د. ماهر عبد المحسن
في روايته الأخيرة ” موت مواطن شريف” يواصل الشاعر والقاص المبدع إبراهيم محمد رحلة البوح التي بدأها في رواية “جلابية سودا”، والتي تعد بمثابة الجزء الثاني لهذه الأخيرة، بل يمكن القول إن رحلة البوح ترجع إلى أعمال الكاتب الشعرية، والتي كان آخرها “قبلات مستعملة”. فالكاتب كما لاحظنا في ديوانه المشار إليه إنما كان يمزج ما هو مجازي بما هو واقعي، بحيث كانت تأتي تجربته الشعرية انعكاسا لخبراته الإنسانية في الحياة، وعلاقاته بالعالم وبالآخر الذي ينازعه هذا العالم.
فلا يمكنك أن تفصل إبراهيم الشاعر عن إبراهيم الإنسان، كما لا يمكنك أن تفض الاشتباك الذي بينه وبين الآخرين، فثمة مشاعر سلبية تجاه الآخرين تملأ صدره، ورؤية سوداوية، لا تخلو من تهكم، تجاه العالم تثقل وعيه. لهذه الأسباب تأتي روايته “موت مواطن شريف” بمثابة السيرة الذاتية للكاتب، وإن لم يصرح بذلك. ولعل في احتفاظه بالأسماء الحقيقية للشخصيات، واستخدامه لضمير المتكلم كآلية للسرد، ما يدعم هذا التفسير. وليس أدل على ذلك من أنه أهدى روايته للأب “إلى فروع شجرة غرسها محمد إبراهيم”، وللأم “لم أجد أكثر شجنا وأكثر شاعرية من اسمها.. نعمات عبد العظيم.. لها المجد”، وللكاتب نفسه باعتباره الشاهد الوحيد على وقائع الموت التراجيدي لأفراد عائلة مسمومة كان يأكل بعضها بعضا “ماتوا جميعا وتركوك منفردا كأنك أنت اللحاد الوحيد”.
وبالرغم من أنه ورث القسوة من الأب والحب من الأم إلا أن الكراهية كانت هي الشعور الغالب على نفسه، ما يجعلنا نرجح أن الكاتب، في روايته، إنما كان يمارس نوعا من الثأر الفني، الخيالي، الذي عجز عن تحقيقه في الواقع! فأخلاقية الفنان الشريف التي تعجز عن مواجهة عالم غير شريف لا تتورع عن أن تحكم عليه قبضتها حين تجعله موضوعا لتأملها البغيض!
“موت مواطن شريف” تذكرنا بقصة “موت موظف” لتشيكوف، وقصة “موت رجل تافه” للكاتب الراحل سيد عبد الخالق، الصديق الصدوق للكاتب، الذي ورد اسمه أكثر من مرة في الرواية. وروايتنا تنويعة على هاتين القصتين، خاصة الأخيرة، اللتين ترثيان موت البراءة والشرف في عالم لا يحفل بالبسطاء الذين يعيشون على هامش الوجود، بحيث يعيشون ويموتون دون أن يشعر بهم أحد! غير أن رواية إبراهيم محمد، التي تختلف عن القصة القصيرة بطبيعتها، تغوص أكثر في شخصيات العمل وتجعل من فكرة موت المواطن الشريف نقطة انطلاق لرمزية اجتماعية وفلسفية تغلف أحداث الرواية المفعمة بكل الأسي وكافة المرارات.
ما يميز “موت مواطن شريف” أن كاتبها شاعر بالأساس، الأمر الذي أضفى على السرد الكثير من روح الشعر، فبالرغم من أنها مليئة بالشخصيات، إلا أن حجم الرواية لم يتجاوز ال ١٠٦ صفحة. فالعبارات كانت قصيرة ومكثفة، والصور الشعرية كانت واضحة ومعبرة عن سخونة المواقف وغرائبية الشخصيات. والحقيقة أن العلاقة المتوترة بين الكاتب، بطل العمل، وبين العالم هي ما جعلته ينحو بشعرية الرواية تجاه استطيقا القبح، بحيث نجح في التقاط كل ما هو شائه في العالم وما هو شائه في النفوس وفضحه أمام القارئ.
فما هي ملامح الكراهية التي حركت إبراهيم، الكاتب والشخصية، نحو الكتابة؟ وما هي الملامح الجمالية لاستطيقا القبح التي عبّر من خلالها عن معاناته ونفّذ بها انتقامه؟ ولماذا كان للموت هذا الحضور الطاغي منذ العنوان وحتي الصفحة الأخيرة من الرواية بالرغم من أن إبراهيم لم يكن قاتلا أو منقذا، لكن متفرجا على وقائع الموت والحياة كشريط سينمائي كئيب؟!
هذا ما سنحاول الإجابة عنه في السطور التالية.
1- أبجديات الكراهية:
يبدأ إبراهيم الرواية بموقف عبثي من الكراهية، فلم يعد يكره أشياء كان يكرهها فيما مضى، ولم يعد يتمنى الموت لأحد كما كان حاله دائما، ليس ترفعا عن موقف شرير يستوجب الانتقام، لكن لأن الله لم يعد يستجيب لدعواته القاتلة، فيقول:
“لم أعد أكره أشياء كثيرة كنت أكرهها فيما مضى ولم أعد أتمنى الموت لأحد على الأقل لأجل غير مسمى ربما لأن الله لم يعد يستجيب الرغبة القديمة التي خفتت”(ص1١).
