د. ماهر عبد المحسن


في روايتها السيرية ” أقفاص فارغة” تصور الشاعرة فاطمة قنديل رحلة عدمية، تختلط فيها هموم الذات بهموم المجتمع، وتبدأ من الطفولة وحتى مشارف الستين. وعدمية الرحلة لا تعني فراغ المعنى أو عبثية الحياة القاسية التي تعبّر عنها الرواية، ولكنها، وللمفارقة، تعني أن الكاتبة كانت تعيش حياة ملغزة مليئة بالتناقضات، فالمقدمات تمضي في اتجاه بينما النتائج تأتي في اتجاه آخر، غالبا معاكس ومعارض.
ربما لهذا السبب جاء العنوان معبّرا عن الفراغ “أقفاص فارغة”، وجاء اسم المؤلفة منفيا “ما لم تكتبه فاطمة قنديل”، فعنصر المراوغة موجود على مستوى اللغة كما هو موجود على مستوى الواقع الذي تعبّر عنه هذه اللغة.
ولا يخفى دلالة هذه المراوغة، فما لم تكتبه فاطمة قنديل هو في الحقيقة إثبات وتأكيد على أن الكاتبة هي فاطمة قنديل، وبهذا المعنى يكون النفي في لغة الكاتبة بمثابة إثبات، والعدم في حياتها تأكيدا للوجود! يؤكد ذلك رفضها لأن تكتب بضمير الغائب، كما نصحها البعض، وقولها:
“أنا أريد أن أحضر كما لو أنني كنت غائبة دائما، الحضور الكامل هو كل ما أحلم به، اليقظة، التي لا تفوت ضوءا واحدا في جوفي إلا حدقت فيه، حدقت فيه حتى يتلاشى، كعيون الميدوزا، لا أريد سوى أن أمسخ كل الذكريات إلى أصنام، ثم أكسرها، ثم أكنس التراب المتبقي منها، حتى ولو كنت أنا نفسي، صنما من بين كل تلك الأصنام”(أقفاص فارغة، الكتب خان للنشر والتوزيع، القاهرة، ٢٠٢١م، ص١٩)
إنه نوع من التطهير للذات وللعالم الذي شكّل سجنا للكاتبة، وأرادت أن تتحرر منه.
ويمكن أن نفهم ما لم تكتبه فاطمة قنديل على أنه مالم تكتبه الشاعرة في أشعارها من قبل، وربما لهذا السبب اختارت الرواية هذه المرة لتبوح من خلالها عما سبق وأضمرته في قصائدها السابقة، فللكاتبة حياة سرية ظلت مطوية بين السطور، وقد رأت هذه المرة أنه قد آن الأوان كي تطفو هذه الحياة على السطح وتتصدر السطور. فنقرأ:
“أسوأ ما يمكن أن يحدث بعد موتي هو أن يأخذ الآخرون أقوالا مأثورة مما أكتب، أن تصير حياتي قولا مأثورا، هو ما يصيبني بالغثيان، أن تصير درسا أو عبرة، هو الجحيم ذاته، أحاول أن أتجنب هذا المصير وأنا أكتب، بلغة عارية تماما، لا ترتدي ما يستر عورتها من المجازات، لأن الحياة تصير أكثر شبقا بعد أن نموت، كذئب مسعور، لا يروي ظمأه إلا الحكايا”(ص٦١).
والحياة السرية للكاتبة ليست الوقائع المخجلة التي يبحث عنها القارئ عادة عندما يقدم على قراءة سيرة ذاتية بطلتها امرأة، ولكنها الحياة الداخلية للكاتبة الإنسانة، وربما كان هذا هو السبب في أن قنديل اكتفت بسرد حياتها الشخصية والاجتماعية دون التركيز على حياتها الإبداعية كشاعرة والعلمية كأكاديمية. وبهذا المعني يحتاج القارئ المهتم بسيرة قنديل الشاعرة المثقفة إلى جزء ثان تتطرق من خلاله إلي سنوات التكوين وسنوات الإبداع، للوقوف على العوامل الفكرية والثقافية التي ساهمت في تشكيل هذه الموهبة الكبيرة ذات الملامح الإبداعية المميزة. كما يحتاج إلى أن يقف على رؤيتها السياسية ومواقفها من القضايا العامة، المحلية والعالمية، خاصة أنها كانت تكتب سيرتها في ظل ظرف تاريخي مصيري على كافة الأصعدة، سياسيا واقتصاديا وعلميا وبيئيا.
