د. ماهر عبد المحسن

ينتمي الشاعر إبراهيم داود إلي جيل الثمانينيات، بالرغم من عدم اعترافه بفكرة التصنيف الشعري، وهو الجيل الذي خرج من رحم التجربة السبعينية التي جاءت كرد فعل فني علي الواقع المتردي سياسيا واجتماعيا، خاصة بعد هزيمة 67 العسكرية والنفسية، ما جعلها تخاصم السلطة والجماهير، وتبتكر لنفسها أسلوبية جمالية خاصة بها بحيث لا تخاطب إلا نفسها والمنتمين إليها فقط. وبهذا المعني، صار لها عالمها الموازي ومفرداتها الذاتية التي تشكل معجما لا يفهمه سواها!

وخلافا لهذا الاتجاه الشعري المارق، المتمرد علي الحياة والناس، بالرغم من ابتكاراته الأسلوبية والجمالية، يأتي إبراهيم داود متمردا علي الاتجاه السبعيني نفسه، بالرغم من استفادته من روح التمرد وجرأة الابتكار، معلنا أنه يكتب للناس ويبحث عن الناس، فالكتابة عنده جزء من الحياة المعيشة، بحيث لا يمكنك أن تفصل تجاربه الشعرية عن تجاربه الحياتية، ويؤكد كتابه “خارج الكتابة” هذا المعني. ويكفي أنه عندما سُئل عن الشيء الذي يربط كل أشعاره علي تنوعها أجاب بأنه الحزن والوحدة!

ولعل في قلة إنتاج داود (ثمانية دواوين وأربعة كتب علي مدار ثلاثين عاما) ما يدعم هذه الرؤية، فشاعرنا لا يكتب من أجل الكتابة، لكنه يكتب بدافع نفسي واحتياج اجتماعي ليقاوم الحزن والوحدة اللذان يلقيان بظلالهما الثقيلة علي حياته اليومية التي حرص دائما علي أن تكون بسيطة.

وفي سياق البساطة لا يميل داود إلي التعقيد في اختياره لمفرداته الشعرية، كما كان العهد دائما لدي شعراء السبعينيات، لكنه يختار أسهلها في النطق وأقربها في المعني من الخبرة اليومية المشتركة بين الناس جميعا. ولا يعني ذلك الوقوف عند السطح الخارجي للفظ أو المستوي الأول من الدلالة، إنما تكمن جمالياته في تلك القدرة السحرية علي الارتفاع بالعادي إلي آفاق أبعد وأقرب إلي الميتافيزيقا، ما جعل البعض ينسب إلى أعماله شيئا من روح التصوف.

فكيف تحقق له ذلك؟

يختار داود من التجارب الإنسانية ما هو ذاتي ويومي وقريب من الوعي الجمعي، ويختار من الألفاظ ما هو عادي ومألوف، وفي كلتا الحالتين يعمد إلي الاحتفاظ بروح الطفولة ذات البراءة المحببة والسذاجة المخادعة، ما يجعل من إبداع الشاعر نوعا من اللعب وشكلا من أشكال المقاومة في الآن نفسه.

ولكي نقترب أكثر من تجربة داود الشعرية، ينبغي أن نتوقف عند الملامح المميزة لشعرية البساطة عنده من ناحية، وعند الحضور الفينومينولوجي للغة في هذه التجربة الخصبة من ناحية أخرى.