ويلاحظ أن الكاتب لم يبرأ من الكراهية تماما، وكل ما في الأمر أن رغبته الشريرة قد خفتت ورغبته في الانتقام قد تأجلت لأجل غير مسمى. فالكراهية عند إبراهيم ليست مجرد فكرة عابرة أو رغبة مؤقتة، لكنها شعور متصل داخل الوعي يحتاج إلى إعادة الشحن من آن لآخر، وفيما يبدو فإن إبراهيم، من فرط المعاناة والقهر، لا ييأس من روح الانتقام، أو تجديد نيته في كراهية العالم، فهو عندما يحشو القلب بالكراهية فكأنما يحشو مسدسا بالرصاص تمهيدا لفعل الانتقام، فيقول:
“أحشو القلب بالكراهية كي تخرج دعوات شريرة قدر المستطاع عسى أن تقبل في وقت تشهده الملائكة التي أكاد أؤمن بوجودها”(ص١٥).
ومسألة الإيمان باتت مشكوكا فيها، لأن النزعة البرجماتية التي تريد أن تستخدم قوى السماء من أجل تحقيق الثأر لم تعد تجدي في ظل عدم استجابة الله وملائكته. ومسألة الكراهية تأتي في سياق حياة إبراهيم اليومية، أثناء الأكل والشرب، ما يعني أن الكراهية صارت خبزا يوميا لهذا الرجل الذي يتعاطى الذل والهوان بالدرجة نفسها، فيقول:
“لا أمد يدي للطبق البلاستيكي المبهم قبالتي، لم تعد لي شهية لأي شيء حين انكسرت في أشياء كثيرة”(الموضع نفسه).
ويقول في موضع آخر:
“في كل قضمة مبتلة بدمع القهر والحسرة دعوات بالثبور على سنية وحامد وآخرين”(ص٢٨).
غير أن الكراهية عند إبراهيم لا تأتي اعتباطا، لكن على أساس من فهم الآخر، الذي قد تأتي شخصيته غامضة، فلا يستحق سوى موقف محايد، كما هو الحال مع ماجدة أخت رضا (الزوجة)، فيقول:
“لم أستطع أن أكرهها كما لم أشعر نحوها بأمان، كانت تحافظ على انفعالات وجهها فلا تعرف إذا كانت تؤيد أم تسخط”(ص٣٩).
وليس بالضرورة أن تأتى الكراهية نتيجة لمشاعر متراكمة من القهر والمهانة، لكن يكفي عبارة واحدة ذات دلالة حتى تكون سببا في مسلسل طويل من الكراهية ربما لا ينتهي أبدا، فنقرأ:
“- مؤهلك مش مناسب يا أستاذ، يبقى جدولك أولى وتانية وتالتة ابتدائي…
كانت العبارة شرارة كراهية من عزوز في بداية قبولي بالمدرسة، همس لي محمد قبيصي مدرس الدراسات إن وجودي أشعل خوفا أن أسحب منه طلبة السنتر”(ص٤١).
غير أن للكراهية فلسفة في غير عالم الشرفاء، هي مزيج من النفاق والبراجماتية، فلا معنى لأن تكره أحدا ما دامت هناك مصلحة تربطك به، كما أنه ليس هناك حاجة للمبادئ طالما أنك سوف تتعامل مع الآخرين بوصفهم وسائل لا غايات في ذاتهم بنحو ما كان ينظّر كانط أبو الأخلاق المثالية، وفي هذا الحوار، البسيط في لغته، الخطير في معناه، الذي دار بين إبراهيم وقبيصي، ما يعكس هذه الفلسفة:
“سألته عن شيء لا يكرهه قال:
– مفيش حاجة اسمها كره وحب لكن فيه حاجة اسمها إزاي تستفيد…
قلت؛
– والمبادئ!
قال:
– ده كلام الشعراء اللي زيك، مبدأ جاي من البداية والبداية لازم تبدأ بمصلحة وتنتهي بمصلحة.
– يعني لو حد أهانك؟
– ولا كأن الموقف ليا أو كأني ما سمعتش، عدوك هو الحساسية يا مستر، انت مكانك مش هنا ولا زمنك دلوقت”(ص ص٤٢-٤٣).
وبهذا المعني يقدم قبيصي، بنحو تهكمي، روشتة العلاج لأمراض الفضيلة المزمنة، التي تعلق بصحة الشرفاء، الذين يعيشون في غير زمانهم ومكانهم، وكأنهم قادمون من كواكب أخرى بعيدة. فالحساسية هي التي تجلب الكراهية، ومحاولة احتفاظك بإنسانيتك حتي النهاية هو ما يعجل بنهايتك! والقدرة على ممارسة النفاق وإجادة اللعب على كل الحبال هي المهارات الأساسية التي ينبغي أن يتعلمها كل من يرغب في مواصلة الحياة في مثل هذا العالم الدنيء، فيقول قبيصي، فيلسوف الأخلاق النفعية:
“كل واحد له شفرة، حتى مستر عزوز تقدر تلعب عليه وتاخده تحت باطك، يا مستر انت كبرت وحابس نفسك في علبة صغيرة قوي”(ص٤٣).
لكن يظل لإبراهيم فلسفته الخاصة، المختلفة جذريا عما ينصح به مدرس الدراسات، فهو لا يستطيع أن يتلون بحسب المواقف والأشخاص، بحيث يكون مرة طيبا، وأخرى شريرا، فأهم ما يميز الشرفاء إصرارهم على المبدأ حتي لو كان شريرا. وبهذا المعنى لم يفكر إبراهيم، المتلفع بكراهية لا حدود لها، في أن يغير ثوبه، لكن في أن يغير جلده كلية بحيث يصير إنسانا آخر، إنسانا شائها يتناسب وكم الكراهية التي يحملها في داخله، وكأنه يعلن لا موت المواطن الشريف فحسب، لكن موت إبراهيم الشاعر كذلك، فيقول:
“لم يعد صعبا أن اعتاد وحدة بعد وفاة سيد وغيابي الطويل عن أمسيات الأتيلية وجلسات زهرة البستان، لم يعد ثمة أمل أن أستعيد نفس الشخص الذي ما زلت أحمل اسمه وألبس ملامح أبيه: أنا إبراهيم، أنا من سلالة تبدأ بي لا أشبه أحدا، سأخلع هذه الملامح عما قريب، أكون شخصا خليطا مدهشا أكثر شرا من نوح وأخبث من حامد وأشد نجاسة من سنية”(ص ص٦٠-٦١).
