د. ماهر عبد المحسن
تلعب الأعياد دورا هاما في حياة الأفراد والشعوب، فهى فرصة جيدة للتعبير عن الخصوصية، وهى في ذات الوقت مناسبة للاحتفال والشعور بالبهجة. وبالرغم من وجود أعياد لها صفة العالمية مثل عيد الحب، إلا أن لكل مجتمع، ولكل شعب من الشعوب أسلوبه الخاص فى الاحتفال والتعبير عن الخصوصية. وبهذا المعنى يمكن النظر للأعياد، على اختلافها، باعتبارها مناسبة للتفكير، وللاحتفال بوصفه طريقة فى التفكير. ومن خلال رصدنا لهذه المناسبات الاحتفالية فى مصر، والتى لا تختلف كثيرا عن باقي بلدان الوطن العربي، أمكننا كتابة هذه التأملات.
1- عيد ميلاد جرح وطن
غلبت روح التشاؤم على معظم بوستات العام الجديد، وهى سمة تميز الكثير من الكتابات التى تدور حول أعياد الميلاد، فقديما غنى عبد الحليم “يا مفرقين الشموع قلبي نصيبه فين “، وغنى فريد الأطرش ” عدت يا يوم مولدي .. عدت يا أيها الشقي”، وحديثا غنى هاني شاكر “عيد ميلاد جرحي أنا”، ويرجع السبب في هذه الروح التشاؤمية إلى أن الناس اعتادت أن تنظر إلى العام الفائت أكثر مما تنظر إلى العام القادم. والحقيقة أن العام الذى يمضى لا ينقص من أعمارنا بقدر ما يضيف إليها ما حصلناه من خبرات وما اكتسبناه من زيادة في الوعى وفى أفق التفكير . وليس أدل على ذلك من أننا نحسب أعمارنا بما انقضى منها وليس بما هو آت، فيقول الواحد منا مثلا “أنا عندي أربعين سنة”. وبالرغم من أنه يقصد السنوات التي مرت إلا أنه يعبر عنها بصيغة الملكية “أنا عندي”. أي أن ما فات لم يذهب أدراج الرياح وإنما هو خبرة نستحوذ عليها ونمتلكها بين أيدينا. وربما يرى البعض أن ذلك ينطبق على الأفراد لا الجماعات، على المواطن لا على الوطن، خاصة أن الحال فى البلاد مازالت متردية رغم مرور السنوات، بل إن منحنى التاريخ الوطني يميل إلى الانحدار. والحقيقة أن ما ينطبق على الوعي الفردي ينطبق على الوعي الجمعي، فالسنوات التي تمر من عمر الوطن تضيف إليه ولا تنقص منه، وأن الدماء التي سالت والأرواح التي أزهقت لن تذهب سدى ، ولكن سيأتي اليوم الذى سيقول فيه التاريخ كلمته. أما الذين يختزلون الوطن فى محض مغامرات سياسية غير محسوبة فإنهم أضعف من الوعي وأقل من الحضارة وأصغر من التاريخ. وستثبت الأيام أن البقاء لن يكون أبدا للأقوى أو للأغبى، ولكن للأعقل والأصلح والأجمل .
2- الست دى مش أمي
مع اقتراب عيد الأم بدأت وسائل الإعلام في الإعداد لهذه الاحتفالية وحشد أكبر قدر من الأغاني والاستعراضات واللقاءات المعبرة عن هذه المناسبة الكبيرة. كما بدأت الأسر المصرية في جدولة ميزانيتها على النحو الذي يمكنها من أن تستوعب الأعباء المالية القادمة من أجل شراء الهدايا الفخمة للأمهات اللائي ظللن طوال العام يرددن أنهن في غير حاجة إلى الهدايا، وأنه تكفى وردة واحدة من الأبناء الأبرار للتعبير عن الحب والعرفان بالجميل. وإزاء هذه المناسبة الفريدة في شكلها ومضمونها تتداعى على رأسي العديد من الأفكار والخواطر التي تجعلني أعيد التفكير فى مفهوم الأمومة.
