د. ماهر عبد المحسن
علاقة الفلسفة بالأدب وثيقة جدا ولا يحتاج المراقب إلى كثير عناء للتثبت من هذه الحقيقة التي تصل في موثوقيتها إلى درجة البداهة. فتاريخ الفلسفة وتاريخ الأدب كلاهما يؤكدان وجود تلك الصلة بينهما إضافة إلى الممارسة الفعلية من قبل الفلاسفة والأدباء التي يتداخل فيها، في كثير من الأحيان، الفلسفي بالأدبي.
فقد صاغ أفلاطون فلسفته في شكل أدبي (المحاورات) بالرغم من أنه، وللمفارقة، من أوائل الفلاسفة الذين عملوا على الفصل بين الفلسفة والأدب، ليس هذا فحسب، لكنه طرد الشعراء من مدينته الفاضلة باعتبارهم في مرتبة أقل من الفلاسفة، ولا يملكون القدرة نفسها على بلوغ الحقيقة. فالشعر عند أفلاطون يقف على مسافتين من العالم الحقيقي (عالم المثل) و يمثل خطابه صورة الصورة (الواقع) أو نسخة ثانية لنسخة أولى.
والحقيقة أن فكرة عالم المثل نفسها تقوم على الخيال لا المنطق، والأدب ، بهذا المعنى هو الأكثر قدرة علي بلوغها من الفلسفة، وأي يوتوبيا يبحث عنها الإنسان تنتمي إلى الخيال وتجد تحققها في الأدب، حتى الخيال العلمي يتم التعبير عنه، في الغالب، عن طريق الأدب والفن لا عن طريق الفلسفة أو العلم، فقبل العلماء اخترع دافنشي (الرسام) الطائرة واخترع جول فيرن ( الروائي) الغواصة، ولقّب الأخير بمخترع القرن العشرين لكثرة تنبؤاته العلمية التي تحققت فيما بعد. وميلتون (الشاعر) هو الذي كتب “الفردوس المفقود” ودانتي (الشاعر) هو الذي كتب “الكوميديا الإلهية” وألدوس هكسلي ( الروائي) هو الذي كتب “عالم رائع جديد”.
وهناك فلاسفة كتبوا أدبا مثل سارتر وسيمون دي بوفوار، وأدباء ضمنوا أعمالهم أفكارا فلسفية مثل ألبير كامو وميلان كونديرا وباولو كويلو. كما أن هناك فلاسفة عبّروا عن فلسفاتهم بأسلوب أدبي مثل كيركجارد ونيتشه وزكي نجيب محمود. وفي الثقافة العربية كتب توفيق الحكيم المسرح الذهني ومسرح اللامعقول وشغل بقضايا العدل والحرية والزمن كما في “إيزيس” و”نهر الجنون” و”أهل الكهف”، كما كتب نجيب محفوظ روايات عديدة ذات طابع فلسفي واضح مثل ” الطريق” و”الشحاذ” و”قلب الليل”، وربما كانت هذه الأعمال ناتجه عن دراسته الأكاديمية للفلسفة والحيرة التي انتابته، بعد نهاية الدراسة، بين المضي في طريق الفلسفة أو طريق الأدب، وحسمه للموقف باختيار الأدب ، الروائي بخاصة، للتعبير عن أفكاره الفلسفية والاجتماعية والسياسية.
ويمكننا أن نضيف، من وجهة نظرنا وخلافا لما هو شائع، كثيرا من أعمال إحسان عبد القدوس التي تتناول قضايا ذات طابع فلسفي حتي العاطفية والاجتماعية منها، وتختلف روايات عبد القدوس عن أعمال الحكيم ومحفوظ في أنها لا تطرح أسئلة فلسفية علي الأصالة، لكنها تحيل الوقائع الرومانسية والاجتماعية والسياسية إلي أسئلة فلسفية. وغالبا ما يكون التساؤل داخل الكاتب بينما تأتي الرواية بمثابة الإجابة عنه، فرواية “الوسادة الخالية” تحاول أن تجيب عن سؤال الحب الأول، هل هو حقيقة أم وهم؟ ورواية ” الطريق المسدود” تحاول أن تجيب عن حقيقة الشر في الإنسان، هل يولد الإنسان شرير أم أن المجتمع هو الذي يجعله كذلك؟ كما تجيب رواية “في بيتنا رجل” عن معنى الوطنية، وكيف أن الإنسان العادي الذي لا تشغله قضايا السياسة يمكنه أن يلعب دورا وطنيا مهما إذا دعته الضرورة إلى ذلك. وهناك من الأدباء من تخصص في كتابة أعمال بعيدة عن الفلسفة، لكنه فعل ذلك، على سبيل الاستثناء، في بعض الأعمال مثل يوسف السباعي الذي اشتهر بالروايات الرومانسية، لكنه كتب ثلاث روايات فلسفية بامتياز، هي: السقا مات، أرض النفاق، نائب عزرائيل.
