د. ماهر عبد المحسن

تستدعي فكرة الإنسان الكامل عند بدوي فكرة الإنسان الأعلى عند نيتشه، ولبدوي كتاب مهم عن نيتشه يطرح فيه هذه الفكرة في مباحثه الأخيرة. ولأهمية هذا الطرح، فإننا سنضع الفكرتين أمام بعضهما لنري إلى أي مدى تأثر بدوي بنيتشه، وإلى أي مدى اقتربت الفكرتان أو افترقتا؟ ولعل الأهم من كل ذلك هو محاولة استخلاص فكرة ثالثة من الفكرتين، على سبيل التآلف إذا كانتا متقاربتين، أو الجدل إذا كانتا متناقضتين.
غير أن العقبة المنهجية التي ستواجهنا، هي أن بدوي لم يضع ملامح محددة للإنسان الكامل، ولكننا حاولنا أن نبرز هذه الملامح وفق رؤيتنا الخاصة لكتابات بدوي، كما أن بدوي نفسه لم يقدم ترجمة حرفية لنص نيتشه، ولكن قدمه من وجهة نظره الخاصة كذلك. ومن ثم سيكون الطرح هنا من زاوية خاصة جدا، تنطلق من عملية جدل تأويلية بين قراءتنا لبدوي، وقراءة بدوي لنيتشه.
وبهذا المعني سيتم استدعاء المقولات التي اعتمدنا عليها في قراءة الإنسان الكامل عند بدوي، لتكون أساسا لقراءة فكرة الإنسان الأعلى عند نيتشه بنحو ما قدمها بدوي.
في البداية يتفق كلا من نيتشه وبدوي على أولية البعد الإنساني في النموذج الفاعل الذي يرغبان في تقديمه للعالم، يتضح ذلك من المصطلح نفسه الذي يبدأ بكلمة “الإنسان” لدى الفيلسوفين: الإنسان الأعلى، الإنسان الكامل، وبلغة المنطق يمكننا أن نقول إن الموضوع واحد، لكن المحمول مختلف (علي مستوى اللفظ، ومحل بحث على مستوى المعنى).
فما المقصود بالإنسان لديهما، يقول نيتشه، (نقلا عن بدوي):
“الإنسان وتر مشدود بين الحيوان والإنسان الأعلى: وتر على هاوية”(عبد الرحمن بدوي، نيتشه، وكالة المطبوعات، الكويت، ط٥، ١٩٧٥م، ص٢٥٤).
ويقول بدوي:
“الإنسان وتر مشدود على الهاوية الفاصلة بين لا نهايتين: الوجود المطلق، والعدم المطلق. ولذا كان وجوده نسيجا من كلا النقيضين”(الإنسانية والوجودية، مرجع سابق، ص١٣).
ويُلاحظ أن بدوي يستخدم نفس التعبير، “وتر مشدود على الهاوية”، الذي استخدمه نيتشه للتعبير عن وضعية الإنسان في العالم، وهي وضعية متوترة وغير مستقرة، بنحو ما يوحي تعبير “وتر مشدود”، كما أن كلمة “هاوية” تدل على خطورة هذه الوضعية، وكيف أن الإنسان يحيا مهددا بخطر الموت. وحضور الموت كخبرة وجودية في حياة الإنسان له أهمية خاصة لدى الوجوديين الذين تأثروا بنيتشه مثل هيدجر، وبدوي، الذي تأثر بدوره بهيدجر، وكانت رسالته في الماجستير بعنوان “الموت في الفلسفة الوجودية”.
غير أن نيتشه يضع الإنسان في منطقة وسطى بين الحيوان والإنسان الأعلى، ويقصد نيتشه الإنسان العادي، الذي ينتمي إلى العوام ولا يتمتع بأي ميزة خاصة يتفوق بها على المجموع الذي تحكمه روح القطيع، فيقول نيتشه (نقلا عن بدوي):
“في كل مكان يضم المتوسطون بعضهم إلى بعض، ويجمعون شملهم، كي يجعلوا من أنفسهم سادة. وكل ما يحنث ويلين ويرفع من شأن ما هو “شعبي” أو “نسوي” يعمل لصالح “التصويت العام”، أي سيطرة المنحطين من الناس وسيادتهم. لكنا نريد أن ننتقم وأن نفضح هذه التجارة (التي ابتدأت في أوربا مع المسيحية) ونقاضيها”(نيتشه، مرجع سابق، ص٢٥٨).