ربما أرادت الكاتبة أن تطلعنا على فاطمة قنديل الإنسانة، وهو جانب مهم، لكن يظل القارئ متعطش لأن يقرأ عن قنديل الشاعرة، وقنديل المفكرة وهو جانب لا يقل أهمية، فدائما هناك جدلية داخل المبدع بين كونه إنسانا وكونه فنانا، وقد فطن كتّاب السيرة الذاتية إلى ذلك فآثر البعض أن يجمع بين الجانبين في سيرة واحدة كما فعل طه حسين في “الأيام” ، وآثر البعض الآخر أن يفرد سيرة مستقلة لكل جانب كما فعل زكي نجيب محمود في كتبه الثلاثة “قصة عقل” و”قصة نفس” و”حصاد السنين”. وفيما يبدو فإن الكاتبة اختارت الطريق الأخيرة، ما يجعلنا نتوقع جزء ثان أو أكثر لاستكمال الوجه الإنساني بالوجه الإبداعي لفاطمة قنديل.
وإذا كان للكاتبة وجهان، أحدهما إنساني والآخر إبداعي، فإن للأقفاص الفارغة معنيان، أحدهما حقيقي والآخر مجازي، وكما تحدثت الكاتبة عن وجهها الإنساني دون الإبداعي فقد تحدثت عن الأقفاص الفارغة الحقيقية دون المجازية، والتي تركت عبء تفسيرها لحصافة القارئ، وفي هذا المعني تقول:
“بعد أن ماتت أمي، لم أعد أجلس في الشرفة كثيرا، وذات صباح فوجئت بالحوض وقد صار مخزنا لأقفاص دجاج فارغة، حملها أحدهم، كغنيمة، ليخبئها هناك، عشرات من الأقفاص، المكدسة فوق بعضها، احتلت كل المساحات بين الشرفة الصغيرة، وسور البيت، حين رأيتها جن جنوني، وأدركت أن البيت صار مستباحا تماما، كأنه مهجور، و كأن لا وجود لي فيه”(ص١٦).
ومفتاح الفقرة السابقة يكمن في بدايتها “بعد أن ماتت أمي”. فحياة الكاتبة بعد موت الأم صارت فارغة ومستباحة، ووجودها صار مهددا في عالمها الخاص الذي اختارت مرغمة أن تحيا فيه بمفردها. وهنا يحق لنا أن نتساءل: لماذا لم تكتب قنديل إهداءً لروايتها؟!
هل لأنها لم تجد في حياتها من يستحق الإهداء، أم لأن الذين يستحقون إهداءها كثيرين؟ .. ربما تجيب اللوحة التي تتصدر الغلاف عن هذا التساؤل، ففيها تظهر طفلة تجلس فوق كرسي وتحتض قطا أسود بين ذراعيها وبجانبها منضدة فوقها علبة شكولاتة، ومن خلف الكرسي تقف الأم وهي تحيطها بذراعيها في حنان. والأم هنا هي رمز الحماية والمسؤولية، والقط وعلبة الشكولاتة هما رمزا البراءة، واللوحة بهذا المعنى يمكن أن تُفهم على أن الكاتبة تودع المسؤولية وتستعيد البراءة التي فقدتها مبكرا، لأنها لم تعش طفولتها كما ينبغي، والبراءة عند الكاتبة، في هذه السن، لا تعني السذاجة، ولكن براءة الشاعرة التي تتعامل مع مفردات العالم المعتادة وكأنها تخبرها للمرة الأولى.
من هذا المنطلق يمكننا أن نقرأ رواية “أقفاص فارغة”، وتحديدا الفصل الأول الذي يحمل عنوان “علبة شوكولاتة.. صدأت للأسف”. فمن خلال هذا الفصل يمكن أن نمتلك مفتاحا نفتح به أبواب الفصول الثلاثة الأخرى، وحتي نتمكن من تحقيق ذلك، لن ننظر إلي علبة الشكولاتة الصدأة باعتبارها مدعاة للأسف كما وصفتها الكاتبة، وإنما ستكون من قبيل الطالع السعيد بالنسبة للقارئ الذي يهوى الغوص ما بين السطور.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن براءة الكاتبة، كطفلة وككاتبة مبدعة، تجعلنا نتوقف عند كلمة مفتاحية استخدمتها قنديل أكثر من مرة في هذا الفصل، وهي “الزهو”، فما دلالتها في المواضع التى وردت فيها؟ وإلى أي مدى كانت تعكس شيئا ما خفيا في نفس الكاتبة أو في طيات الرواية؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عنه في السطور التالية.
