د. ماهر عبد المحسن


لأسباب لا أعرفها، ربما يكون السكر أحدها، فقدت ستة كيلو جرامات من وزني، وبدا وجهي أكثر شحوبا، وصارت ملابسي الضيقة فضفاضة بنحو مربك، وعندما نظرت في المرآة شعرت أني كبرت فجأة!
المشكلة أني كنت قد اعتدت أن أربط بين التحولات الجسمية وعنصر السن، فعندما خلعت أول ضرس كنت قد بلغت الأربعين، وحدث الشيء نفسه عندما بلغت الخمسين، وبالرغم من أن المعدل كان جيدا، لكني بدأت أشعر ببعض الآلام في أكثر من ضرس في وقت واحد، صاحب ذلك ظهور أول شعرة بيضاء في شاربي، هذا بالإضافة إلى الشعيرات البيضاء الكثيرة التي كانت قد انتشرت في أنحاء من رأسي منذ عدة سنوات.
والمسألة تحولت لدي إلى شعور مبكر ببداية النهاية. فقد كنت أحسب نفسي ضمن الذين سيعيشون طويلا، لأني هادئ الطبع، لا أنفعل إلا نادرا، ولدي ملامح شابة أبدو من خلالها أصغر من سني ربما بعشرين عاما، كما لدي أهداف واضحة ومحددة لحياتي المستقبلية. وكنت أظن أن الذين لديهم موهبة حقيقية يعيشون أطول، لكن التاريخ أثبت لي خطأ هذا الاعتقاد، فقد مات الكثير من العباقرة وأصحاب المواهب في سن صغيره مثل الشاعر أبي القاسم الشابي، والممثل جيمس دين، والعالمة سميرة موسى.
كما كنت أظن أن الذي لديه موهبة فحتما سيجد الفرصة لاستثمارها وبلوغ النجاح كما حدث مع الكثير من المشاهير، وكما ذكر الموسيقار محمد عبد الوهاب في أحد اللقاءات. لكن الحقيقة تختلف عن ذلك تماما، فكم من المواهب الأصيلة ماتت ودُفنت دون أن يدري بها أحد، وكم من الأشخاص الذين لا يملكون أي موهبة نجحوا في حياتهم وبلغت شهرتهم الآفاق! ربما تنطوي المسألة على شيء من الظلم الاجتماعي، لكنها في معناها الأعمق تأتي متسقة مع الحكمة الإلهية التي لا يفهمها البشر. فربما يصلح سيناريو مصطفى محرم الذي كتبه لعبد الغفور البرعي كمثال تحفيزي في برنامج للتنمية البشرية، لكنه حتما سيعجز عن تفسير حكمة الوجود!
لهذه الأسباب لم أتعجب كيف لموهبة فلسفية مثلي لم تتح لها فرصة التدريس بالجامعة، وكيف لهذا الخيال الخصب أن يُدفن في ملفات إدارية عقيمة يمكن أن ينجزها أي أحد ممن لا يملكون أي خيال!
وبالرغم من أني نجحت في أن أعيش بشخصيتين، واحدة لنفسي وواحدة للمجتمع، وأني استطعت، بفضل الله، أن أحقق لنفسي الكثير من النجاحات، لكن شعور هذه النفس بأن الذي تبقى من العمر أقل كثيرا من الذي فات هو ما أكسبني حساسية خاصة تجاه الزمن، بحيث أصبحت مراقبا جيدا لألاعيبه الخفية ولعلاماته التي يرسمها في السر على ملامحي الشابة.
ربما كان هذا هو السبب اللاواعي الذي جعلني أشرع في كتابة سيرتي الذاتية ولم أتجاوز الخامسة والخمسين، فقد كتبها نجيب محفوظ ، رغم عبقريته الفذة وإنتاجه الضخم، بعد الثمانين! وربما كان هذا هو السبب في أني أشعر أني ألهث خلف أحلام كثيرة مؤجلة خشية أن يمضي العمر دون تحقيقها، وهذا يدفعنا للتساؤل عن جدوى تحقيق الأحلام في نهايات العمر، خاصة الأحلام ذات الطبيعة المعنوية مثل الشهرة وتحقيق الذات؟!
أحيانا أشعر أن القدر يمنحني شيئا من ابتسامته الحنون كأن يسجل معي التليفزيون المصري حلقة كاملة مدتها ساعة أتحدث فيها عن حياتي بوصفي أحد الناجحين، أو تجري معي صحيفة الثقافة الجزائرية حوارا مطولا تسألني فيه عن آرائي الخاصة في الفكر والثقافة والمجتمع، أو تؤلف عني الباحثة الجزائرية الرائعة حورية علاهم كتابا كاملا حول إنتاجي في التأويل الفلسفي. لكني أعود لأنظر للمسألة بنحو لا يخلو من تشاؤم، فربما كانت هذه الابتسامات القدرية، في مغزاها العميق، إشارات إلهية بقرب دنو الأجل!
لكني أعود للتمسك بأمل أكثر إنسانية، عندما أنظر لابني الصغيرين اللذين مازالا يحتاجان إلى مساندتي لهما في حياتهما المقبلة، وعندما أشعر أنه مازال لدي الكثير الذي يمكنني تقديمه لمساعدة الآخرين. وأقول ربما كان طموحي لنفسي لا يعد سببا كافيا لإطالة العمر، لكن طموح الآخرين في نفسي هو الذين يمكن أن يمنحني هذه الجدارة. وربما كان هذا هو السبب في أن الأنبياء يعيشون أطول، فإذا أردت أن تحيا عمرا مديدا، فعش كصاحب رسالة وإن كنت تحيا في الظل، لا كصاحب حياة ناجحة وإن غمرتك الأضواء!





أضف تعليق