عدم دقة أحكام عامة، تجافي المنطق والواقع، من قبيل أن الإخوان هم المصدر الإيديولوجي للإرهاب في العالم (العنف الصهيوني ليس مصدره الإخوان)، وأنها تستخدم الدين كسلم للوصول إلى الحكم ليس بالطرق الديمقراطية (لم يصلوا الي الحكم إلا عن طريق الصندوق) ، بل تحت المبدأ (الميكافيلي) : الغاية تبرر الوسيلة”، إلا إن مفكرنا، خلافا للجدل الدائر، كان يريد أن يكون أكثر علمية وموضوعية فاستشهد بتصريحات متطرفة لمصطفى مشهور المرشد الخامس للإخوان، المتوفي عام ٢٠٠٢، يقول فيها: “نحن لا ننتصر إلا بالإرهاب والرعب… نعم نحن إرهابيون “. وبآراء معتدلة ومستنيرة للدكتور محمود حمدي زقزوق، وزير الأوقاف الأسبق، المتوفي عام ٢٠٢٠ يقول فيها: ” إن الحوار ضرورة شرعية وقيمة حضارية ينبغي الحرص عليها والتمسك بها وإشاعتها على جميع المستويات “.
وكلا الرأيين صدرا في سياقات مختلفة وفي تواريخ سابقة على الأزمة التي أثارها تدشين مركز “تكوين”. ومن خلال هذين الرأيين المتناقضين يخرج الأستاذ سكري بمركب قيمي لا يمكن أن يختلف عليه اثنان، وهو في التحليل الأخير رأي مفكرنا المعتدل والمستنير، فيقول: “إن الاختلاف الفكري بين الناس هو طبيعة بشرية ، فلا يجوز أن يعالَج إلا بالحوار البناء وبالتفكير لا بالتكفير”.
وما يهمنا هنا ليس الدفاع عن الإخوان التنظيم لكن عن الإخوان الباراديم، أي كنموذج للتفسير. فقد تبني مفكرنا باراديم الإخوان لتفسير حالة الجدل التي أثارها مركز “تكوين الفكر العربي” في صورة بدت عقلية موضوعية، لكنه وقع في شرك ضعف النموذج التفسيري الذي اعتمد عليه، ما أدى إلى الوقوع في الكثير من المغالطات التي لا فكاك منها. ويكفي أنه نسب للإخوان، وفقا لهذا التفسير، قدرات لا قبل لهم بها. وهي القدرات التي مكنتهم، على حد تعبيره، من التأثير في الأزهر والسلفيين والرأي العام والقضاء، بل في العالم كله كإيديولوجية إرهابية.
وإزاء ضعف الباراديم الإخواني لا يملك من يتبناه إلا أن يعمل طوال الوقت على سد الثغرات التي تتبدي فيه وتكشف عجزه عن التفسير، بالتوليف أو التلفيق أو ابتكار الحلول النظرية. وضح ذلك من تعليقات السادة الأفاضل على مقال الأستاذ سكري ممن مضوا معه في الاتجاه نفسه، مؤيدين لآرائه على طول الخط. فقد ذكر البعض أن هناك خبرا منتشرا بأن النائب العام أصدر قرارا بإغلاق “مؤسسة تكوين” وإحالة المسؤولين عنها إلى نيابة أمن الدولة العليا للتحقيق، وهنا سارع مفكرنا بالتعليق على الخبر قائلاً:
إن الموضوع أخطر بكثير من موضوع إغلاق مؤسسة تكوين وإحالة أعضائها إلى نيابة أمن الدولة ، وأعظم مما يتصوره البعض..!! إنه تغلغل جماعة الإخوان المسلمين في إدارات ومؤسسات الدولة والضغط على أصحاب القرار وإرهابهم وتخوفيهم وليّ ذراع الدولة لتحقيق ما يريدون”.
وهنا ينجح مفكرنا في إنعاش الباراديم الإخواني عندما يلجأ إلى مفهوم الدولة العميقة، الذي يمنح الإخوان القدرة غير المتناهية للتحكم في مفاصل الدولة. غير أن أحد المعلقين يعود ليهدم، دون قصد، ما بناه مفكرنا بعد أن اتضح أن قرار النائب العام أكذوبة، فيقول: “اعتقد ان موضوع إغلاق المؤسسة وتحويل اعضائها للنيابة إشاعة مغرضة من جماعة الإخوان للشوشرة وخلق رأى عام. والآن اتابع حديثا لإسلام البحيري فى برنامج الحكاية نفى فيه تماما تلك القصة المختلقة”.