وكما لإبراهيم فلسفته في الكراهية، فله أيضا فلسفته في الانتقام، إنه لا يملك دموية الكونت دي مونت كريستو بحيث يقتص من ممن أذوه، بيده، واحدا واحدا، لكنه فقط يكتفي بمحض الكراهية التي تملأ صدره، ليقف متفرجا، شامتا في أعدائه وهم يتساقطون أمامه صرعى بمعول القدر، فيقول:
“أبلغي الله يا أمي إذن أنني سأستعين به كي أقتل تلك الكائنات التي تسقط واحدا تلو الآخر كصخور من منحدر جبل”(ص٧٧).
إنه لا يقتلهم فعليا، لأنهم يموتون دون تدخل منه، ولا يملك أن يغير شيئا من عالمهم الكريه، فقط يمكنه أن يمنعهم غفرانه، ومسامحتهم علي ما اقترفوه من جرائم في حقه وفي حق الأم، التي ماتت مقهورة، قبلة. إن سلاحه في مضمار الانتقام ليس السكين أو المسدس، وإنما الوعيد والثبور، فيقول مبررا رفضه لرسالة الأم التي جاءته في صورة حلم في المنام:
“إن كانت هذه هي رسائلك يا أمي فسوف أرفضها جميعا، ليس من صلاحياتي أن أغفر، مهمتي هي أن أتعجل الله ليلقوه سريعا ثم احتفظ لنفسي بحق اللعنة التي سأصبها عليهم جميعا”(صص٨٠-٨١).
لكن كراهية إبراهيم الرومانسية وانتقامه الناعم لهما حد لا يتجاوزانه، لأنه ليس شريرا على الأصالة، ولا قاتلا بالفطرة، لكنه، إن جاز التعبير، مجرما بالصدفة، دفعه حظه العاثر إلى كراهية الآخرين، ومحاولة القصاص منهم بنحو معنوي، بأن يصب عليهم لعناته، مطالبا الرب بأن يعذبهم في أتونه المستعر دون أن تأخذه بهم رأفة. إن إبراهيم يتراجع خطوة في طريق انتقامه عندما يطلب من الله أن يغفر لأعدائه لكن بعد أن يعذبهم في الجحيم، فيقول:
“ليست من صلاحياتي أن أعفو كما قلت لك. ليستدع الله فورا كل من آذاني أو آذاك يغفر لهم كيف يشاء لكن ليس قبل أن يقضوا فترات طويلة في الجحيم”(ص١٠٥).
وفي خطوة أخرى، يبحث إبراهيم عن إشارة من السماء تدفعه للغفران بنحو ما كانت تصنع الأم، فيقول:
“أريد إشارة فورا يا أمي، إشارة واضحة كي أغفر مثلك، واضحة كصفاء روحك يا حبيبتي”(الموضع نفسه).
وتأتي الإجابة سريعة، وكأن السماء كانت تقف في صفه، وكأن الله لم يرد له أن يستكمل حياته بثياب الشر التي حاكها الشيطان، فنقرأ:
“ثمة من يربت بهدوء على كتفي، ألتفت ببطء، كانت هي، نفس الجلباب الأسود ونفس العينين، تدمع دون بكاء… حضنتني برفق، دفء العالم الآن بين يدي، أستعيد بوصلتي قليلا، تذوب صفحات الجليد، ينمو في القلب برعم حب للحياة”(ص١٦٠).
2- جماليات القبح:
الروح الرومانسية التي كانت تستوطن بها الكراهية في قلب إبراهيم، والتي حولت انتقامه إلى لون من السرد الشعري يتحقق على الورق كأداة فضح وتنكيل، تلك الروح هي التي جعلته لا يرى من العالم سوى نصفه البغيض. فلم تعد تلتقط عيناه إلا كل ما هو سيء وقبيح، سواء في البشر أو في الأشياء. فيقول:
“كنت أفكر كثيرا في العودة إلى بولاق الدكرور بعد أن تشردت في المرج القديمة، مدينة لا يشبه فيها ظل لأي مرج إلا أنها فعلا قديمة، وجوه أهل المرج تتشابه ووجوه سكان بولاق الدكرور غير أن مفردات جديدة أزاحت قيما وأقامت قوانين جديدة للأقوى والأكثر ثراء والأشد نفوذا، ثلاثي القهر الذي أذلني طوال أعوامي التي سئمت عدها”(ص١٣).
وفي موقف وجودي لا يخلو من عبث، بعد طرد إبراهيم من البيت في مغرب رمضاني غريب، يجد بطلنا نفسه متورطا في مائدة رحمن بين حفنة فقيرة من البشر المساكين الذين ينتظرون طعام الإفطار وداخلهم شعور بالامتنان ممزوج بحالة من الخشوع غير المألوف. ومن خلال لغة شعرية محملة بالأسى يكشف الكاتب عن مأزق الوعي المثقف حين يجد نفسه موضوعا لأعمال البر، المخصصة لمن هم دونه في سلم الإدراك والترقي المعرفي. إنه وعي شقي بامتياز، لكنه لا يخلو من تعاطف مع الآخرين، وإن كان تعاطفا مشوبا بالحذر، وممزوجا بشيء من التعالي المضمر، فنقرأ:
“لم يعد سوى مائدة الفقراء في زاوية لا ينقصها مياه المجاري التي تحيط باللاجئين مع مطر خفيف ينقر رأسي، جلست تغلفني رعدة تترجم مرارة النفس وكسرتها كما لو أن نبيا عجوزا فقد بصره بعد أن يئس من عودة يوسفه، أحاول حبس ماء العين وأمسح أنفي بكم القميص المتسخ أتحاشى نظر هؤلاء الجالسين أمامي في انتظار جودة ممزوجة بامتنان مكتوم، ملابسهم تشي بما لا تحوي مآوييهم ونظرات خاشعة ربما ليس بفعل الجوع الذي اعتادوه”(ص١٥).