  • شعرية البساطة

بالرغم من الخبرات الحياتية والثقافية الطويلة لشاعرنا الكبير، إلا أنه، فيما يبدو، آثر أن يتعامل مع قضاياه الكبرى والصغرى بالروح نفسها، أو بالبساطة نفسها إن أردنا الدقة، فعندما كتب الشعر لم يكن دافعه أن يسعي إلي الشهرة أو تقديم رؤية مغايرة للشعر تجاوز من سبقوه، فقط كان يسعي إلي تجميع الناس حوله، لا بمعني النجومية لكن بمعني الحب والصداقة الإنسانيين. وعندما كتب عن أمراء التلاوة في مصر إنما كان يسعي إلي الدفاع عن قوة مصر الناعمة ضد التيار الوهابي القادم من صحراء الجزيرة العربية، فالغيرة علي الوطن ومكانته الدينية والثقافية في المنطقة، التي حصلها عبر آلاف السنين، كانت هي دافعه لهذه الكتابة، ومن ثم لم يكن معنيا بالبحث الموضوعي حول أسباب انتشار المقرئين السعوديين في مصر والعالم العربي، وتراجع النفوذ المصري في هذا السياق، أي أنه لم يعمل علي استيعاب جمالية قرائية جديدة، لاقت صدي كبيرا في العالم العربي، وتجاوزت جمالية عبد الباسط والطبلاوي التي اعتمدت علي الأداء اللفظي المنغم أكثر من اعتمادها علي إبراز المعني القرآني العميق الذي يتطلب الإنصات والتدبر، وهو ما حققته المدرسة الجديدة في التلاوة علي يدي محمد جبريل في مصر والحذيفي في السعودية.

ويمكنك أن تلمح البساطة نفسها في رأيه حول روايات أحمد خالد توفيق وأحمد مراد ذات الانتشار الواسع في مصر، فهو يري أنها روايات تجنح إلي الغرائبية وتهدف إلي الانتشار وأن روايات الرعب والروايات البوليسية عموما كانت موجودة طوال الوقت، غير أنه لم يعثر علي رواية تهزه بعد محفوظ وفتحي غانم. وهو رأي له وجاهته لكنه رأي شخصي يفتقر إلي البحث المتعمق حول أسباب انتشار هذا اللون من الأدب بين جمهور القراء من كل الأعمار، وكذا أسباب اتجاه الكتاب الجدد إلي الكتابة الخيالية ذات الملمح الخرافي الأسطوري في زمن قطع فيه العلم خطوات بعيدة!

ولا يختلف الأمر كثيرا في رأيه حول القضايا السياسية، خاصة في الأحداث التي تلت ثورة يناير، فهو كأي مواطن مصري بسيط يري الأمور من منظور لونين فقط الأبيض والأسود، أو من منظور الدراما الهندية، فالناس إما أخيار وإما أشرار. إن داود يميل غالبا إلي استخدام المفردات الدارجة في الحياة الثقافية من قبيل “الريادة المصرية” و “الفكر الوهابي” و ” الخلافة الإسلامية ” لتفسير ظواهر الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية المعاصرة، التي صارت أكثر تعقيدا، ومن ثم تحتاج إلي أدوات جديدة للفهم ومفردات أكثر قدرة علي استيعاب التحولات الكبيرة والعنيفة التي طالت المنطقة، بل العالم كله علي كافة الأصعدة.

بهذه البساطة، التي لا تخلو من صدق، يتشكل وعي إبراهيم داود، الصحفي والشاعر، في الآن نفسه. غير أنه لا يفوتنا أن نبرز الفارق الشاسع بين بساطة الصحفي وبساطة الشاعر، فبساطة الأول قد تخل بمصداقيته أمام الناس لأنها قد تظهر حقيقة وتحجب أخرى، أما بساطة الأخير فمن شأنها أن تدعم هذه المصداقية ، ليس فقط لأن “أجمل الشعر أكذبه”، لكن لأن للبسيط وللمألوف وظيفة جمالية هامة في مضمار الكتابة الأدبية بعامة، والشعرية بنحو خاص.  يتحقق ذلك بفعل الشعر نفسه الذي يملك القدرة علي إضاءة المعني بأن يكسب الكلمة التي تبدو عادية ومستهلكة ألقا خاصا.

ففي قصيدة “طيبة” يقول:

هناك دائماً ما يبرر تعاستنا

نسأل أنفسنا كل مرة: ومتي نجونا؟

نستدرج الذكريات الأليمة

“نستدرجها كلها”..

فنشعر بالزهو

لأن الذي قطع كل هذه المسافة

وهو ينزف

لن تغلبه تعاسات الدنيا

نحن طيبون..

ويعلم الله”

(ديوان “كن شجاعا هذه المرة”، دار ميريت، القاهرة، ٢٠١٩، ص١٣).