وهنا يتضح أن مفهوم الإنسان عند نيتشه يتبع ترتيبا هيراركيا (تصاعديا) يبدأ بالحيوان وينتهي بالإنسان الأعلى، الذي ستقع عليه مسؤولية الارتقاء بالإنسان المتوسط إلى مستوى ذروة الإنسانية. الإنسان الأعلى عند نيتشه، إنسانا أرستقراطيا، ينتمي إلى طبقة السادة في مقابل الإنسان المتوسط الذي ينتمي إلى طبقة العبيد فيقول بدوي: “وأراد من هذا كله أن يعيد نظام التصاعد، أي جعل الناس في طبقات، يرتفع بعضها فوق بعض درجات”(نفسه، ص٢٥٧).
وفي المقابل، لا نجد هذا الترتيب الطبقي عند بدوي، فالإنسان عنده غير مشدود بين كائنات حيه متعينة (الحيوان والإنسان الأعلى) كما عند نيتشه، لكنه مشدود بين معاني وجودية تمس التجربة الروحية (الوجود المطلق والعدم المطلق). فالإنسان الأعلى عند نيتشه يتجاوز إنسانيته المتوسطة ليتحول إلى “فوق إنسان”، لكن الإنسان الكامل عند بدوي يظل إنسانا، وإن صار مفرطا في إنسانيته. والسبب في ذلك يرجع إلى أن الإنسان الكامل عند بدوي يجمع في نسيج وجوده بين النقيضين، وهو لا يختلف عن الإنسان العادي سوى في تجربته الوجودية الفريدة، فهو ليس إنسانا خارقا، لكن لديه تجربة خارقة، الإنسان الكامل ليس بالضرورة أن يكون معلما روحيا أو زعيما سياسيا، لكن يكفي أن يكون قدوة، أي أن تكون تجربته الذاتية ملهمة للآخرين.
والحقيقة أن التجربة الذاتية هي مناط القيمة لدى كلا من نيتشه وبدوي، فالتجربة الذاتية تعني الفردية، غير أنها فردية من نوع خاص، لأنها فردية ممتازة، فردية غير منكفأة على نفسها، لكنها ذات صلة وثيقة بالإنسانية العليا عند نيتشه، والوجود المطلق عند بدوي. فنقرأ:
“فليس الفرد إذا في نظر نيتشه هذا الشخص المنفرد المنعزل عن تطور الإنسانية، إنما هو الفرد الذي تحيا فيه الإنسانية، وفي غيره لا يمكن أن تحيا، وبرقيها والمستوى الذي تصل إليه تُقاس قيمته”(نيتشه، مرجع سابق، ص٢٥٩).
وعلى نفس النهج يتحدث بدوي عن التجربة الذاتية لدى الصوفي الكامل، نافيا عنها الصبغة الفردية النفسية مؤكدا على البعد الوجودي العميق، فيقول:
“فهي ليست مجرد تحليلات نفسية شخصية لأحوال فردية تؤخذ على هذا الأساس النفسي الفردي، بل هي في جوهرها تحليل للوجود الذاتي بوصفه الوجود الحقيقي”(النزعة الإنسانية والوجودية، ص٧٤).
والملاحظة اللافتة أن بدوي يقرأ نيتشه بلغته الخاصة، وهي لغة تحمل روح بدوي وفلسفته حول فكرة الإنسان الكامل، ما يجعلنا نلحظ تقاربا شديدا بين مفهومي الإنسان الأعلى عند نيتشه والإنسان الكامل عند بدوي. وبهذا المعنى نجد ارتباطا بين النزعتين: الإنسانية والوجودية لدي كلا الفيلسوفين في التجربة الذاتية، التي هي انعكاس للفردية الممتازة، التي تحوي داخلها الإنسانية بتاريخها كله، ومن ثم تصير علامة دالة على الوجود الحقيقي. وتعبير “الوجود الحقيقي” الذي يميز تجربة الإنسان الكامل، يستخدمه بدوي في شرح المكانة الأرستقراطية المتميزة للإنسان الأعلى عند نيتشه، فيقول:
“وقيمة الفرد بالنسبة إلى نفسه هي أن يكون بذاته في مستوى عال من الوجود”(نيتشه، ص٢٦٠).
ليس هذا فحسب، بل إن بدوي يستحضر منطق الصراع الداخلي الذي يستشعره الإنسان الكامل نظرا لاختلاف القيم التي يؤمن بها الفرد عن تلك التي يؤمن بها المجموع، ليتحول الأمر لدى نيتشه، وفقا لقراءة بدوي، إلى نزاع خارجي بين الإنسان والمجتمع، فنقرأ:
“ومن الاختلاف في وجهتي النظر بين الفرد بالنسبة إلى نفسه والجماعة بالنسبة إلى الفرد، ينشأ التعارض بين الاثنين مما يؤدي إلى نزاع من النوع الذي تحدثنا عنه في بدء هذا الفصل”(نيتشه، الموضع نفسه).
والنزاع الذي أشار إليه بدوي في بدء الفصل ، هو نزاع بين أنصار الكم الذين يؤمنون بالمساواة بين الناس جميعا، وبين أنصار الكيف الذين يعلون من شأن الاختلاف والتمايز. وبالرغم من أن بدوي يضعه في سياق التاريخ الروحي للإنسانية، إلا أننا نرى أنه جزء من التاريخ العقلي المعرفي للإنسانية، لأن مصطلحات الكم والكيف هي مقولات جدلية، تعبر عن تطور الوعي الإنساني في التاريخ، وهو ما يتسق ورؤية بدوي للخلاف بوصفه اختلافاً في وجهات النظر.
ويفسر لنا ذلك موقف القوة الذي يدعو إليه نيتشه في مواجهة العالم تحت مقولة “إرادة القوة” في مقابل موقف الانسحاب من العالم الذي يتبدى في إنسان بدوي المغترب. هذا مع الوضع فى الاعتبار أن الاغتراب عند بدوي تجربة وجودية عميقة تعقبها حركة فاعلة في العالم وهي حركة تنطوي على قوة، لكنها ليست قوة إرغامية كما عند نيتشه، لأنها مستمدة من الموهبة ( فنية أو شعرية، أو روحية).
الإنسان الكامل لا ينظر إلي الآخر نظرة فوقية، ولا يقف منه موقف المعلم، أو المتفوق كما هو حال الإنسان الأعلى، لكنه بدلا من ذلك يضع تجربته الذاتية رهن إرادة الآخر. فهي بمثابة الطاقة الروحية المحركة للمجتمع وللتاريخ. “لذا يجب أن نعد فترة عبورهم في الدنيا بمثابة زناد يقدح الشرارة المقدسة التي هي ذاتهم. وستستمر تلك الشرارة تضئ للناس قدرا من الزمان يتوقف على قوة الشرارة الأولى”(شهيدة العشق الالهي، ص٤).
من القيم البارزة في سياق المقارنة بين الإنسان الأعلى والإنسان الكامل، قيمة الحرية، فهي مسألة مهمة جدا لدى نيتشه وبدوي، لأن المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتق الإنسان الذي يحمل رسالة للإنسانية تستوجب قدرا هائلا من الحرية، وقد وصفناه سابقا بأنه يبدو للوهلة الأولى مرعبا، لأنه يمنح الإنسان الراغب في التغيير جرأة تصل إلى حد تحطيم كل القيود من أجل تجاوز المألوف، وكل ما اجتمعت عليه الإنسانية في تاريخها الطويل، بحيث صار جزءا من نسيجها الوجودي والقيمي، وفي هذا السياق نقرأ:
“وأول ما يمهد لوضع هذه القيم أن يكون الإنسان حرا قد حطم كل القيود، وبدد كل ”هذه الأوهام الثقيلة الخطيرة التي أتت بها المذاهب الأخلاقية والدينية والفلسفية“، ولم يعد يؤمن بالقيم التقليدية وإنما ”يحلق تحليقا حرا دون خوف ولا وجل فوق الناس والأخلاق والقوانين والتقويم التقليدي للأشياء“”(نيتشه، ص ص ٢٦٣-٢٦٤).
ويقتبس بدوي، هنا، من نيتشه كثيرا، لأنه يجد في كلمات نيتشه ما يدعم أفكاره الذاتية أو، على الأقل، يمس شيئا داخله. فالقول بالحرية غير المتناهية للإنسان الأعلى، هو نفسه قول بدوي في الإنسان الكامل، خاصة عندما يتحدث عن أبطال دوستويفسكي الذين تتجاوز حريتهم أفعال الخير لتصل إلى أفعال الشر، وعندما يتحدث عن الحرية في ميدان الإبداع العقلي والعلمي الذي يصل إلي حد الشك والإلحاد لدى علماء المسلمين. غير أن بدوي يظل حريصا، في كل الحالات، على أن يقرن الحرية بالمسؤولية، فمثلما ميز بين الحرية وعدم الاكتراث في حالة الإنسان الكامل، فإنه يميز بين الحرية والعبث عندما يشرح الإنسان الأعلى لدى نيتشه، فنقرأ:
“لكن هذه الحرية ليس معناها السير على الهوى، وترك العنان للحياة تسير كما تشاء أن تسير. وإنما ”الحرية معناها أن لا يأبه الإنسان للعناء والقسوة والحرمان، بل والحياة نفسها وأن تكون لغرائز الرجولة والنضال وحب الظفر، السيادة على الغرائز الأخرى، مثل غريزة السعادة“”(نيتشه، ص٢٦٥).
والحقيقة أن غريزة السعادة لا تنفصل عن الغرائز الأخرى، بل إنها الغريزة الوحيدة التي تصاحب الغرائز الأخرى ولا تستقل بذاتها، فالسعادة شعور لا يمكن أن يقوم دون موضوع، فمعظم غرائز الإنسان من مأكل ومشرب وحب ونجاح ونصر ونضال، تأتي مقرونة بالسعادة حتي شعور الألم نفسه يحدث في بعض الأحيان أن يأتي مقرونا بالسعادة.
ومن الواضح أن نيتشه هنا يستبعد غريزة السعادة من بين الأمور التي يسعى إليها الإنسان الأعلى، لأن السعادة ترتبط بسعي الإنسان المتوسط، باعتبارها غاية رخيصة قياسا بالغايات العليا التي يسعى إليها الإنسان الأعلى. لكن الأمر يختلف في حالة الإنسان الكامل، لأن بدوي ينسب إليه دورا روحيا، ويرصد لديه سعادة من نوع خاص، تتبدى في تجارب المتصوفة والشعراء والمبدعين عموما، وهو البعد الغائب عن نموذج نيتشه في الإنسان الأعلى.
إن انسان نيتشه لاشك يشعر بالسعادة، لكنها سعادة أنانية تنبع من شعوره بالتفوق على الآخرين، وليس أدل على ذلك من أنه عندما يساعد الآخرين، فلا يقوم بذلك بدافع الشفقة أو الرحمة، ولكن باعتبار هؤلاء الآخرين مجرد موضوع لتصريف قوته وطاقته الفياضة، فنقرأ:
“وهو إذا أعان اليائسين فلا يعينهم شفقة بهم ورحمة، وإنما من أجل تصريف ما عنده من قوى فياضة زاخرة، ولكي تلعب إرادة القوة دورها بأن يحس المرء بقوته وقدرته وفيض حيويته، وسلطته على الآخرين”(نيتشه، ص٢٦٩).
وهذا خلافا لإنسان بدوي الذي يعاني جفوة الحياة ويستعذب الألم، لكنه يملك القدرة على التحمل، والارتفاع بمعاناته الذاتية إلى مستوى الإنسانية كلها. فكلاهما، إنسان نيتشه وإنسان بدوي، يسعى لبلوغ أعلى درجات الإنسانية، غير أن نيتشه ينطلق من قوة الإرادة بيننا ينطلق بدوي من شفافية الروح.
وهنا ينقلنا الحديث عن قيمة الحرية إلى قيمة السعي، وهي واحدة من القيم المشتركة بين الفيلسوفين، وربما كانت هي القيمة الأكثر حضورا في نموذجي الإنسان الأعلى والإنسان الكامل. ولأن الإنسان الأعلى يمجد قيم الرجولة والنضال وحب الظفر، فإن السعي نحو تحقيق هذه القيم يعد جزءا أساسيا في تكوين عقيدته التي تعلو فوق الإنسان وفوق كل شيء، “ولهذا فإن أبغض شيء إليه السلام والهدوء وروح المسالمة، والحرب عنده أقدس شيء”(نيتشه، ص٢٦٦).
وإذا كانت الحرب هي أقدس شيء عند إنسان نيتشه، فإن الحب هو أقدس شيء عند إنسان بدوي، يتضح ذلك في تجربة النضال الفريدة التي خاضتها رابعة العدوية في سبيل الظفر برضا الله ومحبته، “لهذا كان عليها أن تناضل في طريق الحب حتى تحيل الجانب السلبي إلى جانب إيجابي، شأن كل صوفي حق”(شهيدة العشق الإلهي، مرجع سابق، ص٧٥).
وإذا كانت غريزة الظفر لدي الإنسان الأعلى تعني الانتصار وفرض الوجود -في العالم- فإنها تعني بالنسبة للإنسان الكامل النجاة من هذا الوجود، “وانتصاره الأكبر إنما يتم نهائيا بالقضاء على الوجود -فى- العالم، على العالم ذي الأدوات، على الغيرية والهوى، على هذه العوائق التي تقف في سبيل النمو الكامل للممكنات غير المتحققة”(المرجع السابق، ص١٣).
وبالرغم من الخلاف الكبير في سعي الإنسان الأعلى وسعي الإنسان الكامل، إلا أنهما يشتركان في كونهما يناضلان ضد التقاليد السائدة، الدنيوية لدى نيتشه والدينية لدى بدوي. يتضح ذلك عندما نقرأ شرح بدوي للإنسان الأعلى قائلا:
“وهو من أجل هذا أبعد الناس عن أن يخضع لقواعد المجتمع وما يسوده من قوانين، فتلك لم توضع إلا لطبقة أخرى غير طبقة الممتازين”(نيتشه، ص٢٦٧).
ويتضح أيضا عندما نقرأ قول بدوي عن الإنسان الكامل قائلا:
“إذن فلتكسري التقاليد ولتقلبي الأوضاع! إذن فلتستني سنة أخرى، فما سنة الفقهاء إلا إحدى السنن، هي سنة المجموع والجماعة، فلا تصلح للفرد الممتاز!”(شهيدة العشق الإلهي، ص٧٨).
وهنا نستشعر روح نيتشه المتحدية في كلمات بدوي، سواء تلك التي عبّر بها عن الإنسان الأعلى أو تلك التي عبّر بها عن الإنسان الكامل، وإن كان يستخدم في كلتا الحالتين لفظة “ممتاز” أو “ممتازين”، ما يعني أن بدوي، ربما في اللاوعي، لا يميز بين المفهومين، أو أنه يعتبرهما وجهين لشيء واحد، أحدهما عقلي والآخر روحي. والشيء نفسه نجده في علاقة الوسائل بالغايات، فروح بدوي تسري في الإنسان الأعلى وروح نيتشه تسري في الإنسان الكامل، وكلاهما يبرر الغاية بالوسيلة، فما دامت الغاية مشروعة فحتما ستكون الوسيلة، أيا كانت، خيرة وشريفة، لأن الذي يحدد معاني الخير والشر هو الإنسان نفسه، بوجهيه: الأعلى والكامل، لأنه لا يخضع للمعايير الأخلاقية السائدة التي يفرضها المجتمع، وإنما لمعاييره الخاصة وقانونه الذاتي الذي ينفرد بسلطة التشريع لحياته، بل ولحياة الآخرين أيضا.
وفي هذا السياق ، نقرأ لنيتشه، عن الإنسان الأعلى، على لسان بدوي:
“وليس لديه إلا غرض واحد هو أن ينتصر ويسود ولتكن الوسائل بعد ما تكون، ولتكن الضحايا التي يتركها على الطريق ما تكون. فهذا كله لا يعنيه من أمره شيء. وكل الذي يعنيه هو أن يكون سيدا يفرض من القيم على الناس ما يريد. فكل وسيلة ما دامت توصل إلى هذا الغرض جيدة وشريفة، لأن الجودة والشرف ليس في الأشياء، بل هما قيمتان يضعهما هو بنفسه”(نيتشه، ص٢٦٧).
ويتحدث بدوي بروح نيتشه عن الفكرة نفسها بصدد الحديث عن شخصية فاوست الأدبية، وهي الشخصية النموذجية التي يمكن استدعائها حين البحث في مسألة العلاقة بين والوسائل والغايات، وتغليب الأولى على الأخيرة، فيقول:
“في الإنسان دافع إلى المزيد من الكمال، واضح دؤوب حيث لا يهدأ أبدا. وهذا سر عظمته. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف يستوي لديه أن يسلك سبيل الممكن أو سبيل المستحيل. إن أمكنه ما هو طبيعي فبها ونعمت، وإلا فليتخذ وسائل خارجة عن الطبيعة، عالية عليها أو أدنى منها، فالأمر في النهاية سيان، لأن العبرة هي بلوغ الهدف”(فاوست، مرجع سابق، ص٧).
وفاوست في الحقيقة نموذج إنساني فريد، لأنه يقع في منطقة وسطى بين إنسان بدوي وإنسان نيتشه، فهو يسعى إلى الكمال، لكنه لا يصل إلي الدرجة التي تجعل منه فوق إنسان، إنه إنسان بالدرجة الأولى، وطموحه نحو بلوغ المعرفة المطلقة والسعادة، إن هو إلا طموح فردي، وسعي فردي لتحقيق هذا الطموح. غير أن ما يميز فاوست أنه بسعيه نحو الكمال يقترب من الإنسان الكامل لدى بدوي، وبإقدامه على المغامرة ووضع نفسه وروحه في دائرة الخطر إنما يقترب من الانسان الأعلى لدى نيتشه.
وبهذا المعنى، تنطبق هذه الكلمات عليه، كما تنطبق على كل إنسان ينشد الكمال أو العلو:
“ومن أجل هذا كله يريد أن يحيا حياة الخطر، ولابد له في كل حين أن يحيط به الخطر من كل جانب: فإذا لم يأت إليه، فليتقدم هو من تلقاء نفسه، وإذا لم يجده ماثلا فيما حواليه، فليخلقه خلقا”(نيتشه، ص٢٦٨).
والمسألة الأخيرة التي يمكن أن نرصدها لدى كل من الإنسان الأعلى والإنسان الكامل هي قيمة الزمن. وتتبدي هذه القيمة لدى نيتشه في فكرة “العود الأبدي” وهي فكرة أشبه بأسطورة سيزيف، لكنها لا تنطوي على عبثية سيزيف ولا عدمية محاولاته اليائسة التي لا تنتهي ولا تصل إلى شيء، لكنها، على العكس من ذلك، تبث في الإنسان الأعلى الأمل، وتدفعه لمواصلة النضال، لأنه يعلم أن ما يحققه من إنجاز سيستمر أثره في الأجيال اللاحقة، وأن فكرة الاستمرار في السعي بنحو لا نهائي من التكرار من شأنها أن تضفي على وجوده مزيدا من القيمة، “فالمسئولية مضاعفة إذا لأنها لا تتناول عملا مضى مرة واحدة ولن يعود، بل تتناول عملا سيعود مرات ومرات. وبقدر هذه المرات، وهي لانهائية، تكون المسئولية”(نيتشه، ص٢٧٠).