وتتبدى خبرة الجوع كلحن مميز في حياة بطلنا اليومية، بحيث تعكس انهيارا في واحدة من أسباب حيازة الدنيا، بنحو ما يفصح الخطاب الديني، وهي امتلاك قوت اليوم، فلا يجد إبراهيم سوى الحيلة بعد التخلي طواعية عن الكرامة، خط الدفاع الأخير ضد عالم شرير لا يجيد سوى التفنن في اختراع آلات التعذيب كي يذل الشرفاء، فيقول:
“قررت مغالبة النفس والتغاضي عن كرامة قابعة في قاع الروح أن أفتح كيسا أسود أضعه على المقعد الأول لتلقي فيه البنات بقايا سندوتشات مخبأة في أدراج المقعد وفي ممرات الفصول، أوكد لهن مرارا أن بقايا الأكل معرضة للوطء بأحذيتهم فيما لا يجوز حتى ولو عن غير قصد، حيلة لأختلي بالكيس الكبير ككلب يخفي ما يجد كما لو كان كنزا”(ص٢٨).
ومرة أخرى يصف إبراهيم، بعين مجهرية، لحظات قاتمة من حياة الوعي الشقي، الشاعر دائما بالقهر، المحمل بأكبر قدر من كراهية الآخرين، من يتذكرهم رغبة في الانتقام، ومن ينساهم في زحمة الأسى واليأس من كل شيء، فنقرأ:
“وعلى سلالم رخامية لأي بوابة مغلقة في مقدمة الليل في شارع جانبي مبهم أفرز وأستبعد بقايا كسرات تسللت رائحة تحللها، ثم أنفض عن سندوتشات الرومي واللانشون والكفتة ما علق فيها من تراب ورمل حوش المدرسة، في كل قضمة مبتلة بدمع القهر والحسرة دعوات بالثبور على سنية وحامد وآخرين”(الموضع نفسه).
ويظل الآخر هو الجحيم الوجودي لإبراهيم، الذي يهدد حياته البائسة، ويفسد عليه لحظات المسرة العابرة، التي يسترقها من العالم تحت جنح الليل. إنه لا يشعر بالسعادة، والفرحة المؤقتة ترف لا يحلم به، فقط يسعى إلى نوع من السكينة الزائفة التي تملأ لحظات يتمني أن يغفل فيها البشر عنه، خاصة عندما يمارس فعلا مخجلا بمعايير النفس الشريفة التي اعتادت العزة والترفع عن الصغائر، فيقول:
“كنت أخفي الكيس ويتوقف الفم عن المضغ حين أجد عابرا يقترب، يمر بي الخيال فأجد أولادا يشيرون إليّ في سخرية فأجد طيفي يهب يجري ويسد أذنيه ثم يختفي في جلباب الليل الأسود كشبح هزيل”(نفسه).
القبح عند إبراهيم يملأ النفس والعالم، فكل المعاني العليا تنهار أمامه لتصبح جزءا من بيئة عفنه تحاصر ليله ونهاره، وتجعل من آماله وأحلامه، الشيء الوحيد الذي يملكه في هذا العالم، هزائم وانكسارات. إن كآبة النفس وجهامة الحياة هما قطبا جدل لا ينتهي حول سردية الهزيمة واليأس، فيقول:
“أمشي تملأني هزيمة في معركة لم أرغبها، النصر فيها يشبه الهزيمة، وراية الانتصار تشبه مؤخرة متسخة، أنادي نفسا انسكبت هناك في شوارع عين شمس القديمة في مجارير طفحت في أركانها وانداحت في رائحة عفنة لا يجدي معها كل مياه الأمطار التي امتزجت بذلك الليل فصار صبغة سوداء، لون أمالي التي رسمتها على جداريات من دخان”(صص ١٦-١٧).
وبعد قبح النفس وقبح العالم يمتد نظر إبراهيم إلى قبح المخلوقات، الإنسانية بخاصة، فعلاقته المتوترة بالآخرين لا تجعله يراهم إلا في صورة شيطانية، صورة حقيقية وإن بدت على سبيل المجاز اللغوي. فالقارئ لن يجد صعوبة في إدراك تلك الملامح الشريرة التي رسمها إبراهيم ببراعة عندما يصف واحدة من هذه المخلوقات التي تشبه ميدوسا قائلا:
“كان اشتباك دام، بدأته سنية بعد محاولات استفزاز منذ الليلة الأولى، تغيرت أو ظهرت بصورتها التي أراها الآن، قرون حادة تنبت في الرأس وأنياب وذيل ملتو وشوكة، لم أكن اهتم وهي تبرر لى في تكرار -كأنها تحفظني- حالات الصرع التي تعاني منها أم سعد”(ص ١٧).
