د. ماهر عبد المحسن


الميكروباص ليس مجرد وسيلة مواصلات، إنه أداة منهجية يمكن من خلالها تحليل ظواهر الفكر والسلوك لدى المصريين. فمن الناحية الاقتصادية والاجتماعية، يستخدم الميكروباص أناس ينتمون إلى الطبقة الوسطى من الموظفين والنساء العاملات و طلبة المعاهد والجامعات. إنها الطبقة التي تنأى بنفسها عن معاناة الأوتوبيس، وفي نفس الوقت لا تستطيع أن تركب تاكسيا . و الظاهرة الملفتة في هذا الصنف من الناس أنهم يركبون الميكروباص، و داخلهم شعور بالاختلاف عن الركاب الآخرين، وهو الأمر الذي كشف عن تفاوت طبقي داخل الطبقة الواحدة، فهناك مثلا من يفضّل الجلوس بجوار السائق ويدفع أجرة المقعدين الملاصقين للسائق حتى يحقق لنفسه شعورا بالتميز والاستقلال عن باقي الركاب في الميكروباص، و في الحقيقة هو يريد أن يحقق لنفسه الشعور بأنه راكب تاكسي رغم أنه راكب ميكروباص ودافع أجرة ميكروباص. البعض الآخر يجلس بجانبك وهو يحرص على ألا يلامس شيء من جسمك شيئا من جسمه، إنه يريد أن يجلس بجانبك ويشعر بكامل وجوده دون أن يشعر بوجودك. و على العكس من ذلك تماما، هناك من يستولى بجسده الضخم على المساحة المخصصة لك في المقعد المشترك بينكما بحيث تشعر بنفسك متطفلا عليه في جلسته، إنه يريد أن يشعرك بوجوده رغم أنه لا يشعر بوجودك. هذا ويميل معظم الركاب للجلوس بجانب النافذة كالأطفال، ربما للفرجة على الطريق، وربما للتحكم فى كمية الهواء الداخلة في الميكروباص. و لأن الميكروباصات في الغالب لا يُخصص لها صبى للم الأجرة، خاصة في المسافات الطويلة، فتجد أن معظم الركاب يتهربون من عبء هذه المهمة و يلقون بأجرتهم إلى أول شخص يبدى استعداده للقيام بها، يتم ذلك على استحياء في بعض الأحيان، و يتم بلهجة آمرة فى كثير من الأحيان. و هنا تنشأ مشكلة ميتافيزيقية أمام القائم بلم الأجرة، فإما تأتى كل الوحدات النقدية كبيرة مما يضايق الركاب، و إما تأتي كلها صغيرة مما يضايق السائق، و في كل الأحوال عليه أن يحل هو المعضلة بنفسه، في حين ينصرف الركاب عنه الى أمور أخرى تشغلهم أكثر أهمية من وجهة نظرهم. و من الناحية الثقافية، يختلف ركاب الميكروباص وتتنوع اهتماماتهم، ففى المقدمة يحاول سائق الميكروباص، و هو أمي في الغالب، أن يفرض ذوقه الشعبي على الركاب فيقوم بتشغيل أغان ذات ألحان زاعقة و كلمات ركيكة لمطربين مغمورين، في حين يحاول كل راكب أن يفلت من سيطرة هذا الذوق الفج بطريقته الخاصة، إما بالاستغراق في الاستماع إلى أغان ذات ذوق راق يناسب الراكب عن طريق الهد فون، أو بالاندماج في قراءة القرآن الكريم ومحاولة تدبر معانيه، أو الانخراط في حديث جانبي، أو النوم ، أو التشاغل برؤية الشارع عبر النافذة. و من الناحية الأخلاقية، يمثل السائق، رغم قلة تعليمة وضحالة ثقافته، سلطة على الركاب، فهناك ميل فطرى لإرضائه من قبل معظم الركاب، وهناك في المقابل رغبة من قبل السائق في ممارسة قدر من الهيمنة باعتباره المتحكم فى قيادة الميكروباص. و بهذا الاعتبار يمكن لسائق الميكروباص أن يرتكب ما شاء من المخالفات المرورية في ظل تأييد غريب و مفضوح من قبل الركاب على اختلاف ثقافاتهم، ولا يستطيع أن يضع حدا لهذه الهيمنة سوى رجل السلطة الفعلي المتمثل في رجل المرور حتى لو كان مجرد أمين شرطة. وهكذا يمكن اعتبار الميكروباص صورة مصغرة للمجتمع المصري، يتحرك فيه الركاب و يتصرفون بحرية داخل مساحات ضيقة، في حين يتحكم هو فى حركتهم الأكبر ويحدد لهم مصيرهم النهائي!


أضف تعليق