والحقيقة أن علاقة الفلسفة بالأدب تعتمد كثيرا على علاقة التفكير بالخيال، فالذين يعتمدون علي المنطق وحدهم هم الذين يكتبون فلسفة خالصة مثل أرسطو وكانط وهيجل، والذين يعتمدون على الخيال وحده يكتبون أدبا خالصا، وبين الإثنين يوجد طريق ثالث يجمع بين الفلسفة والأدب، وينتهجه هؤلاء الذين يفكرون بالخيال أو يتخيلون بالتفكير، أي الذين يجمعون بين العقل والعاطفة، ويعبّرون عن الطابع الإنساني في كليته، الذهنية والشعورية، سواء أكانوا من الفلاسفة أو الأدباء.
ولأن الجدل حول العلاقة بين الفلسفة والأدب لا ينتهي، بالرغم من مرور السنوات، فإن السؤال سيظل مطروحا بصدد طبيعة هذه العلاقة. وفي هذا السياق، سنحاول في هذا المقال أن نستدعي لقاء حواريا مهما أجراه الفيلسوف الإنجليزي بريان ماجيBryan Magee مع مواطنته الأديبة والفيلسوفة آيريس مردوخ Iris Murdoch حول علاقة الفلسفة بالأدب. وقد بثه التلفزيون البريطاني في قناته الثقافية عام ١٩٧٨م، وهو متاح على موقع “اليوتيوب”، وسنعتمد في مقالنا علي الترجمة التي قامت بها الكاتبة والناقدة الأردنية لطفية الدليمي تحت عنوان “نزهة فلسفية في غابة الأدب” وصدرت عن دار المدي عام ٢٠١٨م.
استقلال الفلسفة عن الأدب:
ينطلق بريان ماجي، في حواره مع آيريس مردوخ، من مقدمة أساسية، في حكم المسلّمة، تميز بين الفلسفة والأدب باعتبارهما حقلين معرفيين مختلفين، وتحديدا لا تنتمي الفلسفة إلى الأدب، أي أنه بأي حال من الأحوال لا تعتبر الفلسفة نوعا من الأدب، فيقول:
“… إن نوعية الكتابة الفلسفية وأهميتها تكمن في اعتبارات أبعد من القيمتين الأدبية والجمالية، وإذا ما كان الفيلسوف – أي فيلسوف – يجوّد في طريقة كتابته فتلك مزية تحسب له بالتأكيد وستجعله على قدر كبير من الغواية التي تدفع الآخرين لدراسته، غير أن الكتابة الفاتنة لن تجعل منه فيلسوفا أفضل” (ص٢٠).
يبدو كلام ماجي وجيها جدا، خاصة إذا نظرنا إلى المسألة من الجهة الأخرى، فالأديب الذي يضمّن أعماله أفكارا فلسفية ربما يكون أكثر عمقا ويدفع النقاد إلى إعادة قراءته للكشف عن الأبعاد الأخرى الكامنة في العمل، غير أن ذلك لن يجعل منه أديبا أفضل. وتؤكد مردوخ على المعني نفسه موضحة لماذا تختلف الفلسفة عن الأدب، فتقول:
“الفلسفة تبتغي التوضيح والاستفاضة في كشف الدقائق الجوهرية للأمور، وهي تحدد ومن ثمّ تحاول حل بعض أعقد المعضلات الإشكالية المعقدة، وبناء على هذا الأمر ينبغي للكتابة الفلسفية أن تخدم هذا الهدف بكفاءة، ويمكن في هذا السياق القول إن الكتابة الفلسفية السيئة لن تكون فلسفة على الإطلاق، في حين العمل الفني السيء يمكن أن يعد فنا في نهاية المطاف” (ص٢١).
