د. ماهر عبد المحسن


في كثير من الحالات يتجلى خطاب السلطة الذي يتوجه إلى الشعب من خلال مؤسسات الدولة، خاصة تلك التي تقدم خدمات مباشرة للمواطنين مثل مترو الأنفاق. والحقيقة أن العلاقة بين موظفي المترو وبين المواطنين لها تجليات كثيرة ذات دلالة.
ومن هذه التجليات ذلك الخطاب الذي تتوجه به هيئة المترو إلى الركاب، والذي يُبث عبر الميكروفون. فمنذ عدة سنوات كان يتردد صوت لأحد العسكريين المجندين في محطات المترو، حاملا لهذه الرسالة التحذيرية، كلما اقترب مترو من المحطة:
“على السادة الركاب الابتعاد عن حافة الرصيف، والانتشار بطول الرصيف، حرصا على سلامتكم”.
وبعد افتتاح الخط الثالث تم صياغة رسالة أخرى تتردد بصوت نسائي رقيق على النحو التالي:
“على السادة ركاب الخط الأخضر الثالث الابتعاد عن حافة الرصيف، حرصا منا على سلامتكم”.
والفرق بين الرسالتين واضح وكبير، فالرسالة الأولى تحمل روح السلطة في صورتها العسكرية، وذلك من خلال الصوت الرجالي الأجش، الذي يتحدث بنبرة آمرة، ومن خلال الصياغة العسكرية الواضحة التي تأمر المواطن باتباع سلوك معين وفي الوقت نفسه تحدد له الطريقة التي ينبغي أن ينفذ بها الأمر “الانتشار بطول الرصيف”. وهو تعبير عسكري بامتياز يذكرك بانتشار القوات!
أما في الرسالة الثانية، فتشعر بالحميمية بنحو أكثر، لأن المتحدث امرأة، ولأن الرسالة تحتوي على ألفاظ أقرب للحياة المدنية الذي يعيشها المواطن متلقي الخطاب، من قبيل “الخط الأخضر”، الذي يحمل معنى النماء، ومن ثم يترك في النفس أثرا مريحا وطيبا. كما أن استخدام تعبير “حرصا منا على سلامتكم” يترك انطباع بأن أمن المواطن مسؤولية الدولة، وأنها مسؤولية تجد مصدرها في طبيعة العلاقة الودية بين الطرفين، التي تجعل السلطة بمثابة الأب أو الأم بالنسبة للمواطن، ولا تجعلها بمثابة القائد الذي يدير ثكنة عسكرية!
إن التحول من الدولة العسكرية إلى الدولة المدنية مسألة معقدة، تتجاوز مجرد الخطاب اللفظي بين السلطة والشعب، لكن يظل التحول في طبيعة الخطاب مقدمة مهمة وضرورية في تصويب هذه العلاقة.


أضف تعليق