د. ماهر عبد المحسن
وقفت أمام أحد الموظفين في واحدة من المصالح الحكومية العتيقة، كي أقوم باستخراج مستند رسمي هام .. نظر إليّ الموظف بشيء من التحفز، ثم حدثتي بطريقة غير لائقة و نبرة صوت مرتفعة بحجة أن أوراقي التي قدمتها له لاستخراج المستند غير مكتملة .. شعرت بالإهانة، ولم استطع أن أفعل شيئا، فلملمت أوراقي بارتباك و خرجت إلى الشارع، مستقلا أول سيارة في طريقها إلى منزلي . في الطريق راجعت المشهد كعادتي في مثل هذه المواقف، و أعدت قراءة المشهد على النحو الذى يحفظ لي ماء وجهى. وفي هذه الأثناء تذكرت قصة تشيكوف الخالدة “موت موظف” التي تحكي عن موظف صغير مات بسبب تلقيه لإهانة صغيرة من رجل ذي حيثية في عمله. و رغم أن الموظف هنا هو الضحية، والموظف في قصتي هو الجلاد، الا أن المعنى واحد .. فالرجل الذي وجّه الإهانة لموظف تشيكوف لم يكن يعرفه، و لم يكن يمثل له أي شيء، ورغم ذلك مات الموظف حزنا و كمدا من جراء هذه الاهانة. و نفس الشيء حدث معي، فالموظف الذى وجّه لي الإهانة لم يكن يعرفني، لم يكن يعرف أنى موظف مثله وأعمل في مصلحة حكومية تشبه مصلحته بل تفوقها في الأهمية وفي تعقد الاجراءات، لم يكن يعرف أنى استكملت دراساتي العليا و حصلت على الماجستير وفى سبيلي للحصول على الدكتوراة في الفلسفة، لم يكن يعلم أنى أديب وأملك أسلوبا مميزا أهّلني للحصول على العديد من الجوائز، لم يكن يعرف أن لي تلاميذا و جمهورا يعشقني و ينتظر كل يوم سماع كلماتي و قراءة أفكاري، لم يكن يعرف أنى قبل كل هذا زوج و أب لطفلين صغيرين أنا كل حياتهم .. نعم لم يكن بعرف أي شيء من هذا لأنى بالنسبة له مجرد ملف في مصلحته التي يعمل بها، مجرد رقم في الطابور الذى يقف أمام نافذة مكتبه، مجرد مجموعة اوراق غير مكتملة. وبعيدا عن عقد النقص، فهو عندما يعاملني بطريقة لا تعجبني، فهو لا يتعمد إهانتي، لأنى بالنسبة له مجرد كيان مسطح أحادي البعد، تم اختزله فى مجموعة من الاجراءات التي قد تكون صحيحة و قد تكون باطلة، وفى النهاية فإن هذا الموظف لا يعنيه إلا سلامة الاجراءات، بغض النظر عن أي شيء آخر. و الإهانة بهذا المعنى لا تتحقق إلا من قبل الذين يعرفونك جيدا، الذين تمثل لهم شيئا، أو على الأقل يعرفون أن لك حيثية ما و تمثل شيئا للآخرين . الإهانة هي حط من شأن معروف قدره، و لعل هذا هو السبب في أن ألم الإهانة يكون أقسى عندما تأتى الإهانة من المقربين. الإهانة إذن تنطوى على بعد معرفي بجانب بعديها الوجودي والأخلاقى. والحقيقة أن المشكلة تأتى من متلق الاهانة الذي يستحضر كل هذه المعارف و الأبعاد التي تغيب عن الشخص القائم بالسلوك الذى يبدو مهينا، و يضعها في صدارة المشهد جنبا الى جنب السلوك المهين. الإهانة هنا تتحول إلى خبرة داخلية يمارسها الشخص على مستوى التلقي، بعكس الموقف عند الشخص المهين الذي يتعامل في الغالب من زاوية خارجية لا تنفذ إلى أعماق الشخص الآخر، والنتيجة أن أحدهما يشعر بالألم، بينما لا يشعر الآخر بأي ذنب على الاطلاق!