فوظيفة الفلسفة تختلف عن وظيفة الأدب، كما أن الفلسفة تخاطب نخبة من المتخصصين الذين لا يتسامحون في قبول الأخطاء والتجاوزات ويطبقون في قراءاتهم معايير دقيقة و منضبطة، بينما لا يحدث الأمر نفسه مع جمهور الأدب من متعددي المشارب ومختلفي الميول و الأمزجة. ويأتي التسامح من الهدف من القراءة، فقارئ الفلسفة، صاحب التخصص الدقيق غالبا، يبغي من قراءته الدراسة والبحث من أجل الوصول إلى نتائج صحيحة ودقيقة وفقا للمعايير الأكاديمية، أما قارئ الأدب، حتي المتخصص منه، يهدف إلي المتعة والبهجة في المقام الأول، وبهذا المعنى يمكن أن تدخل في الصنعة الأدبية بعض الحيل اللغوية والأجواء الإيهامية المقصودة من أجل تحقيق هذا المطلب الإنساني ذي الضرورة الملحّة. وتلخص مردوخ هذا المعنى في جملة قصيرة معبرة عندما تقول:
“الأدب يوفر المتعة ويفعل الكثير من الأمور، أما الفلسفة فتفعل أمرا واحدا فحسب” (الموضع نفسه).
غير أن سؤال المتعة بالنسبة للنشاط الفلسفي يظل مطروحا، فهناك قطاع لا يُستهان به من القراء المثقفين ومحبي المعرفة يلجأون إلى الكتب الفلسفية لإشباع رغباتهم المعرفية ونهمهم الفكري، وهم في الحقيقة ما كانوا سيقدمون على مثل هذه الخطوة لولا أنهم يستشعرون شيئا من اللذة أو البهجة المتحصلة من قراءة هذا النمط من التأليف.
فما هي طبيعة هذه المتعة التي يجدها القارئ في الفلسفة ولا تشبه تلك التي يوفرها الأدب لقراءة؟ .. تجيبنا مردوخ قائلة:
“الفلسفة ليست فعالية ممتعة على نحو دقيق لمفردة المتعة المتداولة، لكنها يمكن أن تكون باعثة على الراحة طالما أنها – كما الأدب – تسعى لاستخلاص الشكل والنظام من لجة الفوضى والتشويش المقترن بتلك الفوضى” (ص٢٧).
لكن الراحة التي تتحدث عنها مردوخ لا تستمر، أو أنها ليست راحة خالصة ونهائية، لأن الفيلسوف يبقى ميالا لالتزام جانب الشك والحذر فيما يتعلق بالدوافع الجمالية، كما يظل محتفظا بالحس النقدي تجاه الجانب الغرائزي الذي يؤجج الخيال ويبقيه نشطا، خلافا للفنان أو الأديب الذي ينبغي عليه أن يحتفظ بصلة وثيقة مع عقله اللاواعي الذي يوفر له القوة الدافعة لإنجاز الأعمال الفنية والأدبية العظيمة.
وبالرغم من توافر العقل اللاواعي في عمل الفيلسوف، وبالرغم من أن ذلك يمكّن الفلسفة من أن تكون عونا كبيرا في التخفيف من ضراوة مخاوفنا، إلا أن الفيلسوف الذي يروم الحقيقة، خلافا للفنان، يأبى إلا أن يزعزع ذلك الاستقرار الذي يمكن أن يستشعره القارئ، ويعمل بدلا من ذلك على إثارة شكوكه ومخاوفه. فتقول مردوخ:
“وهنا يتوجب على الفيلسوف أن يقاوم الفنان الذي بداخله ويتجاوز السعي وراء الإجابات التي تروم طلب الراحة، لأن الفيلسوف في كل الأحوال يعمل بدافع السعي وراء الحقيقة ويروم الإمساك بالمعضلة التي يواجهها بدل التخفيف من غلوائها، وهذا المسعى الفلسفي لا يتوافق بالتأكيد مع ما يحصل في الفن الأدبي” (ص٢٨).
