د. ماهر عبد المحسن

لم ولن تهتز قناعتي يوماً بأن الفلسفة صنو الحياة، وأن الواقع اليومي مهما بدا بعيداً ومبتذلاً، ولا يرقى إلى مصاف التأمل التجريدي، سيظل مصدراً هاماً للحكمة بكامل تجلياتها فى ميادين الحق والخير والجمال.
ومن هذا المنطلق أدعو دائماً للتحلي بالحكمة والعمل على اكتساب مهارات العيش وفقاً لما تمليه متطلبات العقل والمنطق وحدس الشعور المنتج للمعرفة.
ولأنى مؤمن بأن الواقع، مثل الخيال، يمكن قراءته وتأويله واستخلاص الدلالة منه، فإنني سأحاول تقديم قراءة فلسفية لوقائع هطول الأمطار التي حدثت في محافظات مصر الشتاء الماضي، وبلغت فى حدتها، و حجم خسائرها ما جعل الحكومة تصدر قراراً بتعطيل الدراسة فى المدارس والجامعات في صبيحة اليوم التالي لهطول الأمطار. وذلك من واقع ما أذاعته القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي.
من المشاهد اللافتة، في هذا السياق، مشهد اللودر الذى كان ينقل المارة من الأماكن الغارقة في المياه إلى الأماكن الجافة. المشهد كان يعكس قدرة الدولة على التدخل لإنقاذ المواطنين من الغرق، فاللودر يرمز إلى السلطة الفائقة التي تعلو على الأزمة وعلى المواطن المأزوم، بما تملكه من يد حديدية وذراع طولى تمتد لتصل إلى كل مكان.
مشهد آخر يدور أمام أحد البنوك، ويصور أحد العمال، وهو يغوص في المياه بقدميه، ويدفع كرسياً مزوداً بعجلات، لينقل مديرة البنك من أمام البوابة الخارجية حتى باب سيارتها. وبالرغم من أن المشهد ينطوي في الظاهر على موقف شهم من العامل، إلا إنه يعكس في ذات الوقت علاقة طبقية، بل عنصرية، بين نوعين من البشر أحدهما خُلق ليكون خادماً طوال الوقت، والآخر خُلق ليكون مخدوماً طوال الوقت. وليس أدل على ذلك من استخدام الكرسي فى نقل المديرة، وهو رمز للسلطة، وعلامة مميزة للفوارق الطبقية والاجتماعية داخل البنك، وداخل الدولة ككل، وهى الفوارق التي عجزت الأمطار عن إذابتها، ولتظل العلاقة ثابتة، كما هي، داخل البنك أو خارجه، تحت حر الشمس أو تحت زخات المطر.
مشهدان آخران لا يخلوان من دلالة، أحدهما لرجل يجلس فوق مياه المطر ممسكاً بسنارة لاصطياد السمك، والآخر لمجموعة من المواطنين يستقلون مركباً يعبرون به الطريق داخل مياه الأمطار، ويعلق المصريون على المشهد بكونه هجرة غير شرعية من عين شمس إلى شبرا. والمشهدان يعكسان روح الدعابة التى يتمتع بها المصريون، وتعتبر سلاحهم الفعال فى مواجهة الأزمات. والحقيقة أن روح الدعابة لدى المصريين، إنما تعنى أن المصريين لا يجيدون صنع الحلول الجذرية لمشكلاتهم، ولا يجيدون فن إدارة الأزمات، بقدر ما يملكون القدرة على التعايش مع المشكلة، والتكيف مع تداعيات الأزمة.
فنظرة بسيطة على أفلام الأبيض والأسود القديمة يمكن أن تكشف لنا كيف أن مشكلات الماضي البعيد مازالت كما هي، لم تُحل حتى الآن!!
هذا عن السلوك العملي الذى أبداه المواطنون المصريون تجاه الأزمة، فماذا عن تفسير الأزمة وطريقة التفكير فيها؟
كشفت وقائع هطول الأمطار بهذا الشكل الكارثي عن وجود فجوة كبيرة بين النظر وبين العمل، فالمصريون تعاملوا مع الأزمة، على مستوى السلوك، بنحو واقعى ابتكاري، وعلى مستوى النظر، بنحو خرافي يجنح فيه الخيال بعيداً. يتضح ذلك فى اللغط الذى دار على مواقع التواصل الاجتماعي حول أسباب سقوط الأمطار على محافظات مصر بهذه الغزارة. فقد شاع بين الناس أن هذه الأمطار ماهي إلا أحد تجليات الحرب الخفية التي تشنها إسرائيل على مصر من أجل التحكم فى الطقس وفى عقول المصريين من خلال ما يعرف ب”الكميتريل”. ويعنى هذا الأخير التأثير الكيميائي في الطقس.
وبالرجوع إلى أصل المصطلح تبين لنا أن ”الكيمتريل” هو واحد من الظواهر الغامضة، والتي هى محل خلاف على المستوى الدولي، خاصة فى أمريكا. فمنذ سنوات بعيدة، و الأمريكان يشاهدون هذه الظاهرة، المتمثلة فى سحب دخانية تخترق السماء وتظل لفترات طويلة قبل أن تختفى، وينظرون إليها بعين الريبة على اعتبار أنها واحدة من أساليب الهيمنة الذى تمارسها الدولة على مواطنيها بهدف إخضاعهم لإرادتها. فهذه الأدخنة، وفقاً لهذا الرأي، تسبب العقم وتتلاعب بالعقول وتسهم في إحداث اضطرابات بالطقس.
والحقيقة أن المسألة تختلف فى أمريكا والدول الأوربية عنها في مصر. فقد انتقل الجدل من الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي إلى المعاهد العلمية، ومراكز البحوث الأكاديمية من أجل الوصول إلى حقيقة هذه الظاهرة. وبعد أبحاث عديدة لم يثبت، حتى الآن، صحة ما أثير حول هذه الظاهرة، فذهب البعض إلى أنها لا تعدو أن تكون مجرد دخان تخلفه الطائرات وراءها، وذهب البعض الآخر إلى أنها تختلف عن دخان الطائرات وتحتوى على بعض العناصر الكيمائية، التي قد يكون لها بعض الأضرار بالإنسان أو بالطبيعة، لكنها لا تصل إلى درجة التأثير فى المناخ، أو في عقول البشر.
والذى يعنينا فى هذه المسألة، هي أن المصريين، مثل الكثيرين من العرب، مازالوا يتبنون ”نظرية المؤامرة” فى تفسيرهم للظواهر المحيطة بهم، حتى لو كانت ظواهر طبيعية. ونظرية المؤامرة، للمفارقة، تنطوي على خاصيتين متعارضتين. فهى تشبه الفلسفة من جهة كونها تقدم رؤية كلية للعالم، وتشبه الخرافة فى كونها لا تتأسس على العلم أو المنطق، ولكن على الشائعات.
وهنا ينبغي أن يُلاحظ أن المصريين، فيما يبدو، يجيدون التعامل مع الظواهر بشكل جزئي مباشر، دون القدرة على تقديم رؤية كلية، علمية أو فلسفية لتفسير هذه الظواهر. ولعل فى ذلك ما يفسر شيوع النكتة والأغنية والمثل الشعبي، وغياب النظرية العلمية والرؤية الفلسفية فى الثقافة العامة.
إننا في حاجة إلى تعميق السطحي والتسامي بالجزئي، و الإمساك بالعابر الزائل، وقدر كبير من المران، حتى يمكننا فهم أبجديات الواقع وقراءته بنحو ما نقرأ نص وجودي عظيم.


أضف تعليق