د. ماهر عبد المحسن


تعتبر المعارك الفكرية والأدبية واحدة من السمات المميزة للثقافة العربية فى النصف الأول من القرن العشرين خاصة فى الفترة ما بين الحربين العالميتين على نحو ما يؤسس كتاب ” المساجلات والمعارك الفكرية” لأنور الجندى، وهو من الكتابات الرائدة فى هذا السياق، وكان بمثابة نقطة الانطلاق للعديد من الدراسات الأكاديمية التى أنجزت بعد ذلك.
وانحصار هذه المعارك فى هذه الحقبة من الزمن هو ما جعل البعض يتسائل عن سبب اختفاء هذا الشكل الديناميكى من أشكال الثقافة العربية فى عصرنا الراهن. والحقيقة أن المساجلات الفكرية والمعارك الأدبية استمرت حتى نهاية القرن العشرين، فمعركة “خرافة الميتافيزيقا” موضوع مقالنا دارت رحاها فى الخمسينيات، ومعركة “أولاد حارتنا” دارت فى الستينيات واستمرت حتى التسعينيات، ومعركة محمد أركون والشيخ الغزالى كانت فى السبعينيات، والشعراوى ويوسف إدريس كانت فى الثمانينيات. وفى كل الأحوال هى مازلت موجودة حتى الآن ربما بصورة أكثر شمولا وتنوعا من خلال وسائط جديدة تناسب روح العصر من قبيل الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعى.
إلا أن انحدار مستوى هذه المعارك هو ما يجعلنا نتحفظ على مدى جدواها وفاعليتها خاصة فى هذه اللحظة التاريخية الهامة من عمر الأمة العربية، وبعد أن اتخذت شكل المناظرات المباشرة، وأصبح يشارك فيها الجمهور العام من مختلف التخصصات والبيئات. والحل فى نظرنا إنما يكون من خلال الاستفادة من الوسائط الجديدة فى نشر هذه المناظرات مع استلهام روح الود والاحترام التى كانت تسود المعارك القديمة التى خاضها الرواد.
ولما كانت المعارك القديمة لا تخلو من حدة ومن عنف فى بعض صورها حتى أنها جاوزت الفكر لتنال من شخص صاحب الفكر وقناعاته المشروعة وأخلاقه وعقيدته، على نحو ما فعل العقاد فى رده على سلامة موسى، وكما تبدى فى مقدمة الجندى لكتابه عندما قسم الأدباء والمفكرين من أطراف المساجلات إلى فئتين: واحدة ضالة ومضللة تردد شبهات وأباطيل الغرب الاستعمارى، والأخرى هادية تحمل لواء الدفاع عن اللغة والدين والأخلاق. نقول إنه ينبغى التخلى عن هذا الشكل من المعارك، ولنبحث عن نموذج آخر يعتمد الحوار أساسا للأخذ والرد، ويكون قادرا على قبول الآخر واستيعاب أفكاره ومنجزاته الثقافية مهما تصادمت مع قناعاتنا وأحكامنا المسبقة.
وعندما بحثت عن هذا النموذج لم أجد أنسب من المفكر الكبير محمود أمين العالم، الذى اختلف مع طه حسين وزكى نجيب محمود، واستطاع أن يعبّر عن اختلافه، ويفند آراء من خالفهما بالحجة والمنطق مع احتفاظه بكامل احترامه وتوقيره لهما.
وفى هذا السياق نقول إن كتاب “خرافة الميتافيزيقا” لزكى نجيب محمود قد تعرض للهجوم الشديد من قبل الغيورين على الدين باعتباره يدعو إلى هدم الدين عندما يعتبر العبارات الأخلاقية والدينية “لا معنى لها” فى ظل تبنية للوضعية المنطقية. ولأن مفكرنا الكبير لم يكن معنيا بالدخول فى معارك الفكر ومساجلاته قدر عنايته بنشر أفكار الوضعية المنطقية التى آمن بمبادئها، فقد عدل من عنوان الكتاب فى طبعته الثانية ليكون “موقف من الميتافيزيقا” بدلا من “خرافة الميافيزيقا”، واكتفى بأن يوضح فى مقدمته أن سوء فهم الكتاب إنما أتى من خلط المنتقدين بين الفلسفة والدين، فالأولى تعتمد على البحث والنقد بينما يعتمد الأخير على الإيمان والتسليم، وكلاهما صحيح غير أن المنهج مختلف.
والملاحظ أن محمود أمين العالم لم يتعرض لهذا الكتاب تحديدا بالنقد، ولكن ناقش أفكاره على نحو ما وردت فى مقال زكى نجيب محمود ” ثورة فى الفلسفة الحديثة” الذى نشر فى مجلة “المجلة”، وذلك فى كتابه “معارك فكرية”. ولم يكن العالم معنيا بالدفاع عن الدين، وإنما بالدفاع عن الفلسفة، فلم يقع فى شرك الخلط بين الفلسفة والدين الذى أشار إليه زكى نجيب محمود، وجاء نقده تحليليا علميا على نفس مستوى الطرح الذى قدمه زكى نجيب محمود. فيتساءل: ماذا تخدم هذه الفلسفة عندما تسعى لتدير ظهر الفيلسوف المعاصرعن الحياة ولتحنى رأسه فوق العبارت اللغوية؟ .. إنها بهذا تحرمنا فى الحقيقة من الفلسفة باسم الفلسفة، وما أشد حاجتنا إلى الفلسفة، الفلسفة بحق التى تهبنا النظرة الشاملة للحياة، التى تربط بين أفكارنا وأعمالنا، وتعمم خيراتنا الإنسانية كما تعمم نتائجنا العلمية. إن العالم ينطلق فى نقده من فهم خاص للفلسفة يتناسب واللحظة التاريخية التى كانت تمر بها الأمة، لأنه كان يمتلك وعيا سياسيا وتاريخيا واجتماعيا يأبى إلا أن يربط الفلسفة بالواقع.
والحقيقة أن أهم ما يميز نقد العالم إنما هو أخلاقيات الحوار التى لم تتطرق إلى شخص زكى نجيب محمود، بل على العكس لم يكن يذكر اسمه إلا مسبوقا بلقب “دكتور”. ليس هذا فحسب، بل أن العالم عندما تلقى ردا على نقده للوضعية المنطقية من قبل اثنين من تلامذة زكى نجيب محمود كتب يقول: أحب أولا أن أشكر للأستاذين الفاضلين ردهما الموضوعى على مقالى، وأعبر لهما عن صادق تقديرى لحماسهما لقضية الفلسفة، وأتطلع إلى اليوم الذى تصبح فيه هذه القضية موضع اهتمام لجماهير شعبنا.
فالفكرة كانت هى دائما التى لها الصدارة وليس الشخص عند العالم، وهى القيمة التى مازالت مهدرة فى معظم نقاشاتنا اليوم، خاصة فى ظل انتشار الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعى.




أضف تعليق