د. ماهر عبد المحسن
التفكير النقدي هو أحد المهارات الهامة، والضرورية، لتحقيق رؤية علمية للأمور التي تحيط بالإنسان، سواء على المستوى الثقافي أو الاجتماعي.
وأهم ما يميز التفكير النقدي أنه يساعد في عدم قبول أي نوع من المعرفة إلا بعد فحص ودراسة للأسس التي تقوم عليها، والتأكد من جدارتها بالتصديق العقلي.
والحقيقة أن ممارسة النقد مسألة تميز الإنسان، عموماً، عن سائر الكائنات، وبهذا المعنى، فهي لا تقتصر على عصر دون عصر، أو مجتمع دون مجتمع، إلا أنها تقتصر على نوع من الناس دون آخر. وفي هذا السياق، يفرق بن رشد بين نوعين من البشر: عوام (الجمهور) وخواص (العلماء)، بحيث تقتصر القدرة على ممارسة النقد والتأويل على الخواص. ويذهب الغزالي إلى الرأي نفسه بعد أن يضيف إليه طائفة ثالثة هي “اهل الجدل”. والخواص، وفقاً للغزالي، هم أصحاب الذكاء والبصيرة، وبلغة العصر هم المثقفون الذين يمتلكون من الأدوات المنهجية ما يمكّنهم من التحليل والتفسير، ومن ثم القدرة على إعادة القراءة والمراجعة.
وفى ظل عالم غارق في الأكاذيب بات التفكير النقدي هو الملاذ الوحيد أمام إنسان هذا العصر، حتى يمكنه التمييز بين الحقيقي والمزيف، غير أن طوفان المعلومات من ناحية، وتغليب المصالح الشخصية من ناحية أخرى، قد أديا إلى إهدار فضيلة النقد بحيث صار الانقياد والتسليم هما السمتان الغالبتان على مواقف الغالبية العظمى من الناس.
وفي هذا السياق، تبرز الحاجة إلى إحياء هذه الفضيلة، والعمل على اكتساب المهارات اللازمة لممارسة نقدية عقلية واعية. وبالرغم من الخطوات الكبيرة التي قطعتها النظرية النقدية في الفكر الغربي المعاصر، إلا أن العودة للتراث العربي الإسلامي تعد خطوة ضرورية من أجل بناء الوعي النقدي.
والحقيقة أن التراث الإسلامي يزخر بالعديد من الممارسات النقدية التي طالت السياسة والفكر والاجتماع، وأنتجت نصوصاً كانت من الأصالة والعمق بحيث احتوت على مضامين فكرية مازالت قادرة على مخاطبتنا حتى الآن. ولعل في السجال الفكري الذى دار بين الغزالي وابن رشد، رغم بعد المسافة الزمنية بينهما، حول الفلسفة، ما يؤكد كلامنا.
وفى هذا الصدد، اخترنا كتاب “تهافت الفلاسفة” للغزالي كنموذج للنقد، و اخترنا كتاب “تهافت التهافت” لابن رشد كنموذج لنقد النقد. ولا يفوتنا أن نذكر أنه بالرغم من أن هذين الكتابين ينتميان إلى التراث إلا أن المقدمتين اللتين كتبهما سليمان دنيا للأول، وعابد الجابري للأخير، تنتميان إلى العصر الحاضر، وتندرجان تحت مبحث نقد النقد. فنحن إذن أمام ممارسات نقدية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتغطي فترة زمنية طويلة، ما يعنى أن العقلية العربية لم تعدم القدرة على النقد، ولم تركن كثيراً إلى الانقياد والتسليم، وإنما آفتها أنها مارست النقد على المستوى الأكاديمي، وفشلت في أن تعمم تجربتها النقدية على باقي طوائف المجتمع.
وبالرغم من أن النقد، في معناه اللغوي، هو إظهار عيوب الشيء ومحاسنه، إلا أن الغزالي استخدم لفظة “تهافت”، التي تعني تناقض الفكر وضعفه، للتعبير عن ممارسته النقدية في الكتاب، ما يعنى أنه سيصب نقده على السلبيات أكثر من الإيجابيات، فهل كان نقد الغزالي هدّاماً، بنحو ما ذهب عابد الجابري، أم كان بنّاءً، بنحو ما ذهب سليمان دنيا؟. وإلى أي مدى يمكن أن نسحب أحكامنا على نقد ابن رشد الذى استخدم اللفظة نفسها عنواناً لكتابه، الذى وضعه رداً على الغزالي؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات تقتضي البحث في الكيفية التي مارس بها كل منهما نقده، الغزالي تجاه الفلاسفة، وبن رشد تجاه الغزالي، وهذا ما سنتناوله بشيء من التفصيل في هذه المقالة.
