د. ماهر عبد المحسن


بينما كنت أراجع مع ابنتي الصغيرة درس توازن البيئة environment balance في مادة العلوم Science المقررة على الصف الخامس الابتدائي، ذكرت لي، حسبما درست، أن الافتراس هو أحد أسباب هذا التوازن وأن فيه فائدة كبيرة للضحية، لأن فصيلة الغزلان مثلا إذا لم تتعرض للافتراس فإن عددها سيزداد بشكل كبير ومن ثم لن تكفيها الموارد الغذائية المتاحة، وهو أمر من شأنه أن يخلق نوع من الصراع بين الغزلان أنفسهم حول الغذاء، يكون فيه البقاء للأقوى، وهي النتيجة نفسها التي تحدث دائما في حالة الافتراس، غير أن الفارق هو أن الحيوان المفترس ( الأسد أو النمر مثلا) سيجد مصدرا للغذاء في هذه الغزلان يمكّنه من أن يعيش ويستمر في الحياة!

والحقيقة أن التوازن البيئي هو أمر حتمي بالفعل، وفيه تنطوي الحكمة الإلهية الرامية إلي الحفاظ علي الأنواع، غير أن الخطاب التعليمي والتربوي هنا يقع في خطأ أخلاقي كبير عندما يفسر هذه الظاهرة من زاوية الوحش المفترس، خاصة عندما يكون المتلقي أطفالا صغارا لم يصلوا بعد إلي سن التمييز، لأنها تقدم المبرر العلمي والديني لفكرة الافتراس، التي تعادل أفكار العنف والإرهاب والقتل في عالم الإنسان.

وهي ترسخ للمبدأ الدارويني الشهير “البقاء للأقوى”، الذي يجعل حق الحياة مكفولا للأقوياء فقط دون الضعفاء، وتستدعي فكرة الإنسان الأعلى عند نيتشه ونقاء الدم الألماني عند هتلر والمليار الذهبي في الماسونية، وكلها أفكار عنصرية تجعل المستقبل وقفا على طائفة محدودة من البشر، وتنظر إلي نهاية العالم بوصفها قيامة جزئية ستقضي علي الضعفاء فقط، وتترك الساحة خالية للأقوياء!

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن استخدام الدين لتبرير العنف لا يقتصر علي العمليات الإرهابية الكبيرة التي تختلط بالسياسة ويروح ضحيتها الكثيرون، لكنك يمكن أن نجدها حتي في المشاجرات اليومية البسيطة، وفي هذا السياق أذكر أني شاهدت، ذات مرة، مشاجرة في الشارع وكان أحد أطرافها شاب مسجل خطر، وكان يمسك بيده سلاحا أبيض يلوح به في الهواء، يقول مشيرا إلي آخر ” أنا هموته النهارده.. هو نصيبه كده”. فالمجرم هنا ليس منتميا لجماعة إرهابية، لكنه يري في نفسه مجرد أداة لتنفيذ المشيئة الإلهية التي قدرت أن يموت شخصا ما في هذا التوقيت بيده!

وتتضح الفكرة بنحو أكثر إذا افترضنا أن الأسد يفكر، كالإنسان، وسألناه: لماذا يفترس الغزلان، فسيجيب كما أجابت ابنتي تلميذة الابتدائية وكما ورد بالكتاب المدرسي، بأنه يتصرف لصالح الغزلان، وربما كان أكثر ذكاء وخيالا فيجيب بأنه يتصرف لصالح الكون كله، لأن استمرار الحياة على الأرض يقتضي التضحية بالبعض، خاصة الضعيف منه، حتي يعيش الآخرون!

ربما لا يفهم الأطفال هذه الأبعاد، خاصة أنهم لم يطلعوا بعد علي تلك الفلسفات ولم ينفتحوا علي خبرات الحياة، لكن من المؤكد أن ثمة أثرا ما سوف يترك ملامحه محفورة في وجدانهم، وسيسهم بشكل كبير في تصرفاتهم في المستقبل. وفي هذه الحالة ليس مطلوبا منا غير إعادة تأسيس التفسير بحيث ينتقل إلي الضحية، بأن نقول إن الحكمة الإلهية اقتضت أن تكون نسبة التكاثر في الحيوانات التي تتعرض لمخاطر البيئة والافتراس أكثر من تلك التي لا تعاني المخاطر نفسها، وبهذا المعني ينسحب الأمر علي كائنات أخري حية مثل السمك والنحل والنمل. ولا شك أن الموقف يختلف، بالرغم من أن النتيجة واحدة، وهي تحقيق التوازن البيئي، فحكمة الوجود تقتضي وجود الشر في العالم، لكن من الخطأ تفسير التصرفات الشريرة علي أنها صدرت عن أصحابها تحقيقا لحكمة الوجود!


أضف تعليق