وهنا تتحول الطيبة من كلمة يومية دارجة إلي مفهوم نفسي واجتماعي، بل وفلسفي يرادف المعاناة ويستدعي الفخر على تحمل الآلام، كما يستدعي نيتشة في العود الأبدي وكامو في أسطورة سيزيف، ولكنه لا يصل الي قمة العدم كما عند الأول ولا إلي ذروة العبث كما عند الأخير، لكنه يردد مع ديكارت أن الله تعالى هو الضامن الوحيد للحقيقة في نهاية القصيدة عندما يقول “نحن طيبون.. ويعلم الله”.

ويصف داود بساطة العالم الذي يعيش فيه بعبارات بسيطة ومعان عميقة تضرب بجذورها في تفاصيل الحياة اليومية وأشيائها التي تحاصره من كل ناحية، يعيش أياما متشابهة، ويبدد طاقته في رحلة مكللة بالأسي ولا يطمع في شيء سوى أن يظل العالم علي حاله، وألا يتجاوز أحد حدوده.

وعن هذا المعني يحدثنا عبر قصيدة ” حدود” قائلا:

“عالمنا بسيط:

أرصفة ومنازل وتبغ

وأغان معتقة.. للطريق

حين تعبر الريح

نخاف،

وحين يشتد البرد..

ولا تظهر حرارتنا إلا

في لحظات الوداع

………………..

لم “نزاحم” أحدا علي شيء

فقط نريد أن يظل النهر في مكانه

وأن نذهب إلي النوم

آمنين..”

(ديوان ” كن شجاعا هذه المرة” ، ص ص٥٣- ٥٤).

والبساطة عند داود ترادف السهولة، فبساطة التعبير تعكس سهولة التجربة، وهو ينجح بجدارة في اختزال رحلة الحياة كلها، بكل نجاحاتها وإخفاقاتها، في كلمات قليلة، سهلة ومعبرة، فيقول في قصيدة “عودة”:

“كان ذلك سهلا:

أن تولد وتكبر

وتسكن بيوتا ضيقة.. بعيدة

وتنام في الخلاء

وتقع

وتقوم

وتترنح

وتحب بصدق

وتتعثر

كان سهلا التعامل مع الضيق

كان سهلا…

الرجوع إلي البيت”

(كن شجاعا هذه المرة، ص١٧).

ويعتبر احتفاظ الشاعر بروح الطفولة وذكرياتها البعيدة ملمحا أساسيا من ملامح البساطة الشعرية التي تستمد منها القصائد جمالياتها. ففي قصيدة بديعة بعنوان “يحدث كثيرا” يستدعي داود تجربة طفولية مشتركة مررنا بها جميعا، لكننا، مثل تفاصيل كثيرة، لم نعد نتذكرها، وربما لا نجد ضرورة أو معني للتوقف عندها، غير أن الشاعر يجعل منها زاوية جديدة لإعادة النظر في مخاوفنا التي تستولي علينا ولا نجد لها تفسيرا. إنها اللحظة الفارقة التي تجسد ذلك التوتر الناجم عن الصراع الداخلي بين الفضول المعرفي والخوف من الموت. ربما نلمح ظلالا للتحليل النفسي الفرويدي، أو استحضارا لتجربة بروستية، لكن تظل ذاكرة الشاعر الحية وخبرته اليومية الآنية هي النبع الصافي لتلك الشعرية السحرية، فيقول:

“يحدث كثيرا

أن تجد نفسك خائفا من الاقتراب منه

الشباك الذي ينبغي أن يُغلق..

فتزحف على الأرض خمسة أمتار

متذكرا طوال الوقت مقولة أمك:

” رأسك أثقل من جسدك”

فتحبو في المتر الأخير

شابكا رجليك بشيء ثقيل

…. في أي طابق كنت؟

في أي شارع؟

فقط كانت الإضاءة خانقة

وموتك أكيد إذا اقتربت واقفا”

(ديوان “ست محاولات” ، دار ميريت، ط٢، القاهرة، ٢٠١٢، ص ص٣٤٤-٣٤٥).