الغزالي ناقداً الفلاسفة:
لم يضع الغزالي كتابه “تهافت الفلاسفة” للهجوم على الفلسفة، كما يُشاع، وإنما وضعه للهجوم على الفلاسفة الذين قالوا بآراء معينة، رأى الغزالي أنها مخالفة للإسلام، وهم بالتحديد الفارابي وابن سينا، اللذان أسسا آراءهما على فلسفة أرسطو. يؤكد ذلك استبعاد الغزالي للمنطق والطبيعيات من دائرة نقده، التى قصرها على الإلهيات، واعترافه بفضل هذين المبحثين من مباحث الفلسفة اليونانية القديمة.
لقد وقف الغزالي في نقده، موقف المدافع عن الإسلام، الغيور علي الدين، فيقول فى السطور الأولى من تمهيد الكتاب:
“أما بعد، فإني قد رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد الفطنة والذكاء، قد رفضوا وظائف الإسلام من العبادات، واستحقروا شعائر الدين: من وظائف الصلوات، والتوقي عن المحظورات، واستهانوا بتعبدات الشرع وحدوده، ولم يقفوا عند توقيفاته وقيوده، بل خلعوا بالكلية ربقة الدين، بفنون من الظنون، يتبعون فيها رهطاً يصدون عن سبيل الله، و يبغونها عوجاً، وهم بالآخرة هم كافرون”.
ويؤخذ على الغزالي افتقاده للمعايير الأخلاقية في ممارسته النقدية، بحيث لم يقتصر في نقده على الأفكار محل الدراسة والمراجعة، ولكن أجاز لنفسه النّيل من الأشخاص أصحاب هذه الآراء، فوصفهم بأبشع الصفات، حتى وصل إلى حد رميهم بالكفر. يتضح ذلك فى أكثر من موضع، منها ما ذكره فى التمهيد نفسه عندما قال:
“فلما رأيت هذا العرق من الحماقة نابضاً على هؤلاء الأغبياء انتدبت لتحرير هذا الكتاب رداً علي الفلاسفة القدماء، مبيناً تهافت عقيدتهم، وتناقض كلمتهم، فيما يتعلق بالإلهيات، وكاشفاً عن غوائل مذهبهم وعوراته، التي هي على التحقيق مضاحك العقلاء، وعبرة عند الأذكياء”.
والحقيقة أن مسلك الغزالي في هذا السياق إنما يعكس لوناً من النقد اللا أخلاقي، مازال يلقى بظلاله الثقيلة على ثقافة هذا العصر، حتى تحول النقد، في كثير من الأحيان وفى ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، إلى نوع من تبادل السباب.
والحقيقة أن مفهوم النقد، فيما يبدو، عند الغزالي لا يقف عن حدود الأفكار، وإنما يمتد ليشمل الأشخاص والعلوم التي يشتغلون بها. فهو يرغب في نوع من النقد يعمل على تقويض الأفكار من أساسها، بحيث يثبت كذب الأشخاص وزيف العلوم، فيسهل عليه، بعد ذلك، هدم الأفكار. يتضح ذلك من عدة عبارات من قبيل: “يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد الفطنة والذكاء… لا مسند لكفرهم سوى تقليد سماعي إلفي… إنما مصدر كفرهم سماعهم أسماء هائلة، كسقراط، وبقراط، و أفلاطون، وأرسطو طاليس، و أمثالهم”.
وبالرغم من اختلافنا مع الغزالي في نقده للأشخاص، إلا أن ذلك لا يمنعنا من الاعتراف بأنه نجح في الكشف عن دور التقليد، و الاعتقاد فى التميز، فى تكوين الأفكار. غير أن المسألة الأكثر أهمية إنما تكمن فيما أطلق عليه الجابري” المشهور”. فشهرة الأشخاص من شأنها أن تعمل على رواج الأفكار المغلوطة، وهى مسألة شائعة فى عالمنا المعاصر. كما لا يمكننا أن نغفل تلك اللفتة الذكية التي أبداها الغزالي عندما تحدث عن النزعة الطبقية التى تهيمن على وعى الفلاسفة المقلدين، الذين يجدون فى التشبّه بأصحاب الفكر الإلحادي وسيلة للتعالي على الجماهير، والكبر على الدين. فهى ظاهرة منتشرة بين مثقفي هذه الأيام، الذين ينظرون إلى مسائل الدين وقضايا الإيمان نظرة متعالية بحجة العقلانية والتنوير.
وفى هذا المعنى يقول الغزالي :
“فلما قرع ذلك سمعهم، ووافق ما حكى من عقائدهم طبعهم، تجملوا باعتقاد الكفر، تحيزاً إلى غمار الفضلاء بزعمهم، وانخراطاً فى سلكهم، وترفعاً عن مسايرة الجماهير والدهماء، واستنكافاً من القناعة بأديان الآباء”.
وإذا انتقلنا من نقد الأشخاص إلى نقد الأفكار، فسنجد أن الغزالي، بالرغم من الانتقادات التي وجهت إليه، من ابن رشد وغيره، يحسب له أنه كان حريصاً على أن يبين الخطوات المنهجية التي سيسير عليها في نقده، وذلك في مقدمات أربع سبقت مسائل الكتاب. ولعل أهم ما يميز هذه المنهجية هو اعتماده على مبدأ “عدم التناقض”، وهو أحد المبادئ الأساسية في المنطق الأرسطي، في دحضه لآراء الفلاسفة، فيقول فى المقدمة الأولي:
“ليعلم أن الخوض في حكاية اختلاف الفلاسفة تطويل، فإن خطبهم طويل، ونزاعهم كثير، وآراءهم منتشرة، وطرقهم متباعدة متدابرة، فلنقتصر على إظهار التناقض في رأى مقدمهم الذى هو الفيلسوف المطلق، وهو المعلم الأول… وهو رسطاليس”.
غير أن الغزالي، نفسه، لم يسلم من التناقض عندما وصف ناقلي آراء أرسطو بالتحريف، قائلاً:
” ثم المترجمون لكلام “رسطاليس” عن تحريف وتبديل، محوج إلى تفسير وتأويل، حتى أثار ذلك أيضاً نزاعاً بينهم”. ويقصد الفارابي وابن سينا.
ثم يعود ليعتمد عليهما في
نقده لآراء أرسطو اللذان نقلا عنه، فيقول:
“فليعلم أننا مقتصرون على رد مذهبهم بحسب نقل هذين الرجلين، كي لا ينتشر الكلام بحسب انتشار المذهب”.
وكان الأحرى أن يرجع الغزالي إلى أرسطو نفسه، إذا أراد أن ينتقد آراءه، أو أن يعتبر آراء الفارابي وابن سينا، المنقولة، هي آراؤهما الشخصية بعد أن تم هضمها وإعادة إنتاجها.
ابن رشد ناقداً الغزالي:
خلافاً للغزالي، يضع بن رشد لكتابه “تهافت التهافت” مقدمة واحدة قصيرة يبين فيها الغرض من الكتاب، فيقول:
“فإن الغرض في هذا القول أن نبين مراتب الأقاويل المثبتة فى كتاب التهافت لأبي حامد في التصديق والإقناع، وقصور أكثرها عن مرتبة اليقين والبرهان”.
وقد شرح عابد الجابري مراتب الأقاويل، المشار إليها فى المقدمة، وفقاً لأرسطو على النحو التالي:
١- الأقاويل البرهانية، وهى التي تفيد العلم اليقيني.
٢- الأقاويل الجدلية، وهى التي يعتمد فيها المرء على المشهور من الآراء والأفكار.
٣- الأقاويل السفسطائية، والهدف منها التغليط والتضليل، وتقديم الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل.
٤- الأقاويل الخطابية، وهي التي تُستعمل من أجل إقناع الإنسان بأي شيء كان.
٥- الأقاويل الشعرية، وهى التي تعتمد التخييل والتصوير بهدف حمل المخاطب على أن يرى في الشيء إما جمالاً أو قبحاً أو جلالاً أو هواناً.
ومن خلال هذا التحليل يصل الجابري إلى نتيجة منهجية يفسر بها موقف ابن رشد من طريقة الغزالي فى نقد الفلاسفة، فيقول:
“وعندما يصف ابن رشد (الأقاويل المثبتة) في كتاب الغزالي ب( قصور أكثرها عن رتبة اليقين والبرهان) فمعني ذلك أن أكثرها من النوع الجدلي والخطابي والسفسطائي، أى أنها ليست تنتمى إلى العلم، وبالتالي فهي، بلغتنا المعاصرة: هي إيديولوجية بمعنى (الرأي الذى يقول به الخصم) في مواجهة خصمه، الأقاويل التي ليس هدفها بناء المعرفة بل إقناع المخاطب بوجهة نظر لا تنتمى إلى العلم، بل تنتمي إلى المذهب والتمذهب”.
وابن رشد، وفقاً للجابري، بعيد، في نقده، تماماً عن أية إيديولوجيا. فقد كان منقطعاً للعلم، ولا يهدف من ورائه سوى الوصول إلى المعرفة اليقينية التي يطمئن إليها العقل. وهو في سبيله إلى ذلك كان يميز بين الدين والفلسفة، ليقضي على ذلك الخلط الذى وقع فيه الغزالي في كتابه.
وفى هذا السياق، يقول الجابري :
” الدين له اصول ومقاصد والفلسفة كذلك لها اصول ومقاصد: أصول الدين موضوع إيمان، فلا يجوز للعقل الجدال فيها لأنها تتعلق بموضوعات غيبية تقع خارج ميدان العقل، خارج البديهة والحس. أما مقاصده فهي حمل الناس على الفضيلة بواسطه العمل وفق ما يقرره كشريعة … والفلسفة لها هي الأخرى أصول خاصة بها يضعها العقل ويسلم بها أو يبرهن عليها يستقيها من الحس والتجربة وبديهة العقل. هدفها بناء معرفة صحيحة بالكون بجميع مظاهره وأسبابه”.
ويتفق الاثنان في أنهما يهدفان إلى توجيه السلوك الإنساني، الفردي والجماعي، نحو الخير والفضيلة والسعادة.
وتتضح أهمية هذا التمييز فى موقف ابن رشد من المسائل الثلاث التي على أساسها كفّر الغزالي الفلاسفة، فيقول في ضرورة الشرائع للفضائل العملية والنظرية:
“بل القوم (الفلاسفة) يظهر من أمرهم أنهم أشد الناس تعظيماً لها، و إيماناً بها، والسبب في ذلك أنهم يرون أنها تنحو نحو تدبير الناس، الذى به وجود الإنسان، بما هو إنسان. وبلوغه سعادته الخاصة به، وذلك أنها ضرورية في وجود الفضائل الخلقية للإنسان، والفضائل النظرية والصنائع العملية”.
وبهذا المعنى، ينجح ابن رشد في الفصل بين الدين والعلم، كإجراء منهجي يهدف إلى تحقيق الموضوعية، من ناحية، وفى إعادة الربط بينهما من أجل تحقيق الأخلاقية من ناحية أخرى. وإذا استخدمنا مصطلحات كانط، فالدين ينتمى للعقل العملي وأداته الإرادة، والعلم ينتمى إلى العقل النظري وأداته العقل، وكلاهما ضروريان لسعادة الإنسان وتقدمه.
وفى كل الأحوال، يمكننا أن نقول إن تجربة ابن رشد النقدية نجحت في أن تتلافي الأخطاء التي وقع فيها الغزالي بحيث تحقق فيها العلم والأخلاق. ولعل فى ذلك يكمن السبب الذى جعل الجابري يصف كتاب “تهافت التهافت” بأنه انتصار للروح العلمية وتأسيس لأخلاقيات الحوار، بل ويستخلص أربع قواعد لهذه الأخلاقيات من آراء ابن رشد التي تضمنها كتابه، وهى كالآتي:
• الاعتراف بحق الاختلاف والحق في الخطأ.
• ضرورة فهم الرأي الآخر في اطاره المرجعي الخاص به.
• التعامل مع الخصم من منطلق التفاهم والتزام الموضوعية، والاعتراف له بحق الدفاع عن رأيه.
• الاعتقاد في نسبية الحقيقة العلمية وفى إمكانية التقدم العلمي.
وأخيراً، إذا كان من درس يمكن أن نتعلمه من هذا السجال الفكري العميق، فهو أن الفكر لا ينبغي أن يُواجه إلا بالفكر، وأن الروح النقدية مطلوبة في التعاطي مع ظواهر الفكر والمجتمع من أجل تمييز الجيد من الرديء، والوقوف على عناصر الزيف والوهم التي يمكن أن تؤثر سلبياً في وعى المتلقي.
غير أن الممارسة النقدية لن تؤتي ثمارها إلا إذا كانت ممارسة مسئولة بحيث تقتصر على الفكر ولا تمتد إلى الأشخاص. كما ينبغي أن تتخلص من الإيديولوجيا حتى تصير علمية. هذا مع الوضع في الاعتبار أن موضوعات النقد لم تعد نصاً مكتوباً فحسب، وإنما صوت وصورة أيضاً، فضلاً عن أن يكون هذا النص معنياً بقضايا فلسفية ميتافيزيقية.
فقضايا الحياة اليومية، المسكونة بهواجس الحرية والعدالة الاجتماعية، هي التي تهيمن على الإنسان العربي هذه الأيام. والخطاب السائد، لم يعد الديني فحسب، ولكن السياسي والاجتماعي والإعلامي كذلك.

