د. ماهر عبد المحسن
يتمتع الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي (1913- 2012) بشعبية كبيرة في الثقافة العربية، لأنه أشهر إسلامه من ناحية، ولأنه وقف مع القضية الفلسطينية وفضح الأساطير الصهيونية بجرأة منقطعة النظير من ناحية أخرى. وحتى نفهم هذه الشخصية المثيرة للجدل، ينبغي أن نقترب منها بنحو أكثر، ونرصد التحولات الفكرية التي مرت بها فى حياتها المديدة، المليئة بالانعطافات الحادة العميقة.
تعتبر مرحلة الميلاد والنشأة من المراحل ذات الأهمية الخاصة، لأنها تكشف لنا عن طريقة جارودي في التفكير فى مرحلة مبكرة من حياته. فقد ولد جارودي لأب وأم لا يدينان بدين، وفى رواية أخرى أن الأم كانت تدين بالمسيحية الكاثوليكية. وفي كل الأحوال، عندما وصل إلى سن الرابعة عشرة اعتنق المسيحية البروتستانتية رغبة منه في أن يجعل لحياته معنى.
وعندما وقعت الأزمة الاقتصادية العالمية في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، لم يعثر على إجابة على إشكاليات اللحظة المأزومة، في المسيحية، فاتجه إلى الماركسية عام 1933 ليصبح عضوا فى الحزب الشيوعي الفرنسي. ويواصل جارودي نشاطه الشيوعي بدأب، ويقدم أطروحتين فلسفيتين حول الفكر الماركسي: الأولى بعنوان ”النظرية المادية في المعرفة” ونال بها درجة الدكتوراه من فرنسا، والأخرى بعنوان ”الحرية” ونال بها الدكتوراه من موسكو. وأنشأ ”مركز الدراسات والأبحاث الماركسية” الذى أشرف من خلاله على ترجمة أعمال لينين.
المفارقة التي حدثت بين النظرية الماركسية من ناحية، وتطبيقاتها من ناحية أخرى، جعلت جارودي يعيد تقييم التجربة الماركسية برمتها، بل ويتوجه بالنقد لممارساتها المتعارضة مع الديموقراطية التي بشرت بها، عند الرواد الأوائل (لينين وإنجلز)، خاصة عندما دخلت الدبابات السوفيتية تشيكوسلوفاكيا عام 1968. وبدأت في حياة جارودي مرحلة جديدة، قام فيها بمراجعة الماركسية التقليدية، قدم فيها عددا من الكتب الهامة مثل ”اشتراكية القرن العشرين” و“منعطف الاشتراكية الكبير” و“واقعية بلا ضفاف” الذى أعاد فيه بناء مفهوم ”الواقعية الاشتراكية” فى الفن ليكون الواقع هو ما يخلقه الفنان عن طريق موهبته الإبداعية، وليس ذلك الواقع الموجود بشكل سابق على عملية الإبداع. وبهذا المعنى صار الإبداع بمثابة الخلق الجديد لا مجرد المحاكاة لواقع قديم. وهنا التقى جارودي مع رواد الرواية الجديدة (آلان روب جرييه، نتالى ساروت) الذين قالوا بنفس المعنى، لكن في ميدان الأدب. كذلك قدم جارودي كتابا هاما بعنوان ”حوارات حول الإنسان” حاول فيه أن يطرح مفهوما جديدا للإنسان، لا يقتصر على المفهوم الماركسي التقليدي، وإنما يستفيد فيه من النظريات والمذاهب الفلسفية الأخرى مثل البنيوية والوجودية والكاثوليكية والشخصانية، وغيرها، رغبة منه في إضفاء المرونة على المذهب الماركسي، والاستفادة من النظريات الأخرى التي تحمل تصورات مختلفة للإنسان يمكن أن تتكامل وتتعاضد فيما بينها.
تم فُصل جارودي من الحزب الشيوعي عام 1970، نتيجة الانتقادات التي وجهها للممارسات اللاإنسانية التي تمت تحت شعار الشيوعية، وكان قد نشر في عام 1968 كتاب ”في سبيل نموذج وطني للاشتراكية” الذى انتقل به لمرحلة جديدة يمكن أن نطلق عليها “مرحلة اشتراكية التسيير الذاتي”، وهى المرحلة التي تخلص فيها من مفهوم ”البروليتاريا” التقليدي الذى يشير إلى أصحاب الياقات الزرقاء من العمال، ليطور مفهوما جديدا أطلق عليه ”الكتلة التاريخية الجديدة”، وفيها أدخل الأدباء والمفكرين والفنانين (المثقفون عموما) في طائفة البروليتاريا، لأنهم يقدمون منتجات إبداعية تخضع لعمليات السوق من بيع وشراء، وعول عليهم فى قيام الثورة التي وضعتها الماركسية التقليدية على كاهل الطبقة العاملة، الكادحة وحدها. كما أعاد تحديد مفهوم الشباب، ليصبح شاملا لكل الأعمار وليس صغار السن فقط. فالشباب، وفقا لجارودي، هو شباب القلب والعقل والروح، وهو الأمل فى الحياة والرغبة في التقدم وتحقيق سعادة الإنسان.