وتظل العين المجهرية أداة إبراهيم لرصد القبح في تفاصيل العالم الدقيقة، فالأشياء الصغيرة التي تخطئها العين المجردة من فرط الإلف والعادة تجعل الوعي المستأنس يعقد معها سلاما آثما، يتنازل فيه الطرفان عن الاعتراف بالقبح المتبادل بين الإنسان والعالم، يتبدى ذلك بوضوح في وصف إبراهيم لحجرة المدرسين عندما يقول:
“حجرة قذرة بموائدها الكبيرة الثلاث يعتليها دفاتر التحضير وكتب ومصاحف وبقايا طعام وأثر شاي منسكب وبقايا سجائر مبتلة في أكواب زجاجية على مائدة تغير لونها، فضلا عن مناديل ورقية مكرمشة متسخة يزيحها جانبا من يجلس ليكتب في تعايش مثير معها رغم سلة المهملات القابعة تحت المائدة”(صص٤٣-٤٤).
وبخبرة شاعر فينومينولوجي محنّك يكشف كاتبنا عن المفارقة الصارخة، الناجمة عن الصراحة الفجة التي تعبّر بها الأشياء عن قذارتها بنحو أكثر مباشرة، والوعي القبيح الذي يصرّ على أن يضفي على مظهره مسحة من جمال زائف حتى يحقق لنفسه انتصارات وهمية لا يحفل بها إبراهيم، ولا تعني له أكثر من كونها تصلح موضوعا لتهكمه السادي الذي يطال العالم كله، فنقرا:
“في الركن سخان القهوة وأكواب الشاي وطبق يجذب الذباب على بقايا الطعام، كنت لا أستسيغ رائحة تفوح من أجساد تحللت وهي تتزين بأحدث ماركات العطور وترتدي براندات الملابس في مفارقة بين الملابس والمكان هنا في حجرة كبيرة صاخبة”(ص٤٤).
وبالرغم من مظاهر القبح البادية في النفوس وفي مفردات العالم يظل قبح السلوك هو أقسي وأفظع ألوان القبح، لأنه لا يقف عند حد المشهدية بحيث تنفر منه العين أو يتصالح معه الوعي، لكنه يصيب الكرامة في مقتل، ويسحق الجميع تحت عجلاته، الأشرار والأخيار، فلا تملك إلا أن تتعاطف مع الكل، لأن الأنا تدرك في لحظة مرعبة، أن للقبح جلال يفوق جمالياته، وأن ثمة قوة غاشمة تعلو الجميع، وفي هذا المعنى يصور كاتبنا مصير أحد الأشقياء عندما يحاول أن يخالف السلطة بأن يكف عن أن يكون مواطنا شريفا بالمفهوم الذي تراه هذه السلطة، فيقول:
“حتى سمارة حاول أن يتخلص من مهنة المواطن الشريف كما لو كانت إرادته لا تخص من يستعمله في قسم الشرطة فقضى ليلة لا ينساها في الحجز علقوه من رجليه في وضع معكوس عاريا، حشروا في مؤخرته عصا كهربائية غير السباب والبصق، لم يتم العفو عنه حتى بعد أن استسلم ورضخ ربما لتأديبه كى لا يبول الشيطان في رأسه ويقرر من لا ينبغي أن يفكر”(ص٧٣).
ولا يتوقف القبح على ممارسات السلطة الداخلية، لكن الخارجية كذلك، فامتلاك القوة هو أساس التنكيل، والتعذيب الذي يقهر الكرامة ويذل النفوس هو أداة هذه السلطة، عبر التاريخ، لفرض هيمنتها على الأفراد، أو حتى الجموع التي لا تحظى بامتلاك القوة ذاتها، حدث ذلك مع شرير آخر خارج البلاد، عندما وقع في يد قبضة لا ترحم، فنقرأ:
“خمنت ما وراء السؤال الساذج، كريم ابن حامد، حامد الذي تسربت الأخبار رغم الحرص الشديد على كتمانها، أن أحد الأمراء جلده ثم توعده بالترحيل بفضيحة من المملكة بعد أن تحرش بإحدى زوجاته ولم يتم التأكيد على بتر عضوه ممن كان معه، حاول فتوح نفي ما حدث ثم التعتيم على الخبر حتى سمعت رضا تردد ما أكدته ماجده التي طلبت الطلاق”(ص٧٤).
ومن خلال سردية تراجيدية مؤلمة يصف إبراهيم واحدة من وقائع القبح التي تمس السلوك، عندما يحكي عن تفاصيل معركة شوارع تروح ضحيتها سنية، تلك المرأة الشريرة التي اعتادت إيذاء الغير دون أن يجرؤ أحد على إيقاف أذاها، فنقرأ:
“يبدأ احتكاك واهٍ معها، ثم كان اشتباك سريع مفتعل استمر مع سب وضرب وعض دون خطوط حمراء حتى بدأت أكثر النساء شراسة في تنفيذ مخطط مسبق كما لو كانت إشارة متفق عليها، تمزيق ملابس سنية ثم الإيقاع بها أرضا، تمسك إحداهما ساقا والأخرى الساق الأخرى وفي تباعد الساقين مدت الرابعة يدها في عصبية ونشوة بنزع ما لا ينزع حتى ظهرت أشياء تسوء”(ص٨٦).
ولا يقف إبراهيم في سرده عند هذه الإيماءة، لكنه يواصل وصف تفاصيل المشهد التراجيدي القبيح، في شيء من التشفي، أو الانتقام الفني الخفي الذي يمارسه، كعادة سرية، على طول الرواية. والملاحظ أن اغتصاب الجسد هو السمة القميئة التي تميز القهر الواقع على البسطاء من الناس، الأشرار بخاصة، لأنها كائنات تحركها شهوة الطمع وغريزة التملك، ولو على حساب الآخرين، فكان الجزاء من جنس العمل. أما اغتصاب العقل والروح، فكان من نصيب إبراهيم، ومن هم على شاكلته، هؤلاء الذين يعيشون بدافع من وعي حاد بسخافة العالم!