أي أن الإخوان هم الفاعل الأصلي في كل الأحوال، سواء أكان الخبر حقيقيا أم كاذبا. والمشكلة كما ذكرت ليست في شخص القائم بتحليل الأحداث، لكن في النموذج التفسيري الضعيف الذي يتبناه. ندرك ذلك عندما نفهم من المقال والتعليقات أن الحكم على إسلام البحيري بالسجن لمدة سنة بتهمة ازدراء الأديان إنما كان بسبب أن الإخوان تغلغلوا في القضاء وأصبحوا يصدرون أحكاما ظالمة ضد المستنيرين وأصحاب الرأي الحر.
والحقيقة أن مسألة الدولة العميقة رغم وجاهتها لا يمكنها أن تنقذ الباراديم الإخواني الضعيف من ضعفه، لأنها فكرة تجافي الواقع. فلو أن الأخوان كانوا قد نجحوا في التغلغل في السلك القضائي لكانوا نفعوا أنفسهم في الأحكام الكثيرة التي صدرت ضدهم بالإعدام، وكان آخرها قد صدر في نفس التوقيت الذي كان يحتفل فيه المسلمون بأعيادهم الدينية!
إن تاريخ الباراديم الإخواني يرجع إلى الصراع السياسي على السلطة الذي حدث بعد أحداث ٣٠ يونيه، وكان الباراديم يعبّر عنه أحيانا بمصطلحات سياسية مثل “شيطنة الإخوان” وأحيانا بمصطلحات اجتماعية مثل “شماعة الإخوان” وكلها مصطلحات كانت مقبولة في معترك الصراع السياسي. ففي سياق الصراع السياسي كان مقبولا أن يتبنى البعض أي نموذج تفسيري، إخوان أو غير إخوان. لكن بعد انتهاء الصراع السياسي واستقرار السلطة في أيدي الجيش لم يعد هناك مبرر للاستمرار في تبني نفس النموذج الإخواني لتفسير الأحداث التالية، خاصة بعد القضاء على الإخوان وكسر شوكتهم. فالباراديم الإخواني ربما يصلح لتفسير الصراع الإيديولوجي بين القوى الداخلية، لكنه حتما سيفشل في تفسير الصراع الوجودي بين القوى الخارجية.
يتأكد ذلك من عجز الباراديم الإخواني عن تفسير وباء كورونا وحرب روسيا وأوكرانيا وإبادة شعب فلسطين في غزة. والمسألة ببساطة يمكن أن تُفهم إذا حاولنا أن نرى المشهد في ظل عالم أكثر تعقيدا من أن يفسره نموذج الإخوان، وإلا سنضطر، إذا أصررنا على الاستمرار في تبني هذا النموذج، إلى التلفيق من أجل سد ثغرات النموذج التي ستكون، في هذه الحالة، أكثر اتساعا، وهنا لا ينبغي أن نستغرب إذا وجدنا من يربط بين الإخوان والصهيونية، أو بين الإخوان والماسونية، أو بين الإخوان ومخلوقات قادمة من الفضاء الخارجي.
إن الباراديم الإخواني، خلافا لما يعتقده الكثيرون من التنويريين، لن يكون، بعد اليوم، مساعدا على الفهم بقدر ما سيكون عقبة في طريق الفهم. والمرحلة التاريخية التي يمر بها العالم، لا العرب أو المسلمون فحسب، تحتاج إلى نموذج تفسيري أكثر خصوبة ومرونة بحيث يمكنه مساعدتنا على فهم الكثير من الظواهر الكارثية، التي تبدو متناقضة وعصية على الفهم، بحيث لا تشغلنا ألاعيب الإخوان أو ماضوية السلفيين بقدر ما تشغلنا أسئلة إقليمية كونية في آن، من قبيل لماذا تكثر مهرجاناتنا الفنية وأفراحنا وليالي ملاحنا في الوقت الذي يُباد فيه شعب فلسطين ؟! ولماذا هذه الوجوه بالذات، وفي هذا الوقت بالتحديد يُعلن عن تدشين مركز “تكوين الفكر العربي”؟!!
إن المؤمرات الدولية لتقسيم المنطقة، والحروب البيولوجية، والتغيرات المناخية، والهندسة الوراثية، والخطوات المتسارعة في ميدان الذكاء الاصطناعي، والاتجاه نحو السيطرة على عقول البشر، كلها عناصر فاعلة، ومؤثرة في الطريقة التي يفكر بها العالم. وبهذا المعني ينبغي أن نربط تفكيرنا بهذا المنظور الكوني وأن نخرج من الكهف الإخواني المظلم، الذي لن يحركنا خطوة واحدة إلى الأمام بقدر ما سيعيدنا آلاف الخطوات إلى الوراء!
كنت اتمنى أن احتفي بمقال مفكرنا الكبير، وأصفق له كما فعل باقي أصدقائي وأساتذتي من التنويريين، لكن عذرا، فأنا أتحدث من منطلق نموذج تفسيري مختلف، أزعم أنه يتجاوز الباراديم الإخواني بمراحل!


أضف تعليق