إيمان جارودي باختلاف الثقافات وغياب الحقيقة المطلقة، إضافة إلى رغبته في أن يصل إلى حلول تكاملية، جعله يفكر فى مشروع ”حوار الحضارات”، وهو المشروع الذى عبر عنه في كتاب يحمل نفس الاسم، وكذا تأسيسه لمعهد ”حوار الحضارات” بالتعاون مع منظمة اليونسكو. وتعد هذه المرحلة فى رحلة جارودي الفكرية الخصبة بمثابة النقد، والرد على مثالب الحضارة الغربية الرأسمالية، التي قامت على فكرة الربح، وجعلت قانون السوق هو المتحكم في مصير البشر، مما أدى إلى الاهتمام بتطوير علوم الوسائل على حساب علوم الغايات. فأصبح العمل من أجل الربح في حد ذاته، والعلم بهدف التقدم إلى ما لانهاية، ودون أهداف أخرى قيمية من حق أو خير أو جمال.
الحضارة الغربية عند جارودي ليست هي الجنة الموعودة كما يروج الغرب، لكنها، على العكس، هى الجحيم المستعر الذى ينتظر البشرية كي تضيع في أتون الدمار الشامل. الغرب عند جارودي هو الاستعمار والاستشراق والاستعباد للآخر واستنزاف موارده لآخر قطرة. الغرب هو السباق النووي المحموم، هو قنبلتا هيروشيما ونجازاكي، هم ”حفارو القبور” الذين ينبشون الأرض بأظافرهم تمهيدا لدفن البشرية جمعاء في غيابات الموت الذى لا يعود أبدا.
فكيف السبيل إلى الخروج؟.. لم ييأس جارودي، ولم يتوقف عن البحث، بعد المسيحية والماركسية واشتراكية التسيير الذاتي وحوار الحضارات، عثر أخيرا على ضالته في الإسلام. ولأنه آمن بعد رحلة طويلة من البحث والجهد، فقد أمسك بالحل بكلتا يديه بكل ما أوتى من قوة، حتى لا يفلت منه ويضيع في الفضاء اللانهائي البعيد، كما سبق وأن ضاعت أشياء كثيرة من البشرية الأنانية إلى غير رجعة.
فكيف وجد جارودي الحل فى الإسلام؟ في الحقيقة أن جارودي لم يقدم جديدا عندما رفع شعار ”الإسلام هو الحل”. فالشعار كان يملأ بيوتنا وجدران شوارعنا، وكنا نجده على أغلفة الكتب وفوق زجاج الحافلات، تردده الجماعات الإسلامية، ويسر له الرجل العادي، الذى ينحاز بالفطرة وبالوراثة لكل ما هو ديني. فما الجديد الذى قدمه جارودي؟
الجديد في الحقيقة هو التناول، وطريقة الطرح. فجارودي فيلسوف غربي، كان يبحث عن حل لمشكلات الإنسانية التي كان يرى أن الغرب هو المتسبب فيها، فكان عليه أن يخاطبهم بلغتهم، ويضع الإسلام كدين وأيديولوجية في مواجهة نظرياتهم الوضعية القاصرة الفاسدة.
في هذه المرحلة، أعلن جارودي إسلامه عام 1982 في المركز الإسلامي بجينيف، وكتب عدة مؤلفات عن الإسلام، من أبرزها ”وعود الإسلام”، الذى كتبه عام 1981، وبه تهيأ للدخول فى الإسلام، وهو الكتاب الذى يطرح فيه قراءته للإسلام وللحضارة الإسلامية، ويعد بمثابة البيان النظري لشعار ”الإسلام هو الحل”. فكيف تحقق له ذلك؟
ينطلق جارودي من مبدأ عام يرى في الإسلام دين ودنيا، ويرفض النظرة المتحفية للإسلام، التي جعلته ينكفئ على نفسه منعزلا عن العالم، معتصما بالماضي الحضاري التليد. فالإسلام، كما يفهمه جارودي، طاقه حيوية ديناميكية كبرى، فهو من المرونة بحيث يستطيع مخاطبة كل الشعوب، والتعاطي مع كل الثقافات بحسب ظروف كل واحدة.
وبهذا المعنى، يقدم جارودي الإسلام على أنه: عقيدة وسياسة، علوم وحكمة، فن وعبادة (مسجد). فالله سبحانه هو الذى يملك، وهو الذى يشرع، وهو الذى يحكم. وعليه تتأسس عناصر الدولة الحديثة: الاقتصاد، القانون، السياسة، وتندرج جميعها تحت مبدأ أعلى يردده المسلمون في كل صلاة، وهو ”الله أكبر”. أكبر من أي ثروة، ومن أي قانون، ومن أي سلطة. فالإسلام بهذا المعنى، ليس مجرد دين ينظم علاقة الإنسان بربه، وإنما هو رؤية كلية للعالم تملك القدرة على التعاطي مع مستجدات العصر، وتقديم الحلول لمشاكل الإنسان المستعصية، خاصة بعد أن وصلت البشرية إلى طريق مسدود رغم مظاهر التقدم الكبيرة التي يستشعرها إنسان هذا العصر. وفى هذا السياق، يحرص جارودي على أن يوضح ألا تعارض بين الوحى والعلم أو الحكمة، لأنه يعينهما على الوعى بحدودهما وبمسلماتهما. وهى مسألة غاية في الأهمية كي يعرف الإنسان مكانه من الكون، ويدرك العلم من أين يبدأ، وتدرك الحكمة إلى أين تنتهى.