إن النصف العلوي من العالم هو المعادل الموضوعي للوعي المثقف، بينما النصف السفلي هو المعادل الموضوعي للوعي المنحط، وعلى ذلك لا تكمن الكرامة الحقيقية في صون عورات الجسد بقدر ما تكمن في صون ملكات الروح. إن قبح العالم هو الذي يؤذي تلك النفوس الواعية بأزمتها، الراغبة في التسامي فوق هذا الانهيار القيمي الذي يستدرجها إلى الحضيض، فمثل شخصية إبراهيم يكفيها أن تحيا في بيئة عفنة حتي تشعر بالاستلاب، وبمدى فداحة المأزق الوجودي الذي أُرغمت على العيش فيه، فيقول مستفتحا حياته الجديدة في المرج:
“كانت ترجمنا عيون الجالسين على مصاطب البيوت ليس ببعيد عن خرابات تنبعث منها أدخنة، يبدو منها جثة كلب منتفخة البطن، يبدو أننا مخلوقات لم تنقرض تحاول التكيف على عشوائيات طالما قرأت عنها حتى تأكدت أن الحياة قد تنبت في حجر أصم في ليلة ظلماء”(ص٥٤).
3- الموت والهوية:
للموت حضور طاغ في الرواية منذ بدايتها وحتى نهايتها، فهي تبدأ بواقعة موت الأم وتنتهي بزيارة إبراهيم لقبرها، وبين البداية والنهاية يسقط الجميع، الشرفاء والفاسدون، في شرك الموت، ويبقى بطلنا شاهدا على حياة مليودرامية حزينة دأبت على أن تلفظ أبنائها التي أنجبتهم ذات لحظة شبقية لا تتناسب والحجم الكارثي لمأساة العالم. ومن خلال هذا الموقف المتفرد، الذي يتقمص فيه إبراهيم شخصية اللحاد، يتساءل:
“كيف يموت اللحاد؟ كيف يموت بعد أن غادر أحبابه وتركوه منفردا يغزل على نول الأسى كفنه؟”(ص١١).
يرتبط موت الأم بالضياع وفقدان الهوية، فقد كانت الأم، في حياتها، تجعله يمسك بجلبابها الأسود وهي تردد: “يا إبراهيم أوعى تسيبني لحسن تتوه”(ص١٠١).
وقد ظل إبراهيم، بالفعل، يشعر بهذا التيه طوال حياته اللاحقة على موت الأم، وهو ما عبّر عنه بفقدان البوصلة عندما قال:
“ماتت أمي فتهت، ولم يعد ثمة ما يثير الاهتمام، فقدت بوصلتي كأنني على صفحات الجليد أنقش سخونة القلب وأسكب سائل الروح الذي انداح في ثنيات الوداع، لم يعد في القلب ثقب إلا وقد وسّده الأسى”(ص١١).
والحقيقة أن الرواية برمتها تعد بمثابة رحلة طويلة للبحث عن ذات ضائعة، وفي محاولة تشبه محاولة رولان بارت في “الغرفة المضيئة”، يعمل إبراهيم على استعادة الأم باعتبارها السر الخفي الذي تكمن فيه الهوية، وذلك من خلال الحلم عند إبراهيم كما كان من خلال الذكريات عند بارت، فنقرأ:
“كنت أحلم في ليالي الحرمان أن أحتويك في خلاياي، أتشرب من أنفاسك عبير الليل أهتف في حماس باسمك وأنا أصحو فأحكي تفاصيل الرؤيا”(ص١٠٠).
ولا يعدم إبراهيم ذكريات بعيدة تربطه بهذا الخيط المضيء في نفسه، وتدفعه إلى مواصلة البحث عن شعاع روحي ينتشله من من دائرة التيه المغلقة، حيث سُدت كل الأبواب في وجهه، إنها محاولة أخيرة ومثيرة للنفاذ من خلال تفاصيل الحياة الحاضرة إلى البدايات الأولى حيث تقبع الذات باستكانة في حضرة الأم قبل أن تذهل عن الوجود، فيقول:
“أمضي دون هدف، كأنني أتراجع إلى طفولة لم أعشها كما ينبغي، أراك في كل النساء الذين يرتدين جلابيب سوداء، أبحث عن جلبابك الضائع، استرق صوتك من ضوضاء السيارات ونداءات الباعة ومشاجرات الناس في بولاق الدكرور كي لا أفقد ما تبقى مني، أسمع صوتك كأنك لا تزالين تنادين من بعيد”(ص١٠١).
ويخبر إبراهيم الموت على أنحاء شتى، فالموت سردية تخص الآخرين، بنحو ما ذهب مارتن هيدجر، وهو سردية ميتافيزيقية تصور الموتى بوصفهم كائنات خرافية، تشبه الديناصورات، تخرج من التاريخ الجمعي لساكني العشوائيات في لحظة تألق مثيرة، ثم تعود مرة أخرى إلى ذاكرة مهترئة ما تلبث أن تهدر أساطيرها التي عاشت عليها ذات يوم، فنقرأ:
“سيرة الموت كانت تدهشني حين أسمع أن سكان شارعنا القديم قد ماتوا، لم استوعب كيف كانوا من قبل على قيد الحياة كأنها كائنات خرافية عادت من غيابات سحيقة كي يتم إعلان وفاتهم ثم من جديد تقبع في متاحف النسيان”(صص١١-١٢).
وبهذا المعنى، يفهم كاتبنا الموت بنحو يختلف عن الفهم العام، ذلك الفهم الذي جسده محفوظ في شخصية الجبلاوي في رواية “أولاد حارتنا” وفي شخصية عاشور الناجي في رواية “الحرافيش” فكلاهما عاش في الوعي الجمعي طويلا بالرغم من تعاقب الأجيال. والحقيقة أنها تجربة عامة يخبرها كل فرد غادر المكان الذي عاش فيه وانقطعت عنه أخبار ساكنيه، مهما مرت السنون، فنحن نشعر وكأن المكان كما هو وأن الحياة التي تركناها منذ سنوات مازالت تضج بأصوات الجيران الذين يمارسون السلوك نفسه دون أن نراهم، حتى البيوت التي هدمت، والمحال التجارية التي غيرت أنشطتها، كلها تبقى في الذاكرة كما هي.
