د. ماهر عبد المحسن


لا أذكر أني عاكست فتاة في حياتي، ولم أتصور يوماً أنني يمكن أن أقوم بهذا الفعل. وأعترف أن الدافع لم يكن أخلاقياً صرفاً، وإنما كان مختلطاً بنوع من الجبن العاطفي، و صورة ذهنية خاطئة عن الطريقة التي تفكر أو تشعر بها الفتيات تجاه الأولاد.
فقد ظللتُ حتى المرحلة الجامعية أنظر للفتيات نظرة ملائكية، غير إنسانية، وأنظر للأولاد نظرة شيطانية، غير إنسانية كذلك. وبهذا المعنى ظلت علاقتي بالفتيات من بعيد، وكل تجاربي العاطفية في مرحلتي الصبا والشباب كانت من طرف واحد، وربما كان ذلك واحداً من الأسباب التي جعلت مني ذلك الشخص المغترب الذي يشبه الأديب أو الفيلسوف!
لهذه الأسباب كنت أنظر لفعل “المعاكسة” باعتباره سلوكاً خارقاً، يتأسس على علاقة خفية بين طرفين متناقضين (الشاب والفتاة)، يفهمان شيئاً لا أفهمه.. وكنت أتوقف كثيراً عند مضمون المعاكسات، وتأثيرها في البنت، ومدي الفائدة التي تعود منها على الولد. فالمعاكسة، إذا أردنا لها تحديداً مفاهيمياً مستمداً من الواقع، هي تعبير مبالغ فيه يلقيه الولد على مسامع البنت، في الأماكن العامة غالباً، بهدف لفت نظرها إليه. وهو مبالغ فيه لأنه ينطوي على معان مجازية بعيدة عن الحقيقة، كأن تصف العبارة الفتاة بالقمر أو بالجمال الفائق (حتى لو لم تكن كذلك على الحقيقة).
والمعاكسات تكثر في مرحلة المراهقة لأنها تُشْعر الشاب برجولته الباكرة وتُشْعر الفتاة بأنوثتها النافرة. وبهذا المعنى، كانت لا تسفر المعاكسة، في أغلب الأحيان، عن أي شيء، وتنتهي المسألة برمتها في الحال بمجرد مرور الفتاة واختفائها بعيداً عن ناظري الفتى. وتكون في الأماكن العامة، في الشارع غالباً، لأن حدوثها في الأماكن الخاصة (أماكن العمل والدراسة والمناسبات الاجتماعية) يجعل منها نوعاً من الإطراء أو المجاملة، لأنه، في هذه الحالة، يتعلق بأطراف تربطهم معرفة سابقة، وتتمتع بأعمار سنيّة أكثر نضجاً.
والمعاكسة تكون غير ذات معنى إذا لم تقع على مسامع الفتاة، فهي تتحقق نتيجة للتفاعل بين حاستي البصر من جهة الفتى والسمع من جهة الفتاة، مع وجود اتفاق ضمني يهدف إلى إشباع غرور الطرفين، وإثبات وجودهما ككائنات حية تستجيب لاندفاعة الحياة.
وكانت تحتفظ المعاكسة ببراءتها في الماضي، في الزمن الأكثر أخلاقية، وتكشف لنا الأعمال الفنية القديمة عن صور المعاكسات، خاصة في الأحياء الشعبية، وكلها تتسم بخفة الظل، فيردد الباز أفندي (توفيق الدقن) عبارته الشهيرة “صلاة النبي أحسن” كلما مرت عزيزة (هند رستم) من أمامه في فيلم “ابن حميدو”، ويردد أحمد بدير عبارة “هن رحمة لنا” كلما مرت واحدة من زبائنه أمام محل الميكانيكا في مسلسل “أرزاق” . ويُلاحظ أن الدقن كان يعاكس فتاة واحدة بغرض استمالتها والتزوج بها، بينما بدير كان يعاكس نساء متعددات، لأنه كان متزوجاً ويرغب في أن يعيش الحالة، وعدم تحديد موضوع المعاكسة ربما يفسر لنا، على سبيل الاستثناء، حدوث المعاكسة حتى في غياب المرأة، في عبارة سي السيد (يحيى شاهين) الشهيرة التي صاغها محفوظ ببراعة “بضاعة أتلفها الهوى”.