علبة شوكولاتة بطعم الحنين:
في مشهد سينمائي استهلالي بارع تبدأ الكاتبة روايتها من خلال علبة شوكولاتة قديمة تحمل تاريخ الكاتبة وشيئا من تاريخ الأسرة، وهو مدخل مشوق وجذاب لكونه يخلو من الشخوص والأحداث، ويعتمد على المشهدية من خلال رصد تفاصيل العلبة ذات الدلالة وأشياء الكاتبة التي حلت محل الشكولاتة في العلبة، وكأن ما حفظته فيها من أوراق وأشعار هو بمثابة الامتداد الحلو لطعم الطفولة، فنقرأ:
“داخل أحد الأدراج، ظلت علبة “الشكولاتة” طول الوقت في كيس بلاستيكي. حملتها من بيتي القديم مع سائر أشيائي “الثمينة”، وضعت بداخلها بضع أوراق، كي أضحك عليها في شيخوختي، قصائد قديمة كتبتها في الثانية، أو الثالثة عشرة، بالقلم الجاف: الأحمر، والأزرق، والأخضر، على ورق لامع سميك. ظللت أفتح العلبة، من وقت إلى آخر، وكلما فتحتها رأيت الكلمات المكتوبة تنطمس أكثر فأكثر، لكن الورق بقى سميكا، ولامعا، كما كان! إلا من ثقوب أسنان الأقلام”(ص٧).
تتكئ الكاتبة كثيرا على علبة الشكولاتة كمدخل مهم ودال للرواية، لتتناولها بالوصف والتحليل على مدار الصفحات الخمس الأولى، ما يجعل القارئ يشعر بوحدة الكاتبة وحجم الفراغ الذي يملأ حياتها، وربما شيئا من الضجر الذي ران على معظم التفاصيل، غير أن مهارة الكاتبة في التعبير، وحرصها على وضع علبة الشكولاتة في صدارة المشهد الروائي، وفي بؤرة وعي القارئ، من شأنه أن يمني القارئ بواحدة من تجليات الرواية الجديدة كما عهدناها عند آلان روب جرييه، خاصة عندما يطغى الوصف الخالص على السرد، وتتراجع كل الحمولات العاطفية المجازية إلى الوراء، لتفسح المكان للحضور المادي الكثيف، فنقرأ:
“على سطح العلبة كتابة بخط جميل: Cadbury Milk Tray Chocolates الكتابة على شريط بنفسجي اللون، من نسيج الصفيح نفسه، مائل بطول العلبة، كأنه الضلع الثالث لمثلث، وتحت الشريط رسومات لقطع، ذات أشكال مختلفة، من الشكولاتة، التي، من المؤكد، كانت، كلها داخل العلبة يوما ما. على الجانب، وفي أقصى اليمين، مكتوب وزن العلبة بالإنجليزية والعربية: ٤٥٤ غراما، وإيضاح “بالإنجليزية فقط” Including Foils”” ابتسمت، لهذه الدقة الموجهة لمن يقرأ الإنجليزية، ولم تترجم للعربية … قلبت العلبة لأتأمل ظهرها الآخر، كان من الصاج الفضي الذي صدأ”(ص ص٨-٩).
ولا تكتفي الكاتبة بالسرد المجرد، ولكن تنتقل، بنعومة، من جرييه إلى ادموند هوسرل لتقدم لنا نوعا من الفينومينولوجيا التي تؤسس أشياء العالم داخل الوعي، وهنا تبدأ ذات الكاتبة في الظهور تمهيدا لظهور الشخصيات والأحداث، كما نلمح ارتباط الذات بالموضوع، ورؤية العالم كما تبدى في الوعي ذات مرة في الماضي، فتقول:
“رسومات الشوكولاتة جميلة، مربعة ومدورة، وكل شكل له تصميم مختلف، بعضها “سادة” وبعضها منبعج قليلا، ويمكنني أن أخمن أنها محشوة بالبندق، لونها البني، رغم بهتانه قليلا، يوحي بأنها كانت شوكولاتة “أصلية”، لابد أنني شعرت بالحسرة وأنا أتناول القطعة الأخيرة منها، خصوصا أنها علبة صغيرة نوعا ما، ولابد أنني كنت أنفرد بها في ليال شتوية (هكذا يحلو لي أن أصنع المشهد) تحت البطانية، وفي حضني قطي “ميشو” على الأستديو الصغير الموضوع في الصالة، حيث كنت أنام (لم تكن لي غرفة خاصة في هذه الطفولة البعيدة)”(ص٩).