لكن إبراهيم يفهم الموت بنحو يتفق وعلاقة القهر التي عاشها مع الآخرين، فلا يرقى الموتى عنده إلى مستوى الرمزية الدينية أو الصوفية كما جسدها محفوظ، لأنه يرتبط بالبسطاء والمهمشين، وبخاصة الأشرار والمجرمين، الموت عند إبراهيم هو الخيار العادل الذي يعيد للحياة اتزانها. لهذه الأسباب لا يحفل إبراهيم بأساطير الموت ولا يتذكر الموتى إلا على سبيل الشماتة والثأر الداخلي، وكما أجاد في وصف المعذبين ممن أذوه فقد أجاد في وصف الموتى الذين لا يحمل لهم أي تعاطف، فيقول:
“ماتت توكال بعد أن تضاءل جسدها وضمر، نظراتها الحادة لم تفارقها رغم ذبول الجسد وانكماشه، ماتت بعد وفاة أمي بشهور ودفنت في نفس العين، مدافن سيدي عمر التي لا أعرفها في حضن الجبل رغم تعدد الزيارات وقرب وصول محطتي قبل أن استقر هناك إلى الأبد، رقدت جوار أمي كأنها تطاردها وتتوعدها لتكمل عذاب الروح بعد أن أنهت مهمتها في إذلال الجسد، نموذج لزوجة الأب بكل تراثها المحفور في ذاكرة اللعنة”(ص١٢).
ولا يرحب إبراهيم بموت الآخرين، ممن توترت علاقته بهم، إذا كان يشكل واجبا اجتماعيا ثقيلا، كما في حالة حماته أم سعد، التي مرضت وصارت على شفا الموت، فيقول متوسلا:
“مر يومان عصيبان كنت أناجي في توسل طيف السيدة العجوز.. لا تموتي الآن يا سيدتي لست مستعداً لتكلفة موت أراده وخطط له أقرب الناس إليك”(ص٣٨).
وعندما ماتت أم سعد لم يبد إبراهيم أي رد فعل يتناسب وجلال الواقعة، ولم يعبر سوى بكلمة واحدة تعكس موقفه البارد من وقائع الموت المثيرة التي تطيح برؤوس الآخرين من حوله. إن الموت في مثل هذه الحالات، بالنسبة لإبراهيم، إنما هو موت لا أكثر، فليس ثمة خبرة نفسية أو وجودية ترتبط بوقوعه حين يطيح بالآخرين، وفيما يبدو فإن موت الأم هو الموت على الأصالة، وما عداه نسخ شائهه وتكرار ممل لطقوس اعتاد أن يهرب منها قبل أن تتحول إلى قيد اجتماعي بغيض، فيقول:
“ماتت أم سعد بمرض خبيث لم يدم طويلا كان موتها مفاجئا فلم استوعب ولم أتلق وفاتها بما يليق، ربما انتهى دورها ولم يعد من الإنصاف وجودها كي ترى كوارث سنية ولم أعلق سوى بترديد كلمة واحدة.. ماتت… لم أذهب طبعا إلى العزاء في عين شمس، واكتفيت بمواساة رضا حين عادت”(صص٥٨-٥٩).
وبمرور الوقت، ومع كثرة وقائع الموت، تحولت خبرة موت الآخرين إلى محض أخبار يسمعها إبراهيم من خارج الذات، ويعلق عليها كأي متلق سلبي لتراجيديا تدور فوق خشبة المسرح، أو لحادث يقع على قارعة الطريق، لكن روح المثقف القادر على الرصد والتحليل تأبى إلا أن تضع الميت في سياق حياته التي غادرها كي تستخلص الدلالة من حكمة القدر الذي يسلب الناس حياتهم البائسة قبل أن يصيروا شيئا ذا شأن، فنقرأ:
“مات حسونة في هدوء، أخبار الموت التي لم أعد أحصيها إلا كما يحصي طفل حبات النجوم في ستارة السماء السوداء، مات كأنه لم يعش ولم يفتقده أحد سوى سنية، كأنه الوحيد في هذا العالم الذي يقدسها، يرى فيها ما لا يراه العالم رغم اعتباره مجرد قطعة ديكور غير مرغوب فيها في عالمها”(ص٦١).
في الفصل العاشر يؤكد إبراهيم على وقائع الموت المجرد، الخالي من أي معني عدا تضاريسه الخارجية المفجعة، فلا نقرأ في هذا الفصل سوى عبارة وحيدة تقف كشاهد قبر على حياة صاحبها التي صمت عنها إبراهيم، احتراما لجلال الحدث أو استهانة به، بعد أن فضحها في الفصل السابق، فيقول:
“مات حامد .. وجدوا جثته على طريق صحراوي جانب الجبل”(ص٧٥).
ويعترف إبراهيم صراحة بالمسافة البعيدة التي صارت بينه وبين موت الآخرين، بحيث تحول الموت من الخبرة إلى الخبرية، لأن الوعي توقف عن الانخراط في تجربة الحزن العميق، واكتفى بمحض الإدراك الحسي الخارجي، وفي هذا السياق، يؤكد على مشهدية الموت التي تجعل الوعي يقارب وقائع الموت العنيف بالاستهانة نفسها التي يستشعرها تجاه عوالم افتراضية بعيدة، فيقول:
“تأتي وقائع الموت مجردة من حرمته كأنها أخبار عن موتى في بلاد بعيدة بفعل فيضان أو زلزال أو حتي إعصار فلا نملك رفاهية الشفقة بل وقد نقلب إلى قناة تذيع أغنية لمطربة عارية أو مباراة كرة قدم ولو كانت معادة”(ص٨٢).