وفي الغناء، يغني محمد قنديل “يا حلو صبّح يا حلو طل” لحظة مرور ماجدة الصباحي على رصيف الميناء بالإسكندرية في فيلم “شاطئ الأسرار”، ويغني محمد رشدي “ما تبطل تمشي بحنيّة لا يقوم زلزال”، وترد شادية بجرأة على من يعاكسها في المسلسل الإذاعي “نحن لا نزرع الشوك” قائلة “يا واد اسكت ما تنطقشي.. يا واد وسّع عشان أمشي” بينما كان الشخص المعاكس يردد “يا صباح التفاح.. قشر لي وانا ارتاح”..
ويصف الشاعر حسين السيد، تفاصيل موقف المعاكسة في أغنية” فاتت جنبنا”، الذي يبدأ بغناء عبد الحليم “فاتت جنبنا أنا وهو.. وضحكت لنا أنا وهو”، ويمر بأزمة حليم العاطفية ” والليالي دوبتني وشيبت فكري وظنوني لما طيف الغيرة شفته بيترسم قدام عيوني”، وينتهي بانفراج الأزمة “وبعت كلمتين مش أكتر من سطرين…” ، “وجاني الرد جاني.. ولقيتها بتستناني.. وقالت لي انا من الأول بضحك لك يا اسمراني” وعندها يضج المسرح بتصفيق الجمهور الذي عاش الحالة، وتمني لو اختارت الفتاة حليم وليس صديقه الذي كان يقف معه لحظة مرورها بجانبه. فالعلاقة تبدأ وتنتهي على قارعة الطريق (ميدان المعاكسة)!
ويرد عبد الوهاب، الذي لحن الأغنية، في أحد اللقاءات التليفزيونية، على النقاد الذين تعجبوا من وجود علاقة عاطفية بهذا القدر من التحفظ في زمن تجاوز فيه الشباب مرحلة الرسائل الغرامية بأن سحر العلاقة الرومانسية لا يأتي من مطابقتها للواقع ولكن من جمالها.
وفي ظل تحولات اجتماعية وثقافية كبيرة، تأتي الثمانينيات بألفاظ مبتذلة، خارجة من كباريهات شارع الهرم، لتعكس مستوى متدنياً من العلاقة الغزلية بين الرجل والمرأة، ليغني المطرب الشعبي حمدي بتشان خلف الراقصة سحر حمدي “إيه الأستوك ده اللي ماشي يتوك ده…”
وتعود روح الشباب في الألفية الثالثة مع مستوى عال من الجرأة في المعاكسات وصل إلى درجة الإيماءة الجنسية مع بزوغ نجم المطرب تامر حسني، خاصة عندما غني للممثلة زينة في أحد الأفلام “أجمل حاجة فيكي طي… بة قلبك”.
غير أن التحول الكبير في مستوى التعبير الغزلي، إنما حدث مع ظهور الجيل الثاني (بعد أوكا وأورتيجا) من شباب المهرجانات، الذي أتى من خلفية شعبية، وحصل بعضهم على قدر قليل من التعليم (عمر كمال وحسن شاكوش) بينما لم يحصل البعض الآخر على أي تعليم (حمو بيكا)، فسمعنا “بنت الجيران” و “عود البطل”، والأولى أثارت لغطاً كبيراً وتم على أثرها إيقاف المطربين اللذين قاما بالغناء من قبل نقابة المهن الموسيقية لاحتواء الأغنية على كلمات مسفّة من قبيل “أشرب خمور وحشيش”.
وفي سياق هذه التغييرات المجتمعية والثقافية، تحولت المعاكسات البريئة إلى نوع من التحرش، وسجلت مواقع التواصل الاجتماعي حالات وصلت إلى حد ارتكاب جرائم القتل والاغتصاب.
ولم تعد المعاكسة مرادفة للغزل، ولكن صارت وسيلة لإيذاء الآخرين نفسياً وبدنياً. ولم تقتصر المعاكسات على الأماكن العامة، فامتدت إلى الموبايلات والحسابات الخاصة لأفراد المجتمع الافتراضي (من خلال الواتس والماسنجر والتليجرام…إلخ).
ولم تعد الكلمة الحلوة وسيلة الرجل لدغدغة مشاعر النساء، لكن صارت رسالة خفية، تفك شفرتها من ترغب في إقامة علاقة غير مشروعة!



أضف تعليق