وتضع مردوخ تمييزا آخر بين الفلسفة والأدب من جهة اللغة، فالكتابة الأدبية تأتي محملة بالدلالات الفنية، واللغة في الرواية تُستخدم بطريقة مراوغة للغاية وفقا لطبيعة العمل الروائي، وهذا يعني أن ليس ثمة أسلوب أدبي وحيد متفرد أو مثالي بالرغم من وجود كتابة يمكن أن توصف بكونها جيدة أو سيئة. وفي المقابل، تعلن عن قناعتها بوجود أسلوب فلسفي مثالي متفرد يمتلك خصائصه المعلومة في الوضوح والصرامة والبعيد عن الألاعيب اللغوية. إن مردوخ تميل إلى فصل الأدبي عن الفلسفي، وتحقيق نوع من الثبات والتحديد لهذا الأخير بحيث يكون قادرا على أداء وظيفته التي تختلف جذريا عن وظيفة الأدب. يتضح ذلك من العبارة التالية التي تتخذ منحى أخلاقيا، وكأنها عظة دينية أو ميثاق للشرف:
“ينبغي على الفيلسوف المتمرس في صنعته الفلسفية أن يحاول توضيح مقاصده بالضبط وأن يتجنب التفخيمات البلاغية الطنانة غير المجدية… ينبغي علي الفيلسوف في كل الأحوال – كما أظن – أن يتحدث بصوت محدد بارد واضح يمكن تمييزه متي ما وجد نفسه يتصدى لمعالجة واحدة من المعضلات الجوهرية في عمله الفلسفي” (ص٢٢).
ووفقا لهذا التحديد الصارم لما ينبغي أن يقوم به الفيلسوف أثناء معالجته لقضاياه الفكرية تستبعد مردوخ أسماء كبيرة في عالم الفلسفة من ميدان التفلسف مثل نيتشه وكيركجارد، لأنهم كانوا يجمعون بين كونهم مفكرين وكونهم كتّابا عظاما ينتهجون أسلوبا أكثر توظيفا للدلالات الأدبية.
وفيما يبدو فإن ممارسة مردوخ للفلسفة بنحو أكاديمي هو ما جعلها أميل للطرح الموضوعي حين معالجتها لعلاقة الفلسفة بالأدب، فهي تقترب بالفلسفة من جانب العلم أكثر من جانب الأدب، وإن كانت تظل حريصة على تحقيق نوع من الاستقلالية لها، ما جعلها تبتعد عن كل ما هو عاطفي وذاتي في الكتابة الفلسفية، يؤكد ذلك عباراتها الصريحة التالية:
“الكتابة الفلسفية ليست شكلا من أشكال التعبير الذاتي، بل هي تنطوي على كبح منضبط للصوت الذاتي، بعض الفلاسفة يطيب لهم الحفاظ على نوع من الحضور الشخصي في أعمالهم، فمثلا يفعل كل من هيوم وفيتجنشتاين هذا الأمر وبطرق مختلفة، ولكن الفلسفة في نهاية الأمر تمتاز بصوتها الصلب الواضح غير المشخصن ولا يمكن أن نتوقع انقلاب الحال لما هو معاكس لهذه الخصائص الراسخة في الكتابة الفلسفية” (ص٢٣).
وبالرغم من اعترافها بوجود فلاسفة كبار، مثل هيوم وفيتجنشتاين، قاموا بدمج ذواتهم في كتاباتهم الفلسفية، إلا أنها تصر على تجريد الفلسفة من الذاتية حتي لا تترك للقارئ الفرصة لإسقاط ذاته وإعادة تشكيل النص حسبما يريد، فتقول:
“الكاتب الأدبي يترك قاصدا مساحة من الحرية للقارئ لكي تكون ملعبا خاصا له يستطيع فيها إعادة تشكيل رؤيته الشخصية بشأن ما يقرأ، أما الفيلسوف فلا يمكن (والأصح أن أقول لا ينبغي) أن يترك أية مساحة للقارئ لكي لا يتيح له إعادة تشكيل العمل الفلسفي كيما تقوده رغباته” (ص٢٣).
وفي سياق محاولات مردوخ المتكررة لفصل الفلسفي عن الأدبي، وتحقيق استقلالية تامة للفلسفة، تعبر فوق كل الفرص التي من الممكن أن تحقق مزجا بين المجالين، خاصة إذا كان هذا المزج سيفقد الفلسفة شيئا من خصوصيتها ويكسبها شيئا من الأدب، فتقول:
“قد يحصل في أحايين قليلة للغاية أن يكون عمل فلسفي ما عملا فنيا في الوقت ذاته مثلما هو الحال في الندوة الأفلاطونية Symposium, غير أن مثل هذه الأعمال تبقي حالات استثنائية غير قياسية، والحق أننا لا يمكن أن نقرأ الندوة الأفلاطونية ونفهم منبنياتها الفلسفية إلا بمعونة الإرشاد الذي تجود به الأعمال الفلسفية الأخرى لأفلاطون” (ص٢٤).
