د. ماهر عبد المحسن


يحتاج الإنسان إلى الشعور “بالونس” في أحيان كثيرة، بل وقد يمتد هذا الاحتياج إلى العمر كله، فيلجأ إلى الصداقة والزمالة والجيرة والزواج. والونس بهذا المعنى، يعيد الاعتبار لأهمية الآخر في حياتنا، التي أهدرها سارتر تحت مقولة الجحيم، فربما يسبب الآخرون شيئا من الإزعاج للأنا، لكن يظل الاحتياج لوجودهم هو السمة الأبرز، ويكفي أن الإنسان لا يستطيع أن يشعر بوجوده وبأهميته في هذا الوجود بغير وجود آخر يدرك هذا الوجود ويقدره. تتبدى هذه الفكرة بنحو أكبر في حالة الفنانين والأدباء والمبدعين بعامة، الذين يسعدون باحتفاء الآخرين بأعمالهم.
حتى الإنسان العادي، البعيد عن مجالات الأضواء والشهرة، يحدث كثيرا أن يتصرف على النحو الذي يلفت به نظر الآخرين، يفعلها الشاب في وجود الأخريات، ويفعلها رب العمل في وجود المرؤوسين، بل ويفعلها الآباء في وجود الأبناء!
ولا أعتقد أن روبنسون كروزو أو حي بن يقظان كانا أسعد حالا في حياتهما البرية البعيدة عن البشر، لكني لا أعتقد أيضا أنهما كانا يعدمان الشعور بالونس، لأنهما كانا يعيشان بالقرب من الطبيعة، ومن الكائنات التي تدب فيها الحياة. فالونس هو نقيض الخوف، والشعور بالونس هو شعور بالطمأنينة نتيجة القرب من آخر حي، إنسان أو حيوان، كبير أو صغير، قوي أو ضعيف!
ولعل في ذلك ما يفسر لنا رغبة الناس في اقتناء الحيوانات الأليفة (المستأنسة)، وإنجاب الأطفال الصغار، وربما تربية اسماك الزينة و زراعة النباتات.
وفي هذا المعنى، اذكر أني، في سن صغيرة كنت لا استطيع ان أبيت في المنزل وحدي في غير وجود القطة التي قمنا بتربيتها وكانت تعيش بيننا في البيت. وفي مرحلة أخرى كنت أشعر بالونس عندما كنت أنام بجوار طفلي الرضيع الذي لم يكن يدرك شيئا، ولا يملك أي قوة، وفي مرحلة أخيرة كنت أعيش الشعور نفسه بالطمأنينة عندما كنت أنام في غرفتي بينما كانت تنام أمي المريضة العاجزة عن الحركة، رحمة الله عليها، في غرفة أخرى مجاورة.
وبالرغم من أني أحب الهدوء، وأميل للجلوس في سكينة، غير أني أحب ضوضاء الجيران، وأصوات الباعة في الشارع، والونس هنا يمثل حالة فريدة من العلاقة مع الآخر المزعج، أن تحيا وحيدا على خلفية من أصوات الآخرين، أي على مسافة من حياتهم التي لا تتقاطع مع حياتك، لكن تقترب منها بحيث تنقل إليها شيئا من “الحس الإنساني المشترك”، وهو مصطلح مهم وله حضور قوي في اللغة الدارجة عندما يقول الناس الراغبون في الونس “ناخد بحس بعض”.
ربما تنطوي المسألة على شيء من البرجماتية بحيث تجعلك تستخدم الآخرين دون أن تتورط في علاقة حقيقية معهم، لكن لا بأس، فالونس هو أهم ما يميز الحياة في الأحياء الشعبية، وهي أحياء تقوم الحياة فيها على عقد اجتماعي ضمني، بأن يتمتع الناس بحرية العيش بصخب، أي أن يعبّروا عن حياتهم بصوت عال، على أن يستفيد الآخرون، الذين يعانون الوحدة والذين يفتقرون إلى الروح الاجتماعي، من هذا الصخب عندما يتحول لديهم إلى نوع من الونس!
وبهذا المعنى، لا يمثل الونس تفاعلا حقيقيا بين البشر، بل يحدث كثيرا أن يكون عبارة عن علاقات متوازية بين الناس، أو بين حيوات كاملة متوازية، ولا يضمها سوى فكرة الجوار. نلحظ ذلك في علاقاتنا بالجيران المقابلين لنا في الشرفة، أو الجالسين على مقربة منا في القطارات أو أوتوبيسات الرحلات في أوقات السفر.
فالونس يتحقق عندما نرقب حياة الآخرين، الذين يعيشون على مقربة منا، خاصة الذين تمضي حياتهم على وتيرة واحدة، مثل أصحاب المحال التجارية والمقاهي والمهن الحرة، الذين يفتحون ويغلقون في مواعيد ثابتة، ويمارسون في يومهم طقوسا ثابتة، كما يحدث في المدارس في المواسم الدراسية، فنسمع أصوات طوابير الصباح، ونشهد حركة التلاميذ والباصات في أول النهار ونهايته.
ليس هذا فحسب، بل إن هناك من نشعر تجاههم بهذا الونس لمجرد أننا نلتقي بهم يوميا، في مواعيد ثابتة، دون أن تربطنا بهم معرفة سابقة، فقط نكتسب هذه المعرفة من تكرار اللقاء المنتظم، في مواقف المواصلات العامة، وفي الطرق المؤدية للأماكن نفسها. ولنجيب محفوظ قصة قصيرة تعبّر عن هذا المعنى، صوّر فيها علاقة صامتة استمرت لسنوات بين أناس لا يعرفون بعضهم، لكن يلتقون يوميا على محطة الأوتوبيس.
ويمكن للونس أن يأتي من الماضي، فنشعر به في استدعاء الذكريات وسماع الأغاني القديمة ومشاهدة الأفلام غير الملونة، غير أنه ونس من نوع خاص، ونس إشكالي، لأنك فيه ترى الصور وتسمع الأصوات بنحو مجازي، لكنك على الحقيقة لا تسمع إلا صوت أنفاسك وحدك، فالونس هنا يشغلك عن الوحدة، لكنه يؤكدها في الوقت نفسه. والغريب أن الكثير من الناس يشعر بالراحة والطمأنينة عندما ينام على صوت التليفزيون الذي يذيع أفلاما قديمة، وكأن الونس لا يتحقق في صورته الكاملة إلا إذا اقتربت من موضوعه، وانشغلت عنه في الوقت نفسه.
الونس لا يتطلب انخراطا في العلاقة، لكن حياة علي هامش العلاقة، وربما كان هذا هو السبب في أن الناس في نهاية حياتهم لا يحتاجون من يشاركهم ما تبقي لهم من العمر، لكن من يؤنس وحدتهم، والونس، كما لاحظنا، لا يتطلب كفاءة في العلاقة، بقدر يتطلب وجودا في الجوار، أن تكون هناك أنفاس أخرى تتردد على مقربة منا، حتى لو كانت تعبّر عن وعي آخر وحياة أخرى مغايرة!



أضف تعليق