د. ماهر عبد المحسن
يُحكي أن غاندي كان يجري في محاولة للحاق بالقطار وسقطت منه إحدى فردتي حذائه، فقام بإلقاء الأخرى حتي إذا ما عثر أحد الفقراء علي الفردتين أمكن له استخدامهما، أما وجود فردة مع غاندي والأخرى مع شخص آخر فإن أحدهما لن يستفيد من ارتداء فردة واحدة.
وتحمل هذه القصة حكمة أخلاقية كبيرة مؤداها أن الفعل الأخلاقي له بعد مستقبلي، فالخير لا يقتصر على تحقيق الأثر الحسن في اللحظة الآنية، التي نقوم فيها بفعل الخير، كأن نعطي لأحد الفقراء صدقة مثلا، لكن من الممكن أن يتراخى الأثر إلى المستقبل كما في مثال حذاء غاندي، وكما في أمثلة كثيرة يمكن أن تقابلنا في حياتنا.
والخطاب الديني يسوق إلينا أمثلة كثيرة تؤكد هذا المعنى، لعل أبرزها قصة الخضر مع سيدنا موسى عندما رأى جدارا يريد أن ينقض فأقامه، لأن تحته كنزا تركه أبوان ليتيمين، وكان من الممكن أن يقع الجدار وينكشف الكنز وهما مازالا صغيرين، فاقتضت الحكمة إعادة بناء الجدار حتي يستفيد اليتيمان من الكنز عندما يكبران، أي في المستقبل. ويمكن أن يقال الشيء نفسه في حالة الوصية التي لا ينتفع بها الموصي له بها إلا بعد وفاة الموصي.
والحقيقة أن الخير المستقبلي، لأنه مستقبلي، يغلب عليه طابع الاحتمال، غير أنه احتمال وشيك الوقوع إذا كان مرتبطا بالحياة اليومية، وبهذا المعني يندرج تحته ” إماطة الأذى عن الطريق”. وأذكر أن زوجتي كانت تضع في كيس القمامة بقايا من الخبز الطري وأجزاء من السمك والفراخ التي لا تخلو من اللحم، حتى إذا ما عبثت قطة ضالة جائعة بسلة القمامة أمكنها أن تعثر علي ما يسد جوعها.
وقد علمتُ أولادي ألا يجيبون على أسئلة دروسهم في الكتب المدرسية، والخارجية بخاصة، لكن في كراسة مستقلة حتي إذا احتاجها طالب آخر في المستقبل أمكن له أن يعيد حل التمارين مرة أخري دون أن يعرف الحل مسبقا وكأن الكتاب مازال محتفظا ببكارته. والأمثلة كثيرة لو حاولنا رصدها من حولنا.
غير أن مثال غاندي ينطوي علي رؤية فلسفية عملية لفعل الخير المستقبلي، وهي ضرورة أن يمتلك فاعل الخير رؤية أخلاقية كلية تجعله قادرا على مراقبة أحوال الوجود التي من حوله، ومحاولة اكتشاف العلاقات التي بين أجزائه، لأن هناك نمط كبير من أعمال الخير يعتمد علي إعادة تجميع الأجزاء التي تفرقت، كما أن عملية التجميع هذه تحتاج إلي سيناريو متخيل، يتوقعه فاعل الخير، بل ويرسمه إن أمكن ويعمل على تحقيقه. ولما كانت المسألة ترتبط بالاحتمال، فيكفي أن يجيد فن رسم البدايات وعلي ظروف البيئة المحيطة أن تتولي استكمال السيناريو!
وفي هذا السياق، بدأت أحرص علي الاحتفاظ بأغطية علب العصير وزجاجات المياه الغازية حتي انتهي من الشرب ثم أعيد الغطاء إلي مكانه في فوهة العلبة أو الزجاجة، وألقي بالاثنين معا، فإذا ما عثر أحد عليهما أمكن أن يستفيد منهما مجتمعين. ويمكنك أن تصنع الشيء نفسه عندما تنوي التخلص من ملابسك القديمة، بأن تحرص، قدر الإمكان، علي أن تشكل ملابسك أطقما متكاملة، فلا يكون الجاكت في مكان والبنطلون في مكان آخر مثلا.
والحقيقة أن للمسألة وجها آخر أعمق، فالتدريب علي تجميع مفردات الوجود والوعي المستقبلي بأن هناك أثرا ما إيجابيا سوف يتحقق ذات يوم يجعلك أكثر حساسية تجاه النظام الذي هو سمة كل عالم خيّر وجميل. وبهذا المعني يمكننا أن نضم إلي تصرفاتنا الأخلاقية تصرفات أخري تنتمي إلى الجمال. فالجمال أيضا غاية مستقبلية تعتمد في شق منها علي إعادة ترتيب مفردات العالم علي نحو يحفظ له شكله ونظامه الذي يحميه من القبح ومن الفوضى. فإذا عثر أحدنا علي ورقة ملقاة علي الأرض فسيجد نفسه مدفوعا إلي أن يضعها في مكانها المناسب، فوق المكتب إذا كانت ذات أهمية أو في سلة القمامة إذا لم تكن كذلك. وبالمنطق نفسه يمكنك أن ترتب سريرك، وأن تضع ملابسك في خزانة الملابس أو فوق المشجب، وأن تعيد آنية الزهور، التي حركها طفلك، إلي منتصف المائدة!