ولا يعني موقف مردوخ الصلب، والذي يبدو وكأنه محاولة دفاعية عن الفلسفة ضد الأدب أنها منحازة للأولي علي حساب الأخير. فقد مارست كلا النوعين من الكتابة، الفلسفية والأدبية، وحققت نجاحات ذات اعتبار في الحقلين، ولكنها، كما ألمحنا من قبل، ترصد العلاقة بنحو عقلاني موضوعي، ومن المنطلق نفسه تنتصر للأدب على الفلسفة عندما تقول:
“أظن أن من الممتع أكثر هو أن يكون المرء فنانا بدل أن يغدو فيلسوفا. يمكن النظر إلى الأدب باعتباره وسيلة منضبطة ومدربة لرفع منسوب المشاعر لدى القارئ… وبالنسبة لي أرى من المناسب تضمين إثارة المشاعر في صلب تعريف الفن الحقيقي على الرغم من عدم إمكانية اعتبار كل تجربة غنية حادثة مترعة بالمشاعر القوية” (ص٣٣).
سمات مشتركة بين الفلسفة والأدب:
بالرغم من الرؤية الانفصالية التي تقدمها مردوخ لعلاقة الفلسفة بالأدب، تظل هناك سمات مشتركة ونقاط التقاء بين المجالين لا يمكن إغفالها، ولعل أبرز هذه النقاط هو مسألة الحقيقة. فبالرغم من اختلافاتهما المميزة، فهما في النهاية، فيما ترى مردوخ، فعاليتان تسعيان للبحث عن الحقيقة والكشف عنها، الأدب يقوم على رؤية منظمة تنطوي على الاستكشاف والتصنيف والتحديد والتشخيص، والفلسفة هي فعالية تعتمد على الخيال أيضا، ولكن عباراتها التي تسعي لبلوغها تختلف جوهريا عن العبارات الفنية، وفي هذا المعني تقول مردوخ:
“إن الأدب مماثل للفلسفة في شأن كون الإثنين فعاليتين تبتغيان الكشف عن الحقيقة، لكن بالطبع تبقى الفلسفة فعالية تجريدية مكتنفة بالاستطرادات والمباشرة والابتعاد عن المسالك الالتفافية، أما اللغة الأدبية فيكتنفها غموض كيفي محبب دوما، وحتي ما يبدو فيها كلاما واضحا إنما هو جزء من هيكل تخيلي محكوم بقواعد شكلية محددة” (ص٣٦).
وإذا كان السعي نحو بلوغ الحقيقة يعد واحدا من النقاط الهامة التي يلتقي عندها كلا من الفلسفة والأدب، فإن سعي كل منهما تجاه الآخر يعد من نقاط الالتقاء التي لا تقل . فسعي الفلسفة تجاه الأدب إنما يعني جعل الأدب موضوعا للتناول الفلسفي، والشيء نفسه يمكن أن يقال عندما تكون الفلسفة موضوعا للتعبير الأدبي. ويمكن أن نطلق على الحالة الأولي “الأدب في الفلسفة” وصورتها “فلسفة الفن”، كما يمكن أن نطلق علي الحالة الأخيرة “الفلسفة في الأدب” ونموذجها ” الأدب الوجودي”.
1- الأدب في الفلسفة
في الحقيقة أن تاريخ الفلسفة مليء بالأفكار التي تناولت الفن، والأدب باعتباره أحد تجليات الفن، في مبحث أصيل ومتخصص هو “علم الجمال” أو “الإستطيقا”، وبالرغم من أن المصطلح يرجع إلى الألماني بومجارتن الذي أطلقه في القرن الثامن عشر في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه، إلا أن الكتابات الفلسفية حول الفن لم تتوقف سواء قبل هذا التاريخ أو بعده، ولعل أبرز النظريات الفلسفية التي قيلت في الفن قبل بومجارتن، كانت ما قدمه أرسطو في ” فن الشعر” و كانط في ” نقد ملكة الحكم” وهيجل في “علم الجمال وفلسفة الفن”. والملاحظ أن نظرة هؤلاء، الفلسفية، وأمثالهم لم تأت ممجدة للفن، لأنها لم تأت في سياق احتفائهم بالفن في حد ذاته وإنما بوصفها جزءا من فلسفاتهم العامة في الأخلاق والميتافيزيقا. وفي هذا السياق تؤكد مردوخ على هذا المعنى قائلة:
“إن الفلاسفة في مجملهم لم يكتبوا الكثير من الكتابات الرفيعة بشأن إطراء الفن بعامة، وربما يعود السبب في أحد جزئياته لكونهم اعتبروا الفن مسألة ثانوية فرعية صغيرة يتوجب عليهم تطبيقها داخل إطار نظريتهم العامة في الميتافيزيقا أو الأخلاق” (ص٤٢).
