د. ماهر عبد المحسن


ما سر عبقرية الشاعر؟ ما الذي يميزه، كإنسان، عن أي إنسان آخر؟ كيