د. ماهر عبد المحسن
عرفت أناسا كثيرين يميلون إلى شراء احتياجاتهم عن طريق الدفع الفوري (الكاش)، وعرفت أناسا آخرين يميلون إلى الدفع علي مراحل أو دفعات (التقسيط).
ولكل منهما مبرراته في اتخاذ مسلك دون آخر. فالفريق الأول يرى أن التقسيط نوع من الدين، وأن الكاش يرفع عن كاهله ذلك الشعور بأنه مدين. في حين يرى الفريق الثاني أن التقسيط لا يشعره بوطأة الإنفاق التي يستشعرها عندما يدفع الثمن مرة واحدة.
والحقيقة أن لكل رأي وجاهته، وهو يناسب كل فريق على حدة، غير أن التحليل الفلسفي يقدم للفريقين مبررات مختلفة. فأنصار الدفع الفوري يتصرفون على اعتبار أن الهوية الذاتية ثابتة، أي أن مدين اليوم هو مدين الغد ما يعني أن الذي سيقوم بالسداد هو الشخص نفسه، وبهذا المعنى يفضل هؤلاء الدفع مرة واحدة.
وعلي النقيض من ذلك، يتصرف الفريق الثاني وكأن الهوية متغيرة، بمعنى أن الذي سيسدد القسط الأول غير الذي سيسدد الثاني غير الذي سيسدد الأخير وهكذا. وبلغة الاقتصاد فإن الألم الحدي المتوقع حدوثه عند الدفع الفوري سيتم تفتيته وتوزيعه على أكثر من شخص، بالمعني الماهوي، على فترات متباعدة.
ويتحقق المعني نفسه في حالة “التسويف”، فالأشخاص الذين يؤجلون أعمال اليوم إلى الغد، يقومون بذلك وكأن وجودهم في المستقبل سيشغله شخص آخر، بالرغم من إدراكهم أنهم هم الذين سيقع عليهم تبعة إنجاز العمل محل التأجيل!
كما يحدث في حالة الأمور التي تحتاج إلى حلول ناجزة، وتلك التي تتطلب مواجهة، فيؤثر الشخص المسؤول تأجيل المواجهة إلى زمن مستقبلي يأمل أن تتغير فيه الظروف أو تتغير حالة الشخص، النفسية والعقلية، أو يحل بالفعل شخص آخر يكون أكثر قدرة على حسم الأمور.
والحقيقة أن هوياتنا متغيرة، ووجودنا لا نبذله مرة واحدة كالدفع الفوري، لكن على دفعات صغيرة مثل التقسيط. فالتغيير هو السمة المميزة للوجود لا الثبات بنحو ما ذهب هيراقليطس في مقولته الشهيرة ” الإنسان لا ينزل النهر مرتين”. وبهذا المعني، لا ينبغي أن تستمر مواقفنا تجاه الناس والعالم كما هي دون تغيير، ففي كل مرة نغمض فيها أعيننا لا نفتحها ونحن نفس الشخص، ولا نري ذات العالم!