  • فينومينولوجيا اللغة

للغة مقاربات عديدة منها المنطقية والاجتماعية، لكن تظل المقاربة الفينومينولوجية هي الأنسب للاقتراب من جماليات إبراهيم داود الشعرية، لأن الفينومينولوجيا، كمنهج فلسفي، تعني باللغة باعتبارها واحدة من تجليات الوجود، وهو ما عبر عنه الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر بمقولته الشهيرة ” اللغة هي بيت الوجود”. بمعني أن اللغة هي التي تمنح الأشياء وجودها من خلال إضفاء المعني والدلالة علي الموجودات، بل إن اللغة هي التي تؤسس الوجود ذاته في ميدان الشعر.

وشاعرنا في الحقيقة لم يبتعد كثيرا عن هذه الفلسفة، وإن لم يدرسها أكاديميا، وإنما اقترب منها إلي حد كبير عن طريق الممارسة التلقائية النابعة من فلسفته الحية المفعمة بروح البساطة والتأمل الهادئ لمجريات الحياة بالرغم من عنقها وصخبها.

فاللغة عند داود تختلف عن الثرثرة، والأحاديث التي يبددها العشاق فيما لا طائل من ورائه، ولكنها السبيل المباشرة نحو الحياة الآمنة، فهي التي تعينه علي تحمل الصعاب وهي التي تعوضه عن الشعور بالفقد عندما ينفض الناس من حوله ويجد نفسه فريسة للوحدة والفراغ. فيقول:

“اللغة متفق عليها

والعاشق الذي ضاق من الثرثرة عن العشق..

يبحث عن طرق قصيرة

تفضي إلي البحر الكبير

طرق ضيقة

تسكن إلي جانبيها الحياة

يمشي فيها آمنا

يصطاد ألحانا غامضة تعينه علي الشتاء

وتستوعب إحساسه القديم بالفقد”

(كن شجاعا هذه المرة، ص٥).

ومثل معظم الفينومينولوجيين يميز داود، علي طريقته الشعرية، بين اللغة والكلام، فاللغة هي مجموعة القواعد العامة التي تنظم طرق عمل لغة ما من اللغات، أما الكلام فهو الممارسة الفعلية التي يقوم بها الناس في محادثاتهم اليومية، وهي تختلف من شخص لآخر ومن جماعة لأخري. وفي هذا السياق يحدثنا داود عن “لغة الطيبين” في قصيدة قصيرة تحمل نفس الاسم، وهي لغة يلجأ إليها الأغراب لتحقيق التواصل بالرغم من فقرها، لأن قوتها في فقرها، فيقول:

“الأغراب لهم طريقة في الكلام

تختلف تماما عن الكلام

يقولون..

  • إذا أرادوا أن يقولوا-

كلاما

عن طريق آخرين

يملكون لغة طيبة

قوتها في فقرها”

(محاولات ست، ص٤٥٣).

 

والمتأمل لمعني الأغراب الذين يتوجه إليهم شاعرنا بالخطاب سوف يتبادر إلي ذهنه، في الغالب، أن المقصود هم المثقفون، الذين يحملون فوق كاهلهم هموما ثقافية وحضارية تجاوز وعي العامة من الناس، ما يجعلهم يشعرون بالغربة في مجتمعاتهم، لأنهم يتحدثون لغة خاصة لا يفهمها إلا المثقفون أمثالهم. وهنا يلجأ المثقف الواعي، الراغب في الانخراط في مشكلات الناس وتوصيل رسالته التنويرية إليهم إلي لغة الناس أنفسهم، لغة الطيبين، التي تكمن قوتها في فقرها. وهنا ينبغي أن نفهم الفقر لا بمعني النقص، وإنما بمعني الافتقار إلي الزخرف اللفظي أو التعقيد المصطلحي، ما يجعلها بسيطة ومباشرة، ولعل في ذلك ما يفسر لجوء داود إلي بعض الألفاظ العامية، بالرغم من التزامه بالتعبير بالفصحي، لأن اللفظة العامية تكون، في أحيان كثيرة، أكثر بلاغة من الفصحي إذا ما أُحسن اختيار الموضع المناسب لتوظيفها فيه فنيا.

وتتضح رؤيتنا هنا عندما نقرأ السطور التالية من القصيدة نفسها، والتي يقول فيها الشاعر:

“الأغراب معنيون بالتفاصيل

ويحافظون علي البيئة

ويدعمون السينما

ويطالبون بتحرير الركض

من الإيديولوجيا

ويفهمون في الموسيقى”

(ص ص٤٥٣-٤٥٤).