وفي المقابل لن تجد لدى إنسان بدوي هذا الوعي المسؤول بالديمومة الزمنية، لأن الخبرات الذاتية للإنسان الكامل، هي خبرات ذات طابع صوفي وروحي عميق، وهو ما من شأنه أن يقوض فكرة الزمن بعناصرها الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، لأنها تجربة تستمد عمقها من استغراقها في الحاضر والآن، دون استحضار للحظات الماضية أو المستقبلة في الوعي، فيقول بدوي:
“والوقت الدائم عند الصوفية هو الآن الدائم: وعلى هذا فإن الوقت يدل على الحاضر الخالص غير المهجن بشيء من الماضي أو المستقبل”(النزعة الإنسانية والوجودية، مرجع سابق، ص٩٥).
كما أن فكرة التكرار، التي هي السمة المميزة للعود الأبدي، تتعارض والوعي المغترب للإنسان الكامل، فإذا كان الإنسان العادي، عند نيتشه، لا يحب التكرار لأنه يذكّره بماضيه المؤلم، فإنه، عند بدوي، سمة العامة الذين لا يملكون القدرة على الابتكار، فيقول بدوي: “والروح الغريبة تهفو إلى التميز، وألد أعدائها التكرار، لأنها تنشد دائما أبدا التجديد والابتكار. فالمعهود هو القاعدة العامة، هو النواميس المقررة بين الناس وبه يحكمون وعليه يسيرون”(الإشارات الإلهية، مرجع سابق ص(يد))
وفي كل الأحوال، فإن المسألة اللافتة أن فكرة العود الأبدي ربما لا تجد حضورا لها في التجربة الفردية للإنسان الكامل، في صورته الصوفية بخاصة، لكنها تجد تحققها في التاريخ، ما يعني أن بدوي استطاع أن يحيل التجربة الفردية للإنسان الأعلى عند نيتشه إلى تجربة حضارية يكون بطلها الإنسان الكامل. يتحقق ذلك بالرجوع، بعد كل دورة حضارية، إلي كل ما هو إنساني باعتبار أن الإنسان هو المبتدأ وهو المنتهى في حركة التاريخ، فيقول بدوي:
“وهذا العود المحوري إلى الوجود الذاتي الأصيل هو ما يُسمى في التاريخ العام باسم “النزعة الإنسانية”. ولا بد لكل حضارة ظفرت بتمام دورتها أن تقوم بهذا الفعل الشعوري الحاسم”(النزعة الإنسانية والوجودية، مرجع سابق، ص١٤).
فإذا كانت الحضارة الأوربية قد أعادت إحياء الإنسان السفسطائي ( الذي هو مقياس كل شيء) في شكل نزعة إنسانية معاصرة، فينبغي على الحضارة العربية أن تعيد إحياء فكرة الإنسان الكامل حتي يمكنها صياغة نزعتها الإنسانية الجديدة، ودون حاجة إلى استعارة نموذجها من حضارات أخري لها رصيد إنساني كبير في تراثها وثقافتها الذاتية الماضية، كالحضارة الغربية. إن بدوي مؤمن بوجود نفس هذا الرصيد الإنساني متجذرا في ماضي الحضارة العربية، ومتمثلا في ثقافتها وفلسفتها وتجاربها الروحية العميقة. فالإنسان الكامل ليس غاية في ذاته، لكنه أداة نظرية لبث روح الإنسانية في العالم.
