د. ماهر عبد المحسن

تشغلني ظاهرة التأييد أكثر من ظاهرة الرفض، بالرغم من أن معظم الدراسات تنصبُّ على جانب الرفض، لأنه يرتبط بالتفكير النقدي من ناحية، وبالسلوك المتمرد من ناحية أخرى.

فقد كتبتُ “لماذا أنا زملكاوي” و “الفلسفة من رحم الهزيمة” و “فلسفة التشجيع” في محاولة للبحث عن الأسباب التي تدفع الإنسان لتأييد مواقف أو أشخاص أو أفكار مخيبة للآمال، وهي كلها أمور تفتقر إلى أساس متين من حيث التماسك المنطقي أو الواقع الذي يدعم مصداقيتها، ومن هنا تأتي أهمية البحث في ذهنية التأييد.

والتأييد ظاهرة إنسانية، مثل الرفض، وليس هناك مشكلة في أن يكون الإنسان مؤيداً، إذا كان تأييده نابعاً من قناعة حقيقية متأسسة على الاستنباط العقلي أو الواقع بنحو ما يدركه الحس المشترك.

لكن يحدث في أحيان كثيرة أن يتجه الإنسان نحو التأييد المجاني، الذي لا يمكن رده إلى أساس موثوق في مصداقيته، خاصة إذا كان الشخص الذي يحظى بالتأييد يسلك بنحو متناقض، كأن يقول أشياءً ويصنع أشياءً أخرى، أو كانت الوقائع تأتي ضد مصلحة المؤيد.

وإذا بحثنا في أسباب التأييد المجاني، الذي يصفه البعض بالتأييد الأعمى، لوجدناها كثيرة، لعل أبرزها ما كتبه جوستاف لوبون في “سيكولوجية الجماهير”. فوجود الإنسان ضمن حشد من الناس يجعله يتصرف بنحو ما يتصرفون دون تفكير. تحدث هذه الصورة من التأييد في مجالات الفن والرياضة والاقتصاد والسياسة. فكثيراً ما تضحك الجماهير في المسرح على أشياء قد لا تثير الضحك في سياق الحياة العادية، بفعل ما يُعرف بعدوي المسرح، ويمكن أن يُقال الشيء نفسه بالنسبة للجماهير الرياضية حين يصدر عنها الهتاف الهيستيري حتى لو كان الفريق الذي يشجعونه مهزوماً أو يؤدي أداءً سيئاً. وربما كان مجال الاقتصاد هو الأكثر غرابة حيث يقدم الناس على شراء أشياء لا يحتاجونها لمجرد أن هناك زحام في أماكن البيع. ولا يخفى دور الدعاية والإعلان الذي يطلق الشرارة الأولى للحشد.

فالدعاية السياسية هي التي تدفع الجماهير لتأييد مرشح دون آخر في صناديق الانتخابات، والإعلانات التجارية هي التي تجعل السلعة، حتى لو كانت رديئة، تتمتع بقبول عام لدي المستهلكين. وربما تكون للمصلحة دور مهم في التأييد، غير أن الكاريزما الشخصية يمكن أن يكون لها الغلبة حتى لو جاءت الأحداث ضد مصلحة المؤيدين أو ضد الأخلاق العامة، ولعل المثال الأبرز في هذا السياق هو خروج الجماهير لتأييد الرئيس عبد الناصر بالرغم من هزيمة ٦٧. وكذا قيام الشباب بوقفة احتجاجية عندما قبضت السلطة على المطرب تامر حسني الهارب من التجنيد.

ولا تسلم الحياة الاجتماعية من آفة التأييد، فتلعب صلة القرابة دوراً مؤثراً في الانحياز إلى أشخاص يفتقرون إلى السمات التي يمكن أن تميزهم بين أقرانهم، غير أن الآباء يرون ما لا يراه الآخرون، فيقول المثل الشعبي “القرد في عين أمه غزال” و “مين يشهد للعروسة؟!”

والحقيقة أن آفة التأييد الأعمى، لا تكمن في التأييد في حد ذاته، ولكن في استمرار التأييد، بالرغم من تغير الظروف. وهنا يثور التساؤل، إذا كنت قد تورطت في شراء سلعة من محل تتعامل معه لأول مرة، فلماذا تعود للتعامل معه مرات أخرى إذا اكتشفت في المرة الأولى أن السلعة فاسدة؟!

إن الإجابة على هذا التساؤل تنطوي على إشكالية أكبر، وهي أن التأييد الأعمى، الذي لا ينبني على أساس متين يجد من المنظّرين من يدعمه بالنظريات الفلسفية إذا كان الموضوع سياسياً والآراء الفقهية إذا كان الموضوع دينياً.

والحقيقة البسيطة، التي ربما تعلو على النظريات الكبرى، هي ما يُعرف في أدبيات التنمية البشرية ب “منطقة الراحة”. فالناس يميلون بالطبع نحو الدعة والاسترخاء، مهما بدت مظاهر الحياة شاقة وصعبة، لأن التأييد يعني بقاء الأمور على ما هي عليه، أما الرفض فمن شأنه أن يدعو إلى التغيير، وهي مسألة، حتماً، ستنقل المؤيد من حالة الراحة إلى حالة النضال. والمؤيد في الغالب يميل إلى نضال العيش أكثر من نضال المصير، فالأول يمكن أن يمارسه دون أن يفقد حياته دفعة واحدة، بينما الأخير ينطوي على خيار مصيري يستدعي المغامرة!


أضف تعليق