د.ماهر عبد المحسن
نحت المفكر الكبير مراد وهبة مصطلح “ملاك الحقيقة المطلقة” فى كتاب يحمل نفس الإسم للتعبير عن فكر التيارات الدينية، وسار على نهجه الكثير من المثقفين الذين شغلتهم قضية نقد التيارات السلفية التى تعتمد على النقل وتعمل بظاهر النص. وهم بهذا المعنى ملاك للحقيقة النظرية التى لا يرتضون غيرها، هذا على فرض صدق منتقديهم.
غير أن الواقع يقدم لنا لونا آخر من الملاك لا يقل أهمية وخطرا، بل ربما يفوق ملاك الحقيقة، وهم ملاك الحياة المطلقة. الحياة الناعمة، الرغدة، السعيدة، التى لا يعكر صفوها سوى الخارجين عن هذه الحياة، المتطلعين على استحياء إلى شىء من هذه الحياة المستقرة الآمنة. ملاك هذه الحياة هم نجوم الفن والرياضة والإعلام، الذين يملأون شاشات التليفزيون ومواقع اليوتيوب، ويقتحمون حياتنا كالجيوش الجرارة فى شهر رمضان من كل عام. يقتحمونها فى أبهى صورة، مستعرضين مظاهر ترفهم من كل الزوايا، حريصين دائما على صناعة اسطورتهم الوهمية، وإعادة إشعال نجمهم الذى خبا أو كاد.
ملاك الحياة المطلقة هم الذين يحصدون الملايين لقاء ساعات قليلة يقضونها فى تصوير المسلسلات والإعلانات والأفلام المزمع عرضها فى عيد الفطر المبارك عليهم. هم الذين يلقونك والابتسامة المفخخة لا تفارق وجوههم التى أنهكها الطلاء، وألسنتهم لا تكف عن ترديد نفس الكلمات الوطنية والأخلاقية والإنسانية التى تحث الكادحين على التبرع بجنيهاتهم القليلة، التى حصلوها بالعرق والألم، لمعاهد الأورام ودور المسنين وبنوك الطعام. هم الذين يحرصون على التقاط الصور بجوار الأطفال والمرضى والمصابين، وهم يغنون ويرقصون ويمثلون، رافعين راية الانتماء والوطنية كأى محارب دفن حياته فى رمال التضحية.
ملاك الحياة المطلقة هم الذين يتواطأون مع رامز جلال كل عام فوق ناطحات السحاب وفوق الملايين كى يدوسوا على المواطن المسحوق تحت الأرض وتحت الصفر فى تمثيلية هزلية هم الطرف الرابح فيها. هم الذين طالبوا بحرق شباب الثورة، وبكوا على ضياع أملاكهم وجنانهم الوارفة، فعملوا جاهدين على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء حتى لا يفقدون وجودهم الذى لا يترعرع إلا فى المناخات الفاسدة. هم، ويا للمفارقة، الذين نحبهم ونضع صورهم فوق ملابسنا ونعلقها فى غرف نومنا، لكنهم، وللأسف، لا يبادلوننا نفس الشعور، ولا يتورعون عن التضحية بنا فى أول محك يقابلهم، مضحين بحياتنا البائسة التى تاجروا بها على الشاشة، خائنين لمبادئهم وشعاراتهم التى رفعوها لتجميل وجههم القبيح.
هذه هى الحقيقة المطلقة التى لا يملكها أحد سوانا، والتى لا ينبغى أن ننساها أو نفرط فيها، مهما أحببنا النجوم وعشقنا الأضواء.

