د. ماهر عبد المحسن
تعج حياتنا الاجتماعية والسياسية بالكثير من المشكلات التي لا نجد لها حلا. مشكلات تخص الشأن الداخلي ومشكلات تخص الشأن الخارجي، مشكلات تمس الحاضر وأخرى تتعلق بالمستقبل. وفي كل الأحوال لا تجد من يتصدى لتقديم الحلول، خاصة من أهل الاختصاص. الإشكالية الكبرى المترتبة على هذه الظاهرة، أن الذي يتطوع لتقديم الحلول، في ظل انسحاب أهل الاختصاص، هم من لا يمتلكون معرفة حقيقية بأبعاد الأمور وطبيعة المشكلات المثارة.
ليس هذا فحسب، بل إنك لتجد أقل الناس علما وتعليما هم الذين يسمحون لأنفسهم بخوض معترك القضايا الكبرى التي تخص المجتمع، بل الأمة كلها، ليدلوا بدلوهم الفقير إلا من الرغبة في إثبات الذات المسحوقة تحت عجلات الواقع التي لا ترحم!
ربما يكون لهؤلاء شيئا من العذر، لكن تظل للمسألة أبعاد بالغة الخطورة، فالذين يتصدون لتقديم الحلول هم رجل الشارع الذي لا يملك أدوات التحليل اللازمة لفهم الواقع، أو رجل الدين المتشدد، أو رجل الإعلام الراغب في الشهرة، أو الفنان الباحث عن الثراء. ومن الطبيعي أن لا نجد عند هؤلاء حلولا حقيقة بقدر ما نجد ترسيخا للأوضاع المتردية التي تخدم مصالحهم، ومصالح الفكر المؤسسي الذي ينتمون إليه ويعملون بوحي من أجندته الخفية.
وقبل تحليل الواقع، تحتاج المسألة إلى تحليل الوعي، فعلى البناء الفوقي تقع مسؤولية التغيير، لأن الوعي المثقف هو القادر، وحده، على فهم الواقع وابتكار الحلول الناجزة لمشكلاته المستعصية. ونقصد بالوعي المثقف أي متخصص يمتلك رؤية كلية للواقع ولديه أخلاقية الرغبة المخلصة في التغيير، أو بتعبير سارتر “المثقف الملتزم”. والمفارقة أن هذا المثقف في مجتمعاتنا قد تخلى عن هذا الدور بوحي من ثقافته نفسها، وهي نوع من الثقافة تأسس على نمط من الفكر الغربي يفصل بين الفكر والواقع، وأبرز مؤيديه دعاة “الفن للفن” وأصحاب الاتجاه المثالي في الفكر.
ومن هذا المنطلق، نسمع من فنانينا عبارات من قبيل “الفن يجسد الواقع ولا يقدم حلولا” ونسمع من مفكرينا عبارات من قبيل “الفلسفة تثير تساؤلات وليس من مهامها أن تقدم إجابة”. والخطورة تكمن في أن هذا المنطق تسرب إلى رجال السياسة وأصحاب صنع القرار بحيث تجد الخطاب السياسي في البلاد المأزومة يهتم أكثر بتصدير الأزمة دون محاولة جادة وحقيقية لتقديم الحل!
فإذا جاز لثقافة السؤال أن تسود في مجتمعات الرفاهة التي تجاوزت مشكلات الإنسان اليومية الأساسية، فإن ثقافة الإجابة هي التي ينبغي أن تسود في المجتمعات التي لم تزل تعاني من نقص ضرورات العيش وندرة أسباب الحياة!