 

يمارس داود الفينومينولوجيا من خلال الطرح المفاهيمي لأغراضه الشعرية، فنجده يختار عناوين بسيطة لقصائده، يختزلها في كلمة واحدة، بحيث يأتي المتن كإضاءة شعرية تكشف عن معني جديد للكلمة التي تبدو للوهلة الأولى دارجة ومستعملة. وبالرغم من كثرة هذه الكلمات المفتاحية، إلا أن لشاعرنا كلمات أثيرة تتكرر كثيرا في دواوينه، أحيانا في شكل العنوان وأحيانا داخل النص، وفي كل الأحوال، تلعب هذه الكلمات دورا كبيرا في إبراز جمالية القصائد وإزاحة النقاب عن الرؤية الخاصة التي يقدمها الشاعر، والتي تعكس مخزونا حيا من الثراء الحياتي والفني .

ومن هذه المفردات نختار “الموسيقى” و”الرائحة”.

 

  • الموسيقى

تتردد كثيرا مفردة “الموسيقي” لدى إبراهيم داود، وفي كل مرة تعكس دلالة جديدة، ما يجعلنا نتساءل عن سر احتفائه بهذه المفردة، فإذا لم يكن قد مارس العزف علي الحقيقة فيكفي أنه بدأ كتابة الشعر بديوانين غنائيين، أي ينتميان إلي الشعر الموزون والمقفى الذي يعتمد علي الموسيقي الخارجية. فهو هنا في ميدان قصيدة النثر، الذي خاضه ببراعة، يبدو وكأنه مازال يبحث عن الموسيقى بوصفها الضامن الحقيقي لشعرية القصيدة، لكن في صورتها الداخلية وحضورها الأثيري  الشفاف الواقع ما بين المادي والروحي، الواقعي والمثالي.

ففي قصيدة “جنون” يرد ذكر الموسيقى باعتبارها الأمل المختبئ في مكان ما، بالرغم من غياب الموسيقيين القادرين علي استدعاء الأمل بعد أن تأخرت السعادة وجُنت المدينة، فنقرأ:

“الموسيقى معلقة في مكان ما

ولا يوجد موسيقيون

كأننا في حرب

… وكأننا انتصرنا

السعادة تأخرت

والمدينة القديمة

أصابها الجنون

…تضحك

تضحك بصوت عال

في عزاءات عشاقها”

(كن شجاعا هذه المرة، ص٧).

 

وكما كانت الموسيقى بمثابة الأمل فهي أيضا بمثابة الحياة، وعلامة علي الفرح وعلي الوجود، وعندما تتوقف الموسيقي، فإن الحزن والجرح يحلان محلها وتفقد الصور الملونة ألقها الذي شع ذات مرة قبل أن يطويه الغياب، فيقول داود:

“الحزن هذه المرة جارح

والذين تركتهم وخرجت

توقفوا عن تشغيل الموسيقي في الشرفة

ولم تعد قمصانهم ملونة

كما تظهر في الصورة”

(كن شجاعا هذه المرة، ص٣٦).

 

وتأتي الموسيقي في قصيدة “جهل” مرادفة للمعرفة والوعي، فالجهل بالموسيقى هو جهل بدروس التاريخ والمؤامرات التي تحاك في الخفاء، فنقرأ:

“لا يخافون التاريخ

التاريخ

الذي سيسطره الحزن الآن

في مكان ما

..،…..

جهلهم بالموسيقى ضيعنا”

(ص٧٩).

 

وفي قصيدة شديدة البلاغة والعذوبة (قصيدة تائه) يجعل داود من واقعة التيه تجربة وجودية تعبر عن علاقة الإنسان المغترب بالعالم، وبحثه الدائم عن طريق للخروج من دائرة التيه التي يقابل فيها أناس لا يفهمهم ولا يفهمونه، وهي قصيدة محتشدة بالرموز بالرغم من بساطة مفرداتها، بحيث يمكن فهمها باعتبارها تجربة إنسانية وثقافية تعكس أزمة العلاقة بين الماضي والحاضر. وهي قصيدة يفصح فيها الشاعر عن معني الموسيقي بوصفها إيقاعا، وهي لذلك تنجح في حل الكثير من معضلات الحياة التي تواجه إنسان هذا العصر، ذلك إذا أدركنا أن لكل شيء إيقاعه الخاص به، وأن قدرتنا علي التواصل وعلي العيش المشترك إنما تكمن في قدرتنا علي ضبط إيقاعنا مع إيقاع الحياة. وفي هذا المعني نقرأ:

 

“أنت لا تشكو من شيء محدد

وتشفق على الذين لم يضلوا بعد

ولكنك مضطر لمجاراة موسيقي

لا تعنيك

تخرج من الأماكن الجديدة

التي لم تكتشف إيقاعها بعد

رغم الإضاءة

المفتعلة القديمة

التي تُشعر أصحاب الأماكن الجديدة بالزهو”

(أنت في القاهرة، ص٣٥)

 

  • الرائحة

مثلما كانت الموسيقي علامة دالة علي التحول من القديم إلي الجديد من خلال الإيقاع، فإن الرائحة أيضا تمثل مؤشرا هاما علي التحول ذاته، في قصيدة ” رائحة جديدة”، كما أن التعبير عن القديم والجديد يأتي بكلمات متشابهة (أماكن قديمة/ أماكن جديدة) في قصيدة “تائه”, (مدن قديمة/ مدن جديدة) في قصيدة ” رائحة جديدة”، وإن كانت الأماكن والمدن في شعرية داود تعبر عن الأزمنة أكثر مما تعبر عن الأماكن. فدائما هناك صراع نفسي واجتماعي وحضاري بين القديم والجديد، والرائحة هنا رمز للأصالة وللمعاصرة في الوقت نفسه كما هي رمز للصراع الطبقي بين الفقر والغني. فقد غادر الأغنياء مدنهم القديمة لأنها لم تعد صالحة لاستقبال الزائرين، لكنهم أخذوا معهم الماء والشجر، بل والنهر ذاته، ولم يتبق سوي الرائحة، وهؤلاء المتمسكين بحياتهم القديمة، ويختتم شاعرنا قصيدته بما يعني أن الزمن جعل للرائحة صوتا، وهو في تأويلنا الشخصي جعل للرائحة  إيقاعا، ما يعني الاستغناء عن لغة الكلام والإنصات إلي لغة العصر أو الاكتفاء بذلك العبق السحري القادم من الماضي. وفي هذا السياق، تقول القصيدة:

“استيقظ الناس ذات صباح على رائحة جديدة

قيل لهم: المدينة أصبحت قديمة

وأن الطلاء الجديد ضروري

..لأننا في انتظار زائرين

مياسر الناس خرجوا إلي المدن الجديدة

وأخذوا معهم الماء والشجر

وتركوا الآخرين يقاومون الرائحة

ذهبوا إلى النهر

فلم يجدوا نهرا

الرائحة جلست ولم يأت أحد

بعد سنوات…

صار للرائحة صوت

ولم يعد هناك من يصغي إلي أحد”

(أنت في القاهرة، ص٩)

وارتباط الرائحة بإشكالية العلاقة بين الماضي والحاضر إنما ينبع من ارتباطها بالهوية، ليس هذا فحسب بل يمكن اعتبارها مرادفة للهوية ذاتها، فكثيرة هي المواضع التي ترد فيها كلمة “الرائحة” كي تعبر عن الهوية في عالم الإنسان أو عالم الطبيعة، ففي قصيدة “رفق” يقول الشاعر واصفا الليل:

” الليل إلى وقت قريب

كان شاعرا

له رائحة غامضة

..غامضة

وطازجة

…كانت تأخذنا إلي وسط المدينة

وسط المدينة…

كان رساما موسيقيا

وشاعرا

..وتجري من تحته الأنهار”

(كن شجاعا هذه المرة، ص١١).

فالليل له أوصاف عديدة، كان شاعرا و رساما وموسيقيا وتجري من تحته الأنهار، لكن أيا من هذه الأوصاف لم يكن يمثل هويته، فهويته هي تلك الرائحة الغامضة التي تجذب الناس إلي وسط المدينة.