فالأم التي كرمتها الأديان وجعلت الجنة تحت قدميها هى الأم الحقيقية التي أنجبت وربت، والتي أنجبت بالأساس. فالقرآن الكريم أطلق صفة الأمومة على امرأة عمران التي أنجبت موسى (وأوحينا إلى أم موسى)، ولم يطلقها على امرأة فرعون التي اتخذته ولدا. وفى الفن عندما كتب حسين السيد أغنيته الشهيرة “ست الحبايب” إنما كان يقصد الأم الحقيقية التي أنجبت وربت، وهى التي قال عنها “زمان سهرتي وتعبتي وشيلتي من عمري ليالى .. ولسه برضه دوقتي بتحملي الهم بدالي”. وحتى عندما كتب مرسى جميل عزيز أغنيته العاطفية الطريفة “ياما القمر ع الباب” فكان يقصد أيضا الأم الحقيقية، ولا أعتقد أنه كان يقصد زوجة الأب أو الحماة أو مشرفة الدور فى المدرسة.
فالأم هي دائما التي أنجبت وقامت بالتربية والسهر على راحة الأبناء. كان هذا هو المفهوم الواضح، والمتعارف عليه دونما أى جدل أو سفسطة، إلى أن جاء أنور وجدي عام 1953 ليكسر هذه القاعدة في فيلم “دهب”، الذى قام بإخراجه ولعب بطولته أمام الطفلة المعجزة فيروز، ليؤكد على أن الأم هي “اللى بتربي مش اللي بتخلف وترمى عيالها”، وسارت السينما المصرية على هذا النهج، واستخدمت هذه التيمة عشرات المرات بعد أنور وجدي، وكان من أشهرها فيلم “لا تسألني من أنا” الذى قامت ببطولته شادية وهى في سن كبيرة عندما لعبت دور الأم أمام يسرا.
ولأن مفهوم التربية فضفاض، فدخلت فيه الحماة، والأخت الكبيرة التى فاتها قطار الزواج، ومدرسة الفصل، ومشرفة الدور، والدادة، ومديرة المدرسة، والجارة التي ربتت على كتف ابن جارتها وهو يعبر الطريق ذات صباح. والمفارقة المؤلمة في هذا الوضع المقلوب أن الأم الحقيقية هي التي أصبحت تتحمل عبء شراء الهدايا لكل هؤلاء في عيد الأم، بينما ينسى الأبناء أن يقدموا لها أى هدية، حتى ولو الوردة التى كانت تطلبها الأمهات الأخريات بتواضع واستحياء كاذبين.
ليس هذا فحسب، بل إن مفهوم الأمومة قد اتخذ معنى مجازيا يتجاوز المعنى التربوي، ليكون مبررا لحالات العجز والفشل التي تصيب الإنسان والفكر والحضارة. فعندما عجزت الفلسفة عن أن تحقق نفس النجاحات التي حققتها العلوم الأخرى، الطبيعة والاجتماع والنفس، زعم مفكروها أنها أم العلوم، وعندما فشلت مصر المعاصرة فى تحقيق أى إسهام حضاري تبارى به الأمم الأخرى، ويتناسب مع تاريخها، ادعى أهلها أنها أم الدنيا !!
3- عيد الحب
يختلف عيد الحب عن أي عيد آخر لأنه لا يرتبط بالأكل قدر ارتباطه بالهدايا. فهو يشبه في ذلك عيد الأم، إلا أنه يختلف عنه فى أن هداياه تنصب على الدباديب وخاصة الكبيرة منها وذات اللون الأحمر الفاقع بنحو أخص. ومن الملاحظ أن الحب يرتبط بالفن أكثر مما يرتبط بالواقع. فقد غنت أم كلثوم سيرة الحب، وظلمنا الحب، والحب كله، والحب كده، وحب ايه، وغنى عبد الحليم خايف أحب، وبأمر الحب، وضحك ولعب وجد وحب، ومثل عبد الوهاب يحيا الحب، وممنوع الحب، وعرف بهاء سلطان بأغنية يا ترى يا حبيبي، واشتهر عمرو دياب بأغنية حبيبي يا نور العين، وتألق هاني شاكر فى حبيب عينيه، وأبدع كاظم الساهر في بعد الحب، وعلمني حبك، وحبيبتي والمطر. ومن أشهر الأفلام الرومانسية التى كانت تحمل اسم الحب: حبيبي دائما، والحب فوق هضبة الهرم، ولا وقت للحب، ولا يا من كنت حبيبي، وأحبك يا حسن. ومن الأفلام التى كانت تتخذ من الحب موضوعا لها دون ذكر لكلمة الحب فى عناوينها: عمر وسلمى، والشموع السوداء، وذهب مع الريح، وتيتانيك، وقصة حبى مع زميلتي بالكلية التي بدأت بكيس شيبسى وانتهت بأحمد وميرنا!!
تأملات فلسفية في الأعياد المصرية

