د. ماهر عبد المحسن

يرى الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر أن الثرثرة سلوك يقوم به الإنسان هربا من أعباء الواقع الذى لا يستطيع تغييره أو التكيف معه. ويرى البعض أن الدافع لها الفراغ والبطالة وإثبات الذات، او التسلية والفضفضة. وهو سلوك إنساني فطري أصيل، يغلب عليه العاطفة والانفعال ويبتعد عن التفكير والمعقولية. وكما أن هناك مجتمعات لا تعرف الثرثرة مثل اليابان، فإن هناك مجتمعات أخرى لا تجيد شيئا سوى الثرثرة مثل المجتمعات العربية التي وصفت في الأدبيات السياسية بأنها محض ظاهرة صوتية.

غير أن الثرثرة لدى المصريين فاقت كل الاحتمالات حتى صارت أسلوب حياة. فهي ليست وسيلة للهرب من أعباء الواقع الذى لا يستطيعون تغييرة على نحو ما رأى هيدجر، وإنما أصبحت بديلا للواقع وللفعل. فقد تربى المصريون على النميمة وعلى الدوران حول الفعل (الحدث) بالتعليق والشرح والتبرير في الحياة الاجتماعية، والتأييد أو الشجب فى الحياة السياسية. الثرثرة عند المصريين هي الحل لكل مشاكلنا المستعصية التي لا حل لها، وهى الوجود المصيري الوحيد الذى نواجه به العدم المحيط بنا من كل جانب، وهى الواجب الثقيل الذى ما نلبث أن نقوم به حتى ننام مرتاحي الضمير.

وتتجلى مظاهر الثرثرة في كل حياة المصريين بدءا من نتائج مباريات الكرة وانتهاء بالقرارات السيادية في الدولة، وليس أدل على ذلك من انتشار استوديوهات التحليل الرياضي، وبرامج التوك شو وحسابات مواقع التواصل الاجتماعي.

وقد فطنت الحكومات التي تعاقبت على المصريين إلى هذه الحقيقة، فاستغلتها أسوأ استغلال، لنجد أنفسنا أمام حالة سياسية واجتماعية غريبة أشبه باللؤلؤ الصناعي، حيث يتم الزج بخبر ما، فيه من الغرابة والإثارة ما يستفز شهوة الثرثرة بهدف تمرير حدث آخر مضمر، وذلك من قبيل الجرائم الاجتماعية أو الفضائح السياسية أو الحوادث الخرافية، على نحو ما شاهدنا في وقائع احتراق البيوت بسبب الجان، وانتحار الشباب المتورطين في لعبة الحوت الأزرق، والإعلان عن برنامج ديني جديد تقدمه راقصة في شهر رمضان المعظم.

والمشكلة أن العلاقة بين الحدث والثرثرة المثارة حوله غير متكافئة. فالثرثرة كيان هش ما يلبث أن يتبخر وينتهى، في حين أن الحدث المطروح لذاته يبقى صلبا وراسخا ليمارس دوره المرسوم له بعناية، أو يذوب ويتبخر هو أيضا إذا كان مجرد غطاء لحدث آخر يراد تمريره!!


أضف تعليق