وتستثني مردوخ شوبنهاور من هؤلاء الفلاسفة، لأنه قدم رؤية مختلفة ترفع من شأن الفن، ومضى في رؤيته في اتجاه معاكس لرؤية أفلاطون. فقد كان أفلاطون يميز بين الفن باعتباره وسيلة لمنح المتعة الذهنية الجزء الذاتي الأحمق من الروح الإنسانية، وبين الأفكار التي تتعامل مع الجزء الأكثر نبلا من الروح باعتبارها مفاهيم عقلانية كونية أو مصادر للتنوير. غير أن شوبنهاور نجح في قلب المسألة رأسا على عقب بأن أعاد الارتباط بين الفكر والفن ومنح هذا الأخير القدرة على حمل الأفكار ونقلها إلى الآخرين، فالأفكار عند شوبنهاور أشكال إدراكية يمكن تحسسها جزئيا في الطبيعة، وأن خيال الفنان يسعى للكشف عنها.
تثمن مردوخ رؤية شوبنهاور باعتبارها رؤية جذابة وسامية المقام تجاه الفن، لأنها تصور الفن بهيئة مسعى أخلاقي وذهني رفيع شبيه بالمسعى الفلسفي من حيث محاولة كشف النقاب عن العالم الحقيقي، كما تقترح هذه الرؤية مقاربة يكون الفن الجيد أمرا بالغ العمومية وبالغ الخصوصية في الآن نفسه. وتعبّر مردوخ عن المكانة المتميزة لشوبنهاور بين الفلاسفة الذين تناولوا موضوع الفن قائلة:
“يبدو شوبنهاور حالة استثنائية مميزة بين الفلاسفة من حيث عشقه وتقديره الواضحين للفن، وأرى أن الكثير من التنظير الفلسفي بشأن موضوعة الرؤية الفلسفية للفن هى مجادلات مفتقرة إلى الخيال وتقتصر على وضع رؤية محدودة لأحدهما في مقابل رؤية محدودة للآخر، وغالبا ما يكتنف تلك المجالات تساؤلات سقيمة لا تنتهي من قبيل: هل الفن من أجل الفن أم من أجل المجتمع؟” (ص٤٤).
2- الفلسفة في الأدب
كما للأدب حضور في الفلسفة فإن للفلسفة حضور في الأدب، والمسألة هنا تختلف من جهة الكاتب، فحلول الأدب في الفلسفة يجئ بواسطة الفيلسوف وحلول الفلسفة في الأدب يجئ عن طريق الأديب، ولعل الحالة النموذجية في هذا السياق هي التي تحققت في بعض الفلاسفة الوجوديين مثل سارتر وسيمون دي بوفوار كما يمكن أن نجدها عند البعض من الفلاسفة الأدباء من غير الوجوديين مثل آيريس مردوخ نفسها. وتأتي أهمية هذا النوع من الكتّاب أنه مارس الكتابة الفلسفية أكاديميا ومارس الكتابة الأدبية الإبداعية في الوقت ذاته. والحقيقة أن مردوخ لا تعترف بأهمية وجود الأفكار الفلسفية في الأدب، وتنكر على الأديب، مهما كانت براعته وقدرته الأدبية، أن يحاول تقديم رؤية فلسفية متكاملة من خلال عمله الروائي، لأن ذلك سيضر بالأدب ولن يضيف كثيرا إلى الفلسفة، فمازالت مردوخ تميز بين الكتابة الفلسفية الاحترافية وبين الأدب ذي المضمون الفلسفي، فتقول:
“من المؤكد أن يتفاعل الكتّاب مع الآراء السائدة في عصورهم، وقد يبلغ الأمر مبلغ رغبتهم في إحداث انعطافات فلسفية مؤثرة، قدر الارتقاء الفلسفي الذي قد يظفرون بتحقيقه – هذا لو ظفروا حقا – غالبا ما يكون ضئيلا متصاغرا بالمقارنة مع الفلاسفة المتمرسين” (ص٥٠).
