د. ماهر عبد المحسن


يعتبر مفهوم ”المثقف” من أكثر المفاهيم إشكالية وتعقيدا، سواء في الثقافة الغربية أو العربية. فكلمة المثقف في حد ذاتها لها دلالات متعددة يستحضرها الذهن بمجرد أن تسمعها الأذن. وتأتي الإشكالية في الغالب من الدور الحقيقي الذى ينبغي أن يلعبه المثقف تجاه قضايا وإشكالات مجتمعه من ناحية، والصورة الذهنية للمثقف التي حُفرت في وجدان العامة بفعل الفن ووسائل الإعلام الجماهيرية من ناحية أخرى. وفى كل الأحوال تظل الصورة الفنية الشعبية هي السائدة، حيث يتبدى المثقف في حلة رسمية، يرتدى نظارة طبية، ويتأبط مجموعة من الكتب ذات العناوين المعقدة، ويدخن بشراهة، وهى الصورة التي تعبّر عن انفصال المثقف عن المجتمع، وعيشه في عالم مواز خاص لا يمت للواقع بصلة.
وفي سياق تحديد من هو المثقف عرفنا العديد من المصطلحات من قبيل ”المثقف العضوي” لجرامشى، و“المثقف الملتزم” لسارتر، و“مثقف السلطة” للجابري. وكلها اصطلاحات تدور في فلك علاقة المثقف بالسلطة وبالمجتمع. وفي ذات السياق، يحاول إدوارد سعيد في ”صور المثقف” أن يقدم صورة تجمع بين الجانبين اللذين يبدوان متعارضين. فالمثقف عنده يتخذ صبغة إنسانية بحيث يقوم بدور فاعل في المجتمع، وفي ذات الوقت يتبنى قيم إنسانية عليا تتجاوز مشكلاته الشخصية وهمومه المجتمعية، فإذا نادى بالحرية فإنما ينادى بها باعتبارها قيمة عليا تهم كل إنسان، وليس مجتمعه الذى ينتمى إليه فحسب.
والحقيقة أن المسألة، فى رأينا، يمكن أن يكون لها وجه آخر إذا بدأنا من الواقع، وحاولنا رصد الشروط الاجتماعية والتاريخية التي تنتج المثقف، والملامح الأساسية التي تميزه. وفى هذا الصدد سنحاول في هذا المقال أن نرصد صورة المثقف التي أفرزتها الظروف الاجتماعية والحراك السياسي فى مصر فى الفترة من 25 يناير 2011 وحتى الآن. وهى صورة ترتبط أكثر بالخطاب الصحفي اليومي والتليفزيوني البصرى الشفاهي. ولأنها مرحلة تاريخية ذات طابع خاص، فقد أفرزت -من خلال البرامج الحوارية في الفضائيات- أنماطا جديدة من المثقفين، ربما لم يعرفها المجتمع من قبل، أو عرفها، لكن ليس بمثل هذا الذيوع والانتشار. فسمعنا عن ”الخبير الاستراتيجي” و“المحلل السياسي” و“الناشط الحقوقي” و ”المتحدث العسكري”. وكلها أنماط ثقافية تعبّر عن الرغبة في الاستجابة الفورية لحاجة الجماهير لفهم ما يدور حولهم، خاصة في ظل الأحداث اليومية الساخنة والمتلاحقة.
إن صورة المثقف قبل ثورة يناير كانت تأملية حالمة، لأن المثقف كان مقصيا بعيدا عن اللحظة الراهنة، المستكينة الهادئة، لذلك كان الاتجاه دائما صوب الماضي أو المستقبل. الماضي متمثلا في الاهتمام الطاغي بإعادة قراءة التراث، نقدا، وتأويلا، والمستقبل متمثلا في تشييد المدن الفاضلة والعوالم المثالية المغايرة.
