د. ماهر عبد المحسن
تعتبر وسائل النقل العامة عوالم مستقلة، لها ملامحها الخاصة التي تميزها عن غيرها من العوالم والمجتمعات. كما أن لها أناسها الذين ينتمون إليها ويعكسون ألواناً خاصة من الثقافة والتفكير. فالمواصلات العامة ليست مجرد وسائل للنقل، لكنها أصبحت ميداناً مألوفاً للممارسات الإنسانية، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل والعاطفية الرومانسية أيضاً.
وفى كل الأحوال تحكم هذه الممارسات أخلاقيات معينة، تختلف من وسيلة نقل لأخرى، حتى أننا يمكننا التمييز بين أخلاقيات للملاكي، وأخلاقيات للأوتوبيس، وأخلاقيات للميكروباص، وأخلاقيات للمترو، وهكذا..
وفى هذا السياق، سنعرض لبعض التأملات الفلسفية التي كانت وليدة لخبرتنا الذاتية بهذه المركبات.
1- فلسفة الميكروباص
الميكروباص ليس مجرد وسيلة مواصلات . إنه أداة منهجية يمكن من خلالها تحليل ظواهر الفكر والسلوك لدى المصريين. فمن الناحية الاقتصادية والاجتماعية، يستخدم الميكروباص أناس ينتمون الى الطبقة الوسطى من الموظفين والنساء العاملات وطلبة المعاهد والجامعات .إنها الطبقة التي تنأى بنفسها عن معاناة الأوتوبيس، وفى نفس الوقت لا تستطيع أن تركب تاكسياً . والظاهرة الملفتة في هذا الصنف من الناس أنهم يركبون الميكروباص، و داخلهم شعور بالاختلاف عن الركاب الآخرين، وهو الأمر الذى يكشف عن تفاوت طبقي داخل الطبقة الواحدة، فهناك مثلا من يفضل الجلوس بجوار السائق ويدفع أجرة المقعدين الملاصقين للسائق حتى يحقق لنفسه شعوراً بالتميز والاستقلال عن باقي الركاب فى الميكروباص، وفى الحقيقة هو يريد أن يحقق لنفسه الشعور بأنه راكب تاكسى رغم أنه راكب ميكروباص ودافع أجرة ميكروباص . البعض الآخر يجلس بجانبك وهو يحرص على ألا يلمس شيئ من جسمك شيئاً من جسمه، إنه يريد أن يجلس بجانبك و يشعر بكامل وجوده دون أن يشعر بوجودك. وعلى العكس من ذلك تماماً، هناك من يستولى بجسده الضخم على المساحة المخصصة لك في المقعد المشترك بينكما بحيث تشعر بنفسك متطفلا عليه فى جلسته، إنه يريد أن يشعرك بوجوده رغم أنه لا يشعر بوجودك. هذا ويميل معظم الركاب للجلوس بجانب النافذة كالأطفال، ربما للفرجة على الطريق، وربما للتحكم فى كمية الهواء الداخلة فى الميكروباص . ولأن الميكروباصات فى الغالب لا يُخصص لها صبى للم الأجرة، خاصة في المسافات الطويلة، فتجد أن معظم الركاب يتهربون من عبء هذه المهمة ويلقون بأجرتهم إلى أول شخص يبدى استعداده للقيام بها، يتم ذلك على استحياء فى بعض الأحيان، ويتم بلهجة آمرة فى كثير من الأحيان . و هنا تنشأ مشكلة ميتافيزيقية أمام القائم بلم الأجرة، فإما تأتى كل الوحدات النقدية كبيرة مما يضايق الركاب، وإما تأتى كلها صغيرة مما يضايق السائق ، و فى كل الأحوال عليه أن يحل هو المعضلة بنفسه، في حين ينصرف الركاب عنه إلى أمور أخرى تشغلهم أكثر أهمية من وجهة نظرهم . ومن الناحية الثقافية، يختلف ركاب الميكروباص وتتنوع اهتماماتهم، ففى المقدمة يحاول سائق الميكروباص، وهو أمي فى الغالب، أن يفرض ذوقه الشعبي على الركاب فيقوم بتشغيل أغان ذات ألحان زاعقة وكلمات ركيكة لمطربين مغمورين، فى حين يحاول كل راكب أن يفلت من سيطرة هذا الذوق الفج بطريقته الخاصة، إما بالاستغراق فى الاستماع الى أغان ذات ذوق راق يناسب الراكب عن طريق الهد فون، أو بالاندماج فى قراءة القرآن الكريم ومحاولة تدبر معانيه، أو بالانخراط فى حديث جانبي، أو النوم ، أو التشاغل برؤية الشارع عبر النافذة . ومن الناحية الأخلاقية، يمثل السائق، رغم قلة تعليمة و ضحالة ثقافته، سلطة على الركاب، فهناك ميل فطرى لإرضائه من قبل معظم الركاب، وهناك فى المقابل رغبة من قبل السائق في ممارسة قدر من الهيمنة باعتباره المتحكم فى قيادة الميكروباص . وبهذا الاعتبار يمكن لسائق الميكروباص أن يرتكب ما شاء من المخالفات المرورية فى ظل تأييد غريب ومفضوح من قبل الركاب على اختلاف ثقافاتهم، ولا يستطيع أن يضع حدا لهذه الهيمنة سوى رجل السلطة الفعلي المتمثل في رجل المرور حتى لو كان مجرد أمين شرطة . وهكذا يمكن اعتبار الميكروباص صورة مصغرة للمجتمع المصري، يتحرك فيه الركاب ويتصرفون بحرية داخل مساحات ضيقة، فى حين يتحكم هو فى حركتهم الأكبر ويحدد لهم مصيرهم النهائي.
