د. ماهر عبد المحسن

يرتبط الحنين بالماضي، والذكريات الجميلة، لذلك فكلنا نشعر بسعادة داخلية غامرة كالسحر عندما نسترجع ذكريات الطفولة أو الشباب، ونشعر بالحنين نفسه كلما سمعنا أغنية قديمة أو شاهدنا فيلماً قديماً أو قلّبنا ألبوماً قديماً للصور.
وهذا السحر الكامن في الماضي، يجعلنا نستشعر أن القديم دائماً أفضل، وأن الأيام المبكرة من حياتنا لن تعود، ليس فقط لأن الزمن لا يعود إلى الوراء، لكن لأننا نعتقد أن مسيرة التاريخ، ولسبب غير معروف، تمضى من الأفضل إلى الأسوأ، ومن هنا جاءت تسمية بعض العصور الموغلة فى الماضي بالعصور الذهبية.
ومن هنا يدعو هيدجر الفلاسفة الغربيين إلى النظر إلى “النار القادمة من اليونان”، أى الوهج الفكري الذى اشتعل فى الحضارة اليونانية القديمة ذات عصر مبكر من تاريخ البشرية وانطفأ بعد ذلك. وبالمعنى نفسه يستدعى المسلمون الحضارة الإسلامية، بكل مفكريها وعلمائها وأدبائها فى محاولة لإحياء الأمجاد الغابرة.
المسألة إذن لها نفس المعني، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات.. ويظل الحنين إلى الماضي مسألة إنسانية، و شعوراً باطنياَ بنحو غريب من السحر يجذبنا إليه. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل الماضي أفضل من الحاضر فعلاً؟
لاشك أن هناك عصور ازدهار وعصور انحطاط، وقد كتب شبنجلر عن انهيار الحضارات، وكتب فوكو ياما عن نهاية التاريخ، لكن ذلك لا يعني، بأي حال، أن الماضي دائماً أفضل، ولكن يعني أن هناك عصوراً أفضل من عصور، سواء أكانت ماضية أو حاضرة، وأسباب الازدهار والانحطاط مسألة تخص فلسفة التاريخ، لكن المسألة تختلف على مستوى الأفراد. فالوعى الذى يتلقى حادثات التاريخ، بحلوها ومرها، يشعر دائماً تجاهها بنوع خاص من الحنين، ربما لأن الوقائع ذهبت إلى غير رجعة، ولم يبق منها سوى أثرها المحفور فى الذاكرة، وربما لأن استرجاع الماضي ينطوي على شيء من روح الفن، لأنك تعيد مشاهدة أحداث تفصل بينك وبينها مسافات زمنية بعيدة، كما تشاهد الأعمال الفنية القديمة أو حتى الحديثة. فوجود مسافة، أياً كانت طبيعتها، يخلق نوعاً من السحر لدى المشاهد، ينجم عن كونه يرى الحدث ولا يشارك فيه.
وبهذا المعنى يمكننا أن نفهم لماذا نشعر بالحنين تجاه أحداث ماضية غير سارة. فنحن فى الحقيقة، غالباً، لا نحب هذه الأحداث، ويقيناً، لم نكن سعداء وقت حدوثها، لكن في استرجاعها يكون هناك شئ من الحنين لأنها لم تعد تمثل نفس العبء النفسي الذى كانت تمثله عندما كانت أحداثاً حقيقية نعايشها ونكتوي بنارها. كما أن في استرجاعها استرجاع لروح الزمن نفسه الذى ليس بالضرورة أن يكون سيئاً أو منحطاً، وفى استرجاعها أيضاً استرجاع لأشخاص كانت تربطنا بهم صلات حميمية مثل آبائنا وأقاربنا، أو صلات إنسانية مثل جيراننا وأصدقائنا. وبهذا المعنى، نحن نشعر بالحنين تجاه الماضي وشخوصه، حتى لو كانت وقائع هذه الذكريات مؤلمة، من قبيل اللحظات التي تلقينا فيها العقاب ذات يوم من الأب أو الأم أو مدرس الفصل.
والمفارقة، هي أننا إذا ما أمكن أن نعود إلى الماضي على الحقيقة لنعايش نفس التجارب، فإننا، بلا شك، سنستشعر نفس العب النفسي ونفس الألم، ونتمنى لو تزول هذه اللحظات من الوجود. فالسحر يأتى من أن الزمن قد مرّ، والأحداث تحولت إلى خبرة نفسية بالذكريات.
وهنا يحق لنا أن نتساءل : هل يستشعر الإنسان الحنين تجاه أحداث الماضي البعيد فقط؟
الإجابة، بالطبع لا. لأن الحنين، كما ذكرنا، يأتي من غياب الأحداث عن الوعي، بغض النظر عن قرب المسافة الزمنية أو بعدها، والحقيقة أن الواقع يدعم ذلك، فكثيراً ما نشعر بالحنين تجاه أشياء قريبة نسبياً فى الزمان، كما نشعر تجاه الأماكن التي نسكن فيها لفترة ثم نغادرها، وكما نشعر تجاه الأشخاص الذين كانت تجمعنا بهم ظروف عمل أو دراسة أو نشاط مشترك، ثم زالت هذه الظروف أو انتهى النشاط. يحدث نفس الشيء فى أسفارنا البعيدة، وفى رحلاتنا الداخلية عندما نرجع منها إلى بيوتنا ومقار إقامتنا الدائمة. فمن منا لم يشعر بالحنين تجاه أسبوع المصيف، بعد العودة منه بأيام، ومن منا لم يشعر بالحنين تجاه أمسية جميلة قضاها مع أصدقائه أو أحبائه فى يوم سابق. بل لا أبالغ إذا ما قلت إن اللفتة الأخيرة التي يبديها الحبيبان كل منهما للآخر قبل الوداع، سببها هو ذلك الشعور بالحنين الكامن في لحظة واحدة فاصلة تجمع الماضي والحاضر فى آن واحد. فالحبيبان هما الوحيدان القادران على انتزاع الشعور بالحنين من الحاضر نفسه دون حاجة إلى انتظار أن يتحول الحاضر إلى ماض!
وبهذه المثابة، نستخلص أن الحنين فن يمكن تعلمه واحتراف ممارسته. فكلنا يمكنه أن يصنع ذكريات سريعة التحضير، تنتمى إلى أزمنة قريبة، و تحتوى على أناس قريبين مازالوا على قيد الحياة، وأماكن مازالت موجودة ولم تتحول إلى أطلال بعد. ربما يبدو أنه حنين مفتعل لم يأخذ وقته الكافي من الرسوخ فى الوعى. لكنى أرى أن كلا النوعين من الحنين، البعيد والقريب، موجود في الوعى دون افتعال، فقط علينا أن نعي أن ثمة أشياء تثير الحنين موجودة في الحاضر على قيد شعرة من وعينا الذاهل عنها، وأن نتعلم من دروس العشاق كيف نتحرك بحرية بين الماضي والحاضر، وكيف نحمل داخلنا ذلك الشوق الدائم لمفردات العالم المحيط بنا، بحيث لا نميز بين ماض وحاضر، لكن نذوب فى حضرة صوفية من الوعى المطلق بذلك السحر الخفي!


أضف تعليق