وفى هذا السياق كثرت المشاريع الفكرية العربية، التي كانت تستغرق حياة المثقف بالكامل، فقد استغرق مشروع المفكر حسن حنفي ”التراث والتجديد” ما يقرب من النصف قرن، لأنه كان يقوم على محاولة إعادة بناء العلوم الإسلامية (أصول الفقه، وأصول الدين، والتصوف، والفلسفة، وعلم الكلام). وهى مسألة كانت تتناسب مع حالة الاستقرار النسبي التي كانت تعيشها البلاد فى تلك الفترة، والتي لم تكن تشهد من الأحداث إلا ما هو فردى ويومي، وكانت برامج ال ”توك شو” كافية لتغطيته والتعاطي معه إعلاميا واجتماعيا.
أما بعد يناير، فقد دعت الحاجة إلى أن يتراجع المثقف التقليدي ليتسيد المشهد هؤلاء الذين يملكون الأدوات الفنية لفهم أبجديات اللحظة الراهنة بكل تعقيداتها. لكن المسألة لم تكن بهذه السهولة فى ظل إعلام مؤدلج ولحظة مخاض عسير. فإلى أين وصلت بنا الأمور؟ ما هي التطورات التي لحقت بالصورة التقليدية للمثقف؟ وما هي السمات المميزة للمثقف التليفزيونى؟ وكيف يمكن للمثقف التقليدي أن يستجيب للتغيرات المتسارعة في مجتمعه؟
لمعرفة الإجابة على هذه التساؤلات، فإننا ينبغي أن نتوقف عند بعض المداخلات التليفزيونية التي حدثت في الأيام الأولى للثورة من قبل بعض الفنانين المثقفين، بحكم مشاركتهم في إنتاج الثقافة. وفى هذا السياق يمكننا أن نستحضر لحظة ظهور المخرج خالد يوسف، وهو يقف أمام كاميرات التليفزيون في ميدان التحرير على خلفية مبنى المتحف المصري، وهو يصيح مشيرا إلى المتحف، محذرا من خطورة تعرضه للتخريب أو للسرقة من قبل البلطجية. والمشهد على هذا النحو، له دلالتان: واحدة سياسية والأخرى ثقافية. وتعنى الأولى أن خالد يوسف كان يدرك طبيعة اللحظة الملتبسة التي يعيشها، وأن أي تصرف من الممكن أن يحسب عليه فيما بعد، فقرر أن ينتزع نفسه من الحاضر الضبابي ويعتصم بالتاريخ وبالحضارة وبالمعاني الكبرى الأكثر تجريدية، التي تتجاوز الواقع بكل خشونته وسخونته. وتعنى الدلالة الأخرى، وهى الأهم في نظرنا، أن يوسف ينتمى إلى لون من الثقافة البورجوازية التي تعلى من شأن المعاني الثقافية على حساب المعانى الإنسانية الواقعية. فمصر التاريخ أهم من مصر الثورة، والتمثال الحجري أو الفرعون المحنط أولى بالحماية من شباب مصر الثائرين، الذين كانوا يتساقطون جرحى وقتلى فى الميدان.
هذا النمط الخاص من المثقفين هو الذى تسيد المشهد في السنوات التالية، فشاهدنا من المثقفين من تباكى على نظافة تمثال النهضة ولم يذرف دمعة واحدة على دماء المصريين المعتصمين التي سالت فوق التمثال. ومنهم من تغاضى عن حقوق الإنسان العربي المهدورة في كل بقاع الأرض، ووقف يطالب بحقوق الحيوان فى واقعة تعذيب كلب بحي شبرا.
نموذج آخر من مثقفي التليفزيون لعب دورا كبيرا في التأثير في العامة وتوجيه النخبة المثقفة في تلك الفترة، هو باسم يوسف مقدم برنامج ”البرنامج”، الذى نجح فى هز صورة رئيس الجمهورية فى فترة حكم الإخوان، عندما قدم صورة كاريكاتيرية للرئيس محمد مرسى. ولأن الرئيس، وقتها، كان رمزا سياسيا ودينيا، فقد أدت هذه الصورة إلى خلق نوع من الجرأة في نفوس المثقفين تجاه ما هو سيأسى وما هو ديني.