ارتباط الوعي بموضوعه، واجترار الذكريات البعيدة ينقلنا مع الكاتبة إلى منطقة مارسيل بروست، حيث تصير أشياء العالم الحاضرة طريقا للبحث عن الزمن الضائع، فنقرأ:
“حاولت أن أتذكر من أين أتت، بلا جدوى، لا يهم، فلديّ ذاكرة مثقوبة لم أعد أعبأ بترميمها، المؤكد أنها كانت “هدية”، والمؤكد أنها لم تكن من علب الشوكولاتة تلك، التي كان يحملها الزائرون لأمي في مرضها الأخير، أولا، لأنها من النوع الفاخر، وثانيا، لأن شكلها يوحي بأنني كنت طفلة حينذاك”(ص١٠).
ويتضح ارتباط أشياء الحاضر بوقائع الماضي، في وعي الكاتبة، في أكثر من موضع، فعندما تقرر أن تشتري صينية جديدة، للطعام، أكبر حجما، تعود بالذاكرة لبيتها القديم وأسرتها المفككة، التي غادر أفرادها الحياة، لتعيد المشهد العائلي الفريد ذي الدلالة الخاصة، حيث تجتمع الأسرة لتناول الطعام، دون أن تجتمع، فكل فرد يتناول طعامه، فوق صينية خاصة داخل عالمه الخاص، فتقول:
“لم أفعل هذا أبدا، ولم نفعل، كذلك، في بيتنا القديم ، كأنه “طقس” مقدس، أن يضع أحدنا الطعام على الصينية، ويمضي وحيدا، ومنفردا بها، “رمزي” في غرفته يستمع إلى الموسيقى، أو يقرأ كتابا، ماما بعد عمل اليوم الشاق، تحمل صينيتها، أو تحمل الصينية ل”راجي”، المنعزل دائما في غرفته، بابا يحمل صينيته ويجلس في السرير، إلى جواره الراديو، يقلب إذاعات العالم، وإلى جواره زجاجة البراندي، غالبا، يقرأ في رواية بوليسيه بالإنجليزية، بعد أن سمحت له أمي بالشراب داخل البيت، “تجنبا للفضائح”، كما قالت”(ص٢٠).
الزهو.. وأشياء لا تدعو للفخر!
على غرار التحليل الفينومينولوجي لجاستون باشلار، نعثر لدى الكاتبة على مفردة تكررت لعدة مرات متتالية في الفصل الأول، وهي “الزهو”، ما يجعل القارئ يتساءل عن سر احتفاء الكاتبة بهذه المفردة بالرغم من أنها تأتي في مواضع لا تستدعي الفخر أو الخيلاء. فهل للكلمة معنى خاص لدى الكاتبة؟ أم أنها تستخدمها كنوع من الأداة والاستراتيجية الساخرة التي تواجه بها خيبات الأمل التي أمطرتها بها الحياة؟
تقول الكاتبة: “لا أظن أن السعادة الكامنة، وحدها، هي ما حافظ على العلبة طوال هذه السنين، كم من السعادات المفقودة دون أثر! أظنها ابنة لحظة “زهو” أيضا، لحظة دخول سيارة فارهة إلى شارعنا، حتى إن الجيران خرجوا إلى الشرفات ليتأملوها، هبطت منها بنتان، تفوح منهما العطور الغالية، وأبي جالس بالبيجاما والروب”(ص١١).