وتصرّح مردوخ دون مواربة بعدم ترحيبها بأي دور يمكن أن يُنسب للفلسفة في الأعمال الأدبية، وبهذا المعني ترفض ما يُشاع بين الناس من وجود فلسفة لتولستوى أو برنارد شو، فكلاهما كاتب عظيم، لكن بغير أن تُنسب لأعمالهما أفكار فلسفية عظيمة. وتصل مردوخ في صراحتها وصدق قولها أن تنفي عن أعمالها الأدبية هذا الدور الفلسفي بالرغم من المشروعية التي تستمدها من خبرتها الأكاديمية، فتقول:
“الحق أنني أشعر برعب قاتل يتملكني متي ما فكرت بإقحام الأفكار الفلسفية في رواياتي. قد يحصل أحيانا أن أشير محض إشارة فحسب إلى الفلسفة في بعض مواضع رواياتي بسبب المصادفة التي جعلتني على شيء من دراية بالموضوعات الفلسفية التي تتناغم مع سياق تلك المواضع في رواياتي، والأمر سيان لو كنت أعرف شيئا عن السفن الشراعية مثلا” (ص٥٢).
وبالرغم من ذلك تستثني مردوخ سارتر وروايته “الغثيان” وتعتبره حالة شديدة الخصوصية، فروايته المشار إليها تعتبر الرواية الفلسفية الوحيدة التي حازت على إعجابها بشكل كبير، لأنها تحكي عن أفكار مثيرة بشأن المصادفة والضمير، لكنها برغم جودتها الفلسفية تبقى عملا فنيا لسنا في حاجة ملحة لقراءته بقصد حيازة معرفة أفضل بنظريات سارتر التي عرضها في أعماله الفلسفية الخالصة.
وتعزي مردوخ السبب في فرادة التجربة السارترية إلى وجود إحساس سردي احترافي بشأن فلسفته المبكرة، حيث يحتشد كتاب سارتر ” الوجود والعدم” بالصور والحوارات.
وهنا يتخذ ماجي (المحاور) نموذج سارتر كمناسبة للإفصاح عن رأيه المعارض لرأي مردوخ ليتساءل عن مدى إمكانية تكرار تجربة سارتر الثرية، خاصة في ظل وجود روايات عظيمة وظفت الأفكار الفلسفية لا كمحض موضوع مثل سائر الموضوعات بل كجسم أصيل في هيكل العمل الفني.
والحقيقة أن مردوخ عندما ترفض إقحام الفلسفة في الأدب، فهي تقوم بذلك لصالح كلا المجالين الفلسفي والأدبي، فهي تريد أن تحفظ للفلسفة خصوصيتها وفي الوقت نفسه تمنح الأدب دورا آخر يمكن أن يميزه عن الفلسفة، وهو دور يذهب بالأدب إلى أبعد مما يمكن أن تصل إليه الفلسفة، وليس أدل علي ذلك من هذه الكلمات المعبرة:
“عندما نتساءل عن موضوع رواية فإننا في حقيقة الأمر نتساءل عن شيء أعمق من محض الأفكار المجردة: ما الذي ابتغاه بروست، ولماذا لا نكتفي بقراءة برجسون وحسب؟ ثمة دوما موضوع أخلاقي الطابع في الرواية يتجاوز عالم الأفكار المجردة، وكل الأعمال الروائية الجيدة تقوم على هياكل تنطوي على أسرار غامضة بشأن الشهوانيات المتصارعة إلى جانب تلك الصراعات الداكنة بين الخير والشر في الحياة البشرية” (ص٥٤).
وفي النهاية يمكننا القول إن الإشكاليات التي تثيرها آراء آيريس مردوخ حول علاقة الفلسفة بالأدب يمكن أن تُحل إذا ما فهمنا الفلسفة بنحو أوسع، بحيث تتجاوز المعنى الأكاديمي، وتحوز القدرة على التغلغل في كافة مناحي الحياة، الواقعية والخيالية. وبهذا المعنى يصير الأدب شكلا من أشكال الحضور الذي تتجلي فيه الحكمة الفلسفية بكافة صورها، الميتافيزيقية والأخلاقية والمعرفية والجمالية.