وفي قصيدة ” الصمت” تتبدي الرائحة كمعادل للحقيقة ولليقين بعد أن هيمن الشك علي كل شيء، وبالرغم من الحضور الطاغي للعالم وللأحوال، يظل غياب الرائحة هو العلامة المؤكدة لزيف هذا الحضور. فلا الكلام ولا الخوف ولا الأمل هو ما يجعل اقتراب العابر ووصول العاشق حقيقة، فقط عدم وجود رائحة للطعام هو الذي يحقق ذلك. والمفارقة ذات الدلالة أن الطعام نفسه موجود لكن دون رائحة، أي مذاق، وهي دلالة تنسحب علي باقي الموجودات في هذا العالم، ما يعني أن وجود الأشياء بغير طعم (رائحة) يجعلها هي والعدم سواء.

وليس هناك أبلغ من هذه الكلمات للتعبير عن هذا المعني:

“لا يوجد شيء مؤكد

يوجد كلام

وخوف

وبالطبع أمل.

يعتقد العابر أنه اقترب

والعاشق أنه وصل

ولا توجد رائحة للطعام”

(كن شجاعا هذه المرة، ص٢٥).

ولا يكتفي الشاعر بالوقوف بالرائحة عند حدود الهوية، لكنه يصل بها إلى ما هو أبعد من ذلك بحيث تكون أصلا للوجود. فإذا ما تجرد الإنسان من تجاربه وخبراته وثقافته، وإذا ما نحى العقل والمنطق جانبا، وإذا ما تخلي عن قوته، وعن الآخرين، ووقف وحيدا أمام عينيي حبيبته لا يحمل سوي حبه وبراءته الأولي، فإنه حتما سيشتم رائحة البداية البكر للإنسانية التي أهال عليها تاريخ الصراع والكراهية طبقات كثيفة من الغبار الذي أعمي البصائر وطمس الحقائق فذابت الحدود بين الإنسان والوحش.

فيقول داود في قصيدة بعنوان “رائحة”:

” أكون في أفضل حالاتي

حين يختفي الناس

وتهبط سحب البراءة مع الضوء

أكون علي راحتي تماما

وأتكلم مثل المجاذيب

لأنني ضعيف أمام بلاغك عينيك

لأنني في حضنك أشم رائحة الخلق

رائحة أول الخلق”

(كن شجاعا هذه المرة، ص٧٥).

إن إلحاح إبراهيم داود علي استخدام ألفاظ بعينها من قبيل الموسيقي، الرائحة، الليل، الشتاء، لا تفسره الصدفة المجردة ولا محض حبه لهذه الألفاظ، وإنما يفسره ذلك الاتساق المحكم والواضح بين مفردات داود وبين أغراضه الشعرية وهمومه الذاتية، فالشعور بالحزن والوحدة والفقد يناسبه، بغير شك مفردات تعبر عن معاني الزوال مثل الموسيقي والرائحة، اللتان لا تمكثان طويلا في الزمان، أو معاني الخوف والرهبة مثل الليل والشتاء بالرغم من أن ليل الشتاء طويل، غير أن الشتاء في ذاته فصل قصير نسبيا قياسا بالصيف.

إن الحياة نفسها التي عاشها داود داخل مقاهي وسط البلد لم تكن تتسم بالثبات والاستقرار بقدر ما كانت حياة ، تشبه غانية نذرت نفسها للعابرين، الباحثين عن معني لمستقبل غامض، فكل العلاقات سريعة الزوال، والشعور بالفقد والحنين إلي الأصدقاء هو السمة الغالبة والمميزة لشعرية داود. غير أن المفارقة، فيما يبدو، تكمن في أن شاعرنا، الذي علمتنا قصائده كيف نضبط إيقاعنا مع إيقاع الحياة، لم يشأ لإبداعه أن يُكتب له الزوال، فكان حريصا علي أن يكتب بإيقاعه هو، الهادئ، البطيء، وأن يرغم الحياة نفسها علي أن تضبط إيقاعها مع إيقاعه، حتي يتحقق لقرائه ومحبيه نوع خاص من الموسيقي تعينهم علي التريث قليلا ومحاولة الإمساك باللحظات الأصيلة العابرة قبل أن تضيع في عالم مصاب بجنون الفرجة ولوثة الاستعراض!

 

 

 

 

 

 

 

 


أضف تعليق