فالزهو، بهذا المعنى، أقوى من السعادة عند الكاتبة، لأن السعادة تذهب بينما الزهو يبقي على مدار السنين، ربما لأن السعادة شعور داخلي يخص الشخص وحده، لكن الزهو يرتبط بوجود آخرين بحيث يستشعر هذا الشخص وجوده وحضوره القوي والمميز في مواجهتهم. وقد يرتبط الزهو بسمة تميز الشخص ذاته أو بميزة تضاف إليه من الخارج كما يحدث عادة لدى الأطفال الذين يشعرون بالزهو بسبب أشياء تخص الآباء أو الإخوة الكبار، وتشير الكاتبة إلى معنى قريب عندما تقول:
“غالبا هما من أتيتا بالعلبة، فالبهجة الدفينة فيها، وتذكري الزيارة والجيران في الشرفة، كانت أمورا دافعة للزهو، لا محالة، الزهو لا يمكن أن تستشعره إلا فتاة، في الحادية عشرة من عمرها، وماتزال تتذكر، وهي تجاوز الستين، ظلام الصالة المشرّب بنور المطبخ الواهن، وقد غطت رأسها بالبطانية تلتهم الشوكولاتة، وتربت على شعر “ميشو”، وتمسك به، بعنف، كلما حاول التملص منها”(ص١١).
وفيما يبدو فإن الأب كان دائما هو مصدر الزهو عند الكاتبة، وأن مهنته في التدريس كانت هي التي تمنحه القدرة على أن يكون سببا في زهو ابنته، فالفتاتان السعوديتان اللتان جلبتا علبة الشوكولاتة كانتا من تلاميذ الأب، والمدرسين الذين كانوا يدرسون للكاتبة في طفولتها كانوا يلجؤون للأب لحل مسائل الدراسة المستعصية، فتقول مؤكدة على قوة شعورها بالزهو:
“نعم كان “الزهو”، الزهو، الذي استعادته في ذلك المساء، زهو الطفلة، التي كان مدرسوها يضعون فى يدها -خلسة- التمارين الرياضية الصعبة عليهم، لتسليمها إلى أبيها، ينظر إليها باستهانة: “مش عارفين يحلو دي؟! قال مدرسين أوائل قال!” ثم تعود إليهم في الصباح التالي، بالحل”(ص١٣).
غير أن الكاتبة تأبى إلا أن تجعل من الزهو مسألة أكثر تعقيدا عندما تجعله الوجه الآخر لشعور مبطن بالعار، فشعور الكاتبة بالزهو قد ينجم عن احتفاظها بأسرار لا يعرفها الآخرون. ولا يخفى أن الاحتفاظ بالأسرار قد يمثل عبئا على حامل السر وقد ينطوي على لذة خفية من جراء الشعور بامتياز ما، فوق الآخرين. وفي هذا المعنى تقول:
“لم يكن زهو من تتباهى بأبيها، لا، كان زهو تلك الطفلة: “حاملة السر”… كان سكرانا “طينة”، هابطا يتطوح من المترو، ينادي عليّ فعلا، بصوت ممطوط، لكنني أسرعت في خطواتي، وتجاهلته تماما، لتبقى تلك اللحظة، عمرا بكامله، حتى الآن، لا يمكنني نسيانها، أو تجاهلها، حتى وأنا أصب لنفسي قدح البيرة من جديد، وأحاول أن أتفهم كل دوافعه، حتى وأنا أرقب نفسي سكرانه “طينة”، وأفرغ ما بجوفي، كأنها اللحظة الأبدية للعار، العار، الذي يقطن أمعائي من يومها، ولم يكن باستطاعتي، أبدا، أن أفرغه”(ص١٤).
ويظل للزهو معنى خاص لدى الكاتبة، فكما كان يمثل الوجه الآخر للعار في حالة الأب الغائب عن الوعي بفعل السكر، فإنه صار يمثل الوجه الجميل للعدم في حالة الأم التي رحلت عن الدنيا بعد رحلة طويلة من المعاناة مع المرض. فالزهو هو الحضور القوي للحياة في مواجهة الموت، أو، بمعني أدق، هو القوة التي تمنحنا القدرة على تحمل فاجعة الموت. نلمح ذلك في لحظة إنسانية فريدة ومركبة عندما تقف الكاتبة أمام مقبرة العائلة التي ستدفن فيها الأم، وتشعر بالزهو أمام جماليات المكان التي تحيط بالمقبرة، فنقرأ:
“شعرت بسعادة بالغة حين وافقوا، وحين رأيت المقبرة تملكني الزهو، برخامها الأنيق، تحيط به الزهور المروية حديثا، وشواهدها المكتوبة بخط جميل”(ص٢١٦).
