د. ماهر عبد المحسن
منذ عدة أيام ذهبت إلى السينما لمشاهدة فيلم عالم الديناصورات Jurassic world ، وأمام شباك التذاكر سألتني الموظفة عما إذا كنت أرغب في شراء نظارة البعد الثالث، لأن الفيلم يًعرض بهذه التقنية، شعرت بالارتباك قليلا ثم وافقت على الشراء.
أما لماذا شعرت بالارتباك، فلأني تذكرت أني كنت قد شاهدت فيديو طبي على اليوتيوب يشرح فيه الطبيب مرض كسل العين الذي يصيب ضعاف البصر من الذين يعانون من تفاوت كبير في قوة الإبصار بين العينين. ومما ذكره هذا الطبيب أن هؤلاء المرضى لا يستطيعون مشاهدة أفلام البعد الثالث، لأن المخ في حالتهم يعتمد على عين واحدة فقط في الرؤية، والبعد الثالث يتحقق من مجموع رؤيتي العينين معا لا عين واحدة، وبهذا المعني سيظل مريض كسل العين يرى الفيلم مسطحا حتي لو ارتدى نظارة البعد الثالث!
ولما كنت أعاني من مرض كسل العين، فقد ترددت في شراء النظارة في البداية قبل اتخاذ قرار الشراء، وقد وافقت في النهاية حتي أخوض التجربة وأتأكد من صدق الظاهرة بنفسي. وبالفعل عند مشاهدة الفيلم كانت الرؤية دائما مسطحة، بالنظارة أو بدونها، وعندما حاولت قراءة شريط الترجمة الذي كان على الشاشة وجدت صعوبة في القراءة، فحاولت الاعتماد علي حصيلتي اللغوية المتواضعة في الإنجليزية لفهم أحداث الفيلم والتمتع بالمؤثرات الصوتية والبصرية الخاصة، عدا تقنية البعد الثالث.
في الحقيقة أني فهمت الفيلم بشكل إجمالي ولا أنكر أني قضيت وقتا ممتعا، لكني لا أنكر أيضا أن شعورا ما سلبى تسلل إلى نفسي من جراء اكتشافي لحقيقة أني لن أستطيع، ما حييت، أن أشاهد أفلام البعد الثالث إلا بنحو مسطح. وهنا تساءلت عن أهمية البعد الثالث في حياتنا؟.. هل يمكن أن يعيش الإنسان ويدرك العالم بنحو يخلو من العمق؟
ربما يمكن ذلك في الفن، فقد مر الإنسان بمراحل السينما الصامتة، والأبيض والأسود قبل اختراع الصوت والألوان، ولم يمنعه ذلك من الفهم والتمتع بجماليات الفيلم. غير أن الوضع يختلف كثيرا في الواقع، وحتي نستطيع أن نجيب على السؤال ينبغي أن نتفق على أن البعد الثالث في الحياة، الذي يحقق الإدراك الكامل والصحيح، ليس هو الإدراك المتعلق بالمحسوس وإنما ذلك المرتبط بالمعني والدلالة، فالبعد الثالث لعالم الإنسان هو ذلك الذي يًدرك بالفهم، وهو لا يتطلب مجرد مشاهدة واستمتاع، ولكن مراقبة وتأمل وبذل الجهد من أجل النفاذ إلى عمق الظواهر.
وفي هذا السياق أذكر كتابا قرأته منذ عدة شهور بعنوان ” عقل جديد كامل” لمؤلفه دانيال بينك، وفيه يتنبأ بينك بأن الذين سيحكمون العالم في المستقبل هم المبدعون الذين يستخدمون النصف الأيمن من المخ وهو النصف المسؤول عن الخيال، خلاف النصف الأيسر المسؤول عن المنطق والرياضيات، وحجة بينك في التحول من النصف الأيسر إلى النصف الأيمن هو تزايد احتياج البشرية لكل ما يدعم إنسانيته من أنشطة الخيال واللعب والحكي التي هجرها الإنسان انسياقا وراء التقدم التكنولوجي المادي الهائل.
إن أهم ما يميز الرؤية الحالمة لبينك، في سياق مقالنا، ليس فقط الدعوة إلي التحول من المادي إلى الإنساني، ولكن الطرح الذي قدمه للمسألة بحيث جعل تزايد الاعتماد على الجانب الأيسر من المخ، خلال القرنين الماضيين، هو ما أدى إلى أن يُصاب النصف الأيمن بالكسل، تماما مثلما يحدث لمرضى كسل العين، والعالم بهذا المعنى صار فاقدا للبعد الثالث، أي للعمق، وأن ما يطالب به بينك لا ينبغي أن يُفهم علي أنه دعوة لإهدار النصف الأيسر لصالح النصف الأيمن، لأن الفهم السطحي للعالم سيظل كما هو دون تغيير، فقصور الفهم يعادل قصر النظر.
وفي كل الأحوال يحتاج الإنسان إلى قدر من المران، مثل الذي يقوم به مرضى العيون، بحيث يتلاشى الفارق بين الجانبين، أو على الأقل يضيق. فكما نقوم بإغماض عيننا القوية ونفتح الضعيفة حتي تسترد قوتها بالمران، ينبغي أن نغمض عين العقل قليلا وأن نفتح عين الخيال على اتساعها حتي تستقيم رؤية العالم بكل تعقيداته وتناقضاته.
بهذا المعنى، لن ينجح إنسان المستقبل في أن يحكم العالم على الوجه الصحيح إلا إذا استطاع أن يجمع بين الرؤية المادية والرؤية الروحية، بين منطق العقل وحدس القلب، بين دقة العلم ورحابة الإيمان.