ونظرا لأن العقاب الدنيوي عاجل، والعقاب الأخروى آجل، فقد ماتت الجرأة على السياسي بينما تعاظمت الجرأة على الديني في مرحلة تالية، وأصبح الدين مطية للجميع، يتناولونه بالنقد والجريح، بمناسبة ودون مناسبة، لتحقيق مآرب خاصة. ونشأ نوع من الحساسية الدينية لدى المثقفين، وانتشرت الدعوات الرامية إلى تجديد الخطاب الديني دون السياسي والاجتماعي والفني والإعلامي. وتم إعادة إنتاج أسطورة بندورا، ليصير الدين هو مستودع كل الشرور.
وفى هذا السياق، ظهر نمط آخر من المثقفين، الذين يتخذون من التليفزيون والصحافة وسيلة للتعبير عن أفكارهم ولا يحملون هموما حقيقية أو يهدفون إلى معالجة قضايا جادة. هؤلاء يمكن أن نطلق عليهم ”المثقفون القشريون” أو ”المتقمصون”، لأنهم ليسوا مثقفين حقيقيين، وإنما يعيشون فى دور المثقفين، بحيث يظلون طوال الوقت يتصرفون على غرار النموذج السينمائي التقليدي للمثقف، الذى يهتم بالمظهر الثقافي الكاذب دون المضمون. وهذا النمط هو الذى يطل علينا بين الحين والآخر ليثير قضية دينية مفتعلة، دون محاولة الاقتراب من مشكلات المجتمع الحقيقية. فنجد من يخرج علينا فى عيد الأضحى المبارك من كل عام، ليحدثنا عن بشاعة الذبح، أو يطلع علينا فى شهر رمضان الكريم من يعبّر عن انزعاجه من مكبرات الصوت فى صلوات التهجد والفجر.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إن هناك ”موضة” منتشرة هذه الأيام للتهجم على بعض الرموز الدينية ذات المكانة الخاصة فى نفوس العامة، وعلى رأسها الشيخ الشعراوي، كما أن هناك محاولات مستميتة لإقصاء البخاري من الثقافة العربية، وبتره من الوعى الجمعي. وقد تم إعداد برامج تليفزيونية مخصصة لمثل هذه الأغراض، يقدمها مثقفون تليفزيونيون محترفون، يملكون القدرة على الإقناع مع قدر من المعارف الدينية المغلوطة، مثل إسلام البحيري وإبراهيم عيسى.
وللخروج من هذه الوضعية الثقافية الحرجة، فإننا نرى ضرورة خروج المثقف التقليدي، مثقف المشاريع، من شرنقته ونزوله إلى أرض الواقع، مع التسلح بأدوات عصرية تتناسب مع مستجدات الحياة بحيث يمكنه التعاطي مع مفردات اليومي وقضايا الآني. فينبغي عليه أن يدرب نفسه على الكتابة المكثفة القصيرة، ذات اللغة البسيطة الواضحة، وأن يشارك في الصحف والمجلات، وفى الإذاعة وفى التليفزيون، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي.
مع ضرورة أن نعيد الاعتبار لمبدأ السببية ، الذى تم إهداره من قبل جيل المشاريع. فالمبالغة فى العودة للماضي والنبش فى التراث من أجل إيجاد تفسير للأحداث الحالية، من شأنه الافتئات على الأسباب النفسية والاجتماعية والسياسية المباشرة التي ينبغي أن يكون لها النصيب الأكبر في التحليل. فمن غير المعقول أن نفسر واقعة قتل تحدث الأن، في القرن الحادي والعشرين، بالرجوع إلى ابن تيمية الذى كان يعيش في القرن الثالث عشر.
بطبيعة الحال، لا يمكن إنكار أهمية الأسباب التاريخية والإيديولوجية القديمة، التي تقف وراء تصرفات اليوم، غير أن الاستغراق فى دراسة الماضي يناسب فترات الاستقرار أكثر من فترات الاضطراب ذات الحراك السياسي والاجتماعي الكبير.



أضف تعليق