وأيضا يظل الزهو مرتبطا بالعدم عند الكاتبة بعد موت الأخ الأكبر، غير أنها تستخدمه كأداة للانتقام هذه المرة، فالعلاقة لم تكن كما ينبغي مع أسرة الأخ، وبخاصة الزوجة، وموته لم يمثل فاجعة كبيرة، ولكن مناسبة غير سارة لمعاودة الاتصال بالأسرة التي آثرت الابتعاد، فتقول:
“مرت أربعة أشهر على موت “رمزي”، يومي كما هو، أقلعت عن البكاء تماما، ونشرت له عزاء “رسميا”! على صفحتي على فيسبوك! لم أذهب، بالقطع، إلى عزائه، استقبلت تعازي الأصدقاء بشيء من الزهو، وربما الانتقام الخفي، من عائلته، التي بإمكانها أن تراها على صفحتي”(ص٢٥٢).
إن ارتباط الزهو بالشكولاتة في بداية الرواية، وبالموت في نهايتها، يلخص رحلة فاطمة قنديل، الكاتبة الإنسانة، التي عاشت ببراءة من أجل الآخرين داخل سجن من التقاليد المرعية في أسرة مصرية متوسطة، تنقلت كثيرا في المكان والزمان والأحوال من أجل حياة سعيدة بسيطة لم يتحقق لها الاستقرار.
لم تستمر البراءة كثيرا، لأن المعاناة بدأت مبكرا، والمسؤولية تسللت لتستقر فوق كاهل الصغيرة بعد أن اختار الآخرون أن يكونوا جحيما مستعرا يهدد سذاجتها اللطيفة ويهدم سعادتها المغلفة بطعم الشكولاتة.
كان الزهو سلاح الكاتبة في مواجهة عالم شرير، لا يرحم، فهو الحضور القوي للشخصية، والمعادل النفسي لكيان متهالك على وشك الانهيار. فقد كان يمنحها الكبرياء، الذي يجعلها تتسامى فوق الإحباطات المتتالية، والأحلام المجهضة، والحماقات المفخخة التي كانت تدوس عليها، عامدة، بقدميها بكل قوة دون أن تخشى الانفجار، وربما رغبة في الانفجار!
لم تكن رحلة فاطمة قنديل محبطة للنهاية، لأنها كانت تملك القدرة على الصمود، واكتساب المزيد من الجلد، والأهم من هذا وذاك، أنها كانت تمتلك رؤية للوجود، ولديها فلسفة للحياة، أن تبدأ، كعصفور النار، من جديد، بعد كل احتراق. فالماضي لن يعود، والذين مارسوا حماقاتهم في مواجهتها ذات يوم لن يستطيعوا أن يكرروها مرة أخرى، لأنهم رحلوا، إما عن الحياة أو عن الوعي، دون رجوع.
والكاتبة هي التي قررت، بكل شجاعة، ودون مواربة، ما الذي يستحق أن يستمر معها في حياتها الجديدة، وما الذي سيسقط من الذاكرة إلى الأبد، فقد تخلصت من كل أثاثها القديم، ولم يتبق لديها إلا بعض الأوراق والصور، وكان عليها أن تكون دقيقة في الاختيار، فتقول:
“قطعت كل صور أخويّ وخطاباتهما، بعنف، أسميته ساعتها: “الكراهية حين تنفجر”، محوت آثارهما، فعليا، من البيت القديم، كي لا تلاحقني، كي لا تراوغني في بيتي الجديد، وتختبئ في أي شق، وتهاجمني في الليل، ولم أُبق إلا صورة وحيدة لأبي، وصور عديدة لي مع أمي، حملت ملابسي الصالحة، وكتبي، سلمت للمالك الجديد المفتاح، وأغلقت الباب إلى الأبد”(ص٢٤٩).
وبهذا المعني، يمكن أن نفهم أقفاص فاطمة قنديل الفارغة إلا من الخيبات، بوصفها زنازين خلت من نزلائها، بعد أن حررت قنديل الذاكرة من عبء التذكر، وبات الماضي سجنا مهجورا، أو كأنه والعدم سواء، فقد “انتهى الأمر، دون ندم، دون ذاكرة، دون حتى مرور عابر أمام شارع البيت القديم… كأن الحياة كلها بدأت هنا، في هذا البيت، الذي أعيش فيه الآن، كأن الزمن هناك، أيضا، قد تهدم، وسقطت صخرته الأخيرة”(ص٢٥١).




أضف تعليق