2- آلة الزمن
اعتبر نفسى كائناً ميكروباصياً، أقع فى المنطقة الوسط ما بين الكائن التاكساوى و الكائن الأوتوبيسى . فأنا لا أركب الأوتوبيس إلا نادراً، ولا التاكسى إلا عند الضرورة .. منذ أيام عثرت على أوتوبيس “فاضى” فى ساعة الذروة فى ميدان الجيزة، و نظراً لأن ميكروباصات الهرم كانت مزدحمة فقررت ركوب الأوتوبيس .. اخترت الجلوس علي الكنبة الخلفية بجوار النافذة، مكاني المفضل منذ أيام الجامعة .. بمرور الوقت بدأ الأوتوبيس فى الازدحام، ووجدتني محاصراً بحشد كبير من البشر، وعندما تفرست فى ملامحهم لاحظت أنها نفس الوجوه المتعبة التي كنت ألمحها فى طوابير العيش البلدى فى إمبابة و أنا صغير، وهي التي كنت أراها محتشدة أمام الجمعيات الاستهلاكية فى الكيت كات للحصول على فرخة مثلجة أو كيلو سمك بلطى متجمد، و هي أيضا التى كنت أراها تفترش الرصيف أمام دكان الحاج محمود “بتاع التموين” فى “بولاق أبو العلا” للحصول على الحصة الشهرية من الزيت والسكر والشاي الأرز والمكرونة والصابون ..إنها نفس الوجوه التى كانت تنتظر يوم واحد مايو لتجلس أمام التليفزيون وداخلها شعور عارم بالترقب والبهجة، وهى تنصت لخطاب الرئيس الذى سينتهى حتما بالإعلان عن منحة عيد العمال . كانت وجوه تثرثر و تردد نفس الكلمات، تفتى في كل شيء، وتنتقد كل شيء، فقط من باب التنفيس ، و كأن ثورة لم تحدث و شباباً لم يدفع حياته ثمنا للتغيير.. إنها وجوه خارج التاريخ، والأوتوبيس آلة للزمن، تنطلق يومياً بأقصى سرعة، لكن إلي الوراء !!
3- أسطورة الوقاحة أو ترعة المحمودية
صباح اليوم، وبينما كنت مستقلا مترو الأنفاق، قفزت بنت صغيرة فى سن الصبا من باعة المناديل إلى عربة المترو. كانت تحمل ملامح منغولية توحى بالتخلف، وترتدي ملابس ضيقة تبرز مفاتن تستحق الرثاء، وترسم على وجهها جدية مقيتة ممزوجة بعبوس مفتعل. أخذت تتحرك سريعاً بطول العربة جيئةً وذهاباً وهى تلقى بأكياس المناديل في وجوه الركاب بلامبالاة غريبة، وتغمغم متأففة بكلمات غير مفهومة، ثم تسب الدين بغير سبب وكأنها تبصق لبانة مهترئة من فرط المضغ.
بعض الركاب شعر بشيء من الخوف فلزم الصمت، والبعض الآخر، ولسبب غير مفهوم تعاطف معها فاشترى منها، والبعض الثالث انتابته حالة هيستيرية من الضحك.
البنت لم تكن متخلفة بالمعنى المنغولى، لكن بالمعنى العلمي والأخلاقي، وبالرغم من ذلك استطاعت أن تمثل سلطة لا مصدر لها سوى الثقة الزائفة بأنها تملك من الوقاحة والبلاهة ما يجعلها لا تخشى أحداً، وأن تترك في نفوس الركاب جميعهم أثراً ما قوياً، الذين خافوا والذين تعاطفوا والذين ضحكوا. وهذا هو حال المصريين تجاه أى ظاهرة، ثلاثة مواقف سلبية، استسلاميه، تهكمية، دون موقف رابع عقلي نقدى تأملي، يعيد إنتاج المشهد برمته، ليصدر تجاهه حكماً حقيقياً منصفاً يضعه فى حجمه الحقيقي، ويبنى على أساسه سلوكاً واعياً، مناسباً لطبيعة اللحظة الأسطورية فى الظاهر المتهافتة فى الحقيقة !!