هذا بالرغم من أن إبراهيم كان يمهد بكلماته الساخرة عن الموت هذه للحديث عن موت سمارة، أحد الشخوص القليلة التي تعاطف معها، ربما لأنه كان مواطنا لم يرد من الحياة سوى أن يحيا شريفا، ويحقق أحلاما بسيطة لا تخلو من براءة، لكنه يواجه سلطة أكبر منه تقف ضد أحلامه، وتضع الموت أمامه كخيار وحيد وبديل، فنقرأ:
“مات سمارة إذن وهو يحلم أن يكون مواطنا شريفا بمفهومه هو، لا أدري لماذا استمعت إليه في مدخل البيت وهو يهمس لي بلا مناسبة أنه يحلم بالزواج وأن يقيم بيتا يعمل ويكسب من حلال… رفض إذن أن يكون عصا في مظاهرات مؤيدة أو لفض تجمعات رفض… سمارة الذي تطهر بالدم، لروحك السلام”(صص٨٣-٨٤).
وبعد سمارة ماتت توكال ومات نوح، وهما شخصيتان قبيحتان، لتتحقق نبوءة إبراهيم، أو رؤيته التراجيدية للموت عندما قال:
“الموت إذن يكنس، لكنه يؤجل بعض الأماكن المتسخة في الأرض كي تظل الدراما مشتعلة مهما كانت نهاية الممثلين الذين يؤدون أدوارهم للنهاية”(ص٨٤).
ويأتي موت عم إبراهيم (عامل النظافة)، الذي يحمل نفس اسم الكاتب، باعتباره ذروة التراجيديا الكونية وقمة الفاجعة الوجودية، لأنه المواطن الشريف بألف ولام التعريف، المواطن الذي جعله إبراهيم عنوانا للرواية، ولنذالة المجتمع الذي دأب على أن يسحق الشرفاء، في حياتهم وفي مماتهم. ليس هذا فحسب، بل إن لموت المواطن الشريف رمزية فلسفية باعتباره علامة على نمط من الوجود المتهافت، الوجود الشفيف الذي لا يحتمل وطأة الحياة الظالمة، فيعيش الشريف ويموت دون أن يشعر به أحد، فيتساءل إبراهيم:
“لماذا يموت؟ لماذا يموت من يطهر الشوارع من أوساخها ونجاستها؟ مات عم إبراهيم المواطن الشريف الوحيد في هذه المدينة، كان ينبغي أن يموت كل من يحمل هذا الاسم وتبقى أنت يا عم إبراهيم في عالم يموج بالتخليط والقمامة”(ص٩٩).
غير أن الموت والحياة ، عند إبراهيم، وجهان لعملة واحدة، ومظاهر الموت والحياة تتجاوران في المكان والزمان نفسهما، بحيث يمكن للإنسان أن يعبر من أحدهما إلى الآخر، وأن الأحياء الذين يعيشون بالقرب من المقابر يألفون رائحة الموت، وكأنها أكسير الحياة، وربما كان في “طلب الرحمة” يكمن السر في ارتباط عالمين متناقضين، أحدهما سفلي مظلم، والآخر علوي براق، عالم ساكني المقابر وعالم ساكني المدن، غير أن رمزية الموت والحياة لا تميز بين البشر، وتضع الجميع في سلة واحدة باعتبارهم موجودات خلقت من أجل الموت، وفي سياق مفعم بالأسى يصف إبراهيم أجواء العالمين المتداخلين لحظة دفن الأم، فنقرأ:
“كل المقابر تتشابه ورائحة الموت لا تمنع حياة تدب في بيوت صغيرة في تضافر الموت والحياة، المحلات والمطاعم والمقاهي وورش السيارات هي مداخل العالم الآخر، نكمل الطريق سيرا لا نكاد نخلص أنفسنا من بائعي الزهور حتى يطاردنا حشد نسوة في سواد طلبا للرحمة في إلحاح”(ص١٠٤).
وفي بنية دائرية تعكس نظاما كونيا صارما، تنتهي الرواية من حيث بدأت، عند المقابر التي ضمت جسدي الأب والأم، وكما بدت طقوس الموت علامة على فقدان البوصلة وضياع الهوية في بداية الرواية، فقد بدت في النهاية كعلامة على عثور الذات التائهة على هويتها، وتظل هوية إبراهيم، ذات دلالة رمزية، تتماهى مع كل ما هو نقي وشريف، فإبراهيم الكاتب هو إبراهيم بطل الرواية، وهو عم إبراهيم المواطن الشريف، وهو الطفل إبراهيم (ابن الخالة) رمز البراءة، فنقرأ في آخر سطرين من الرواية:
“أخطو قليلا لأجد إبراهيم واقفا عند صبارة جانب جدار يرشرش عليها الماء”(ص١٠٦).
ليس هذا فحسب، بل لا نبالغ إذا قلنا إن إبراهيم، ربما من طرف خفي، عندما يكتب على جدران حجرته المتواضعة في بولاق الدكرور الآية الكريمة “يا نار كوني بردا وسلاما على ابراهيم” إنما كان يبحث في نفسه عن شيء من ملامح النبوة. والحقيقة، أن الرواية برمتها، بالرغم من الروح السوداوية التي تغلفها، تبشر بأنبياء جدد لهذا الزمن، رسالتهم الصفح، ومعجزتهم العيش بشرف والموت بشرف رغم النار التي ليست بردا ولا سلاما، لكن شعلة مقدسة من الكراهية!