وإذا جاز لنا أن نصوغ نموذجا جديدا لإنسان هذا العصر، متأسسا على نموذجي الإنسان الأعلى والإنسان الكامل، فينبغي أن ندرك أولا أن كلا النموذجين كان ينطوي على بعد ميتافيزيقي، وليس أدل على ذلك من صياغة المصطلح نفسه، فالعلو والكمال صفتان ترتبطان بالألوهية، وتأليه الإنسان مسألة لم تعد مناسبة لإنسان اليوم، الذي صار أكثر وعيا وتقدما من أن يبني نموذجه الإنساني على عناصر غير إنسانية، خارقة.
وقد حاول بدوي أن ينزل بالإنسان من عليائه إلى أرض الواقع ليحارب في جبهة النضال اليومي مع أقرانه الذين يشعرون، مثله، بالمعاناة، وينشدون الخلاص، بالمعني الدنيوي لا الديني، أي الخلاص من المشكلات الحياتية اليومية، بينما ظل نيتشه، مخلصا لفكرته الميتافيزيقية، محافظا على تلك المسافة التي بينه وبين الإنسان المتوسط، لأنها هي التي تضمن له التفوق الدائم، والشعور الأبدي بالفخر.
بهذا المعني ينبغي أن يأتي نموذج الإنسان الجديد، الذي نقترحه، مستجيبا لحاجات هذا العصر. إنه إنسان مرتبط بالأرض، بالحياة، ومتعاطفا مع الآخر من منطلق الأخوة والمساواة الإنسانية، خلافا لإنسان نيتشه الذي يرفض المساواة، ويعلي من شأن الاختلاف والفردية. إنسان العصر، هو إنسان السلم لا الحرب، إنسان يعيد الاعتبار لقيم التسامح والرحمة والشفقة، التي أهدرها نيتشه في سبيل طموح أناني جامح نحو السيطرة. ربما كانت القيمة الوحيدة التي ينبغي على إنسان العصر أن يبقي عليها من بين قيم الإنسان الأعلى الجامحة، هي “إرادة القوة”، لكن ليس بمعني قوة البطش والظفر، وإنما قوة الشعور الإنساني بالآخر. فالعالم الآن يقف على حافة الهاوية، ولا يحتاج إلا إلى مزيد من التعاطف الإنساني، والتضامن المجتمعي والدولي من أجل الوقوف في وجه التحديات المناخية والكوارث البيئية.
إنسان العصر، نموذج يعيد الاعتبار للإنسان العادي، أو المتوسط، فالعالم لم يعد في حاجة إلى أبطال خارقين بنحو ما تنتج شركة مارفل السينمائية كل يوم. إن فكرة البطل الخارق لا تجد لنفسها حضورا في الوعي، إلا في ظل إيمان عميق بفكرة “المخلّص” التي تلوح في الأفق كلما عجز الناس عن حل مشاكلهم وأزماتهم بأنفسهم. ينبغي للإنسان الجديد أن يتجاوز التجربة الذاتية الفردية الصوفية التي ميزت إنسان بدوي في معظم خصالها وتجاربها النفسية والروحية. فالاستغراق في التجربة الذاتية لن يحقق الخلاص إلا للفرد القائم بها فقط، الأمر الذي من شأنه أن يقضي على خصوبتها وحيويتها، فالأهمية الحضارية التي عزاها بدوي للحركات الروحية لن تتحقق وتكتمل إلا بوعي نيتشوي بالمسئولية تجاه العالم، وتجاه الآخرين الذين يشاركوننا الحياة فوق هذه الأرض.
ينبغي أن نعيد تفسير مفهوم “القوة” عند نيتشه، ومفهوم “الروحية” عند بدوي بما يتناسب مع إنسان العصر. فإذا فهمنا القوة بمعنى العلم، والروحية بمعنى الدين أمكن فض الاشتباك بين العلم والإيمان، وأمكن بالتبعية إعادة تفسير مفهوم “القلق” ليتحول من خبرة ذاتية وجودية إلى خبرة اجتماعية كونية. فالقلق لن يكون علي مصير الفرد لكن علي مصير الإنسانية برمتها، والنضال لن يكون من أجل سعادة الأنا، وإنما سعادة العالم كله.





أضف تعليق