د. ماهر عبد المحسن


منذ عدة أيام شاهدت الفيديو الخاص بيوم حفل زواجي، ورغم أني سبق وأن شاهدته من قبل مراراً إلا أني في هذه المرة انتابني شعور مختلف، شعور مقبض. فقد لاحظت أن بعض المدعوين قد رحل عن دنيانا، والبعض الآخر رحل عن حياتي، والبعض الثالث الذي لم يرحل عن دنيانا ولا عن حياتي رحل عن الوعي أو عن اهتماماتنا المشتركة، ولم يتبق سوى أرواح هائمة  أو أشباح أثيرية تعربد فى عالم بعيد طواه النسيان.
للماضي أهمية خاصة لدى الإنسان، لأنه مستودع الذكريات، ولأنه يثير الشعور بالشجن، خلافاً للحاضر الذي يتسرب من بين أيدينا سريعاً ولا نستطيع أن نقبض عليه، و خلافاً للمستقبل الذي يرتبط بالتوقع وبالخيال، وهي عمليات عقلية لا تتماس مع الشعور والوجدان.
وأهم ما يميز الماضي أنه لا يعود. يمكن أن نستحضره من خلال الذاكرة، لكنه لا يعود. وقد عّبر مرسى جميل عزيز عن هذا المعنى فى أغنية ”فات الميعاد” التي شدت بها كوكب الشرق فى كلمات شهيرة عندما قال: “عايزنا نرجع زي زمان قول للزمان إرجع يا زمان، وهات لى قلب لا داب ولا حب،  ولا انجرح ولا شاف حرمان”. والاستحالة هنا خاصة بإعادة إنتاج شروط الوجود الخالص، والحياة الأولى المبرأة من خبرة الحب القاسية الدامية. وهى الاستحالة التي حاول زيمكس أن يتجاوزها في فيلمه الخيالي العلمي “العودة الى المستقبل “، حيث استطاع البطل عن طريق آلة الزمن أن يرجع إلى الوراء ويغير في شروط الماضي من أجل حل إشكالات الحاضر التي هي بمثابة المستقبل بالنسبة للماضي.
والعودة للماضي تتحقق غالباً فى قالب كوميدي أو رومانسي كما حدث فى فيلم “العودة إلى المستقبل” الأمريكي و”شهير وبهير وزهير” المصري. وعلى العكس يأتي الماضي مصحوباً بالفزع. حدث ذلك على يد ستيفن سبيلبرج الذي أعاد الحياة للديناصورات على الشاشة الفضية تحقيقاً لفكرة مجنونة كتبها مايكل كرايتون فى فيلم “الحديقة الجوراسية”، وحدث على يد أنور وجدى في تمصيره لرواية ألكسندر ديماس “الكونت دي مونت كريستو” من خلال فيلم “أمير الانتقام” الذي تجسد فيه الماضي في شكل إنسان عاد لينتقم. و قد أتى الرمز واضحاً ومباشراً فى عبارة “حسن الهلالي” المتكررة، التي كان يلقيها على مسامع ضحاياه قبل أن يقتص منهم، ويزهق أرواحهم بلا رحمة “أنا الماضى .. أنظر أبعد “.
والماضي أيضاً مخيف ومرعب إذا استطعنا أن نوقفه ونجمّد لحظاته عن طريق التصوير الفوتوغرافي. فقد استطاع رولان بارت أن يقدم لنا مرثية حزينة فى كتابه الوحيد الذى خصصه لفن التصوير “الغرفة المضيئة” عندما بحث في ألبوم ذكريات العائلة عن ماهية التصوير، وتوصل إلى أنه يكمن في قدرة اللحظات الماضية على أن تظل ثابتة وحاضرة أمامنا رغم زوالها من الوجود، وهو ما ساعده على تفسير الشعور بالحنين، الذى كان ينتابه عندما كان يشاهد صور الأم المتوفاة، التي كان مرتبطا بها بقوة.
غير أن تجميد اللحظات الفارقة في أحداث الحياة من شأنه أن يفتح على صاحبه أبواب الجحيم. حدث هذا مع المصور الصحفي “شمس” أو “نور الشريف” فى فيلم “ضربة شمس”، باكورة أعمال المخرج الكبير محمد خان، عندما استطاع أن يلتقط كلمة مكتوبة فى ورقة قبل أن تحترق. وهى الفكرة التى التقطها أحمد مراد، كاتب الشباب الأشهر وصاحب الكتب الأكثر مبيعاً، ونسج على منوالها أحداث روايته الأولى “فيرتيجو” عندما قام مصور أفراح بتصوير جريمة قتل أثناء وقوعها.
لا شك أن للماضي سحره الخاص إذا ظل محتفظاً بمكانه البعيد باعتباره ماضياً، لكنه حتماً سيفقد هذا السحر ويتحول إلى كابوس، إذا ما تجسد أمامنا فجأة فى صورة شبح قادم من العالم الآخر، أو فى شكل حيوان خرافي خرج لتوه من حفريات ما قبل التاريخ، أو إذا صحا أحدنا ذات يوم فجأة، واكتشف أنه لا ينتمى إلى هذا الزمن، لكن إلى زمن آخر بعيد، مثلما حدث مع أهل الكهف في مسرحية توفيق الحكيم التى تحمل نفس الاسم!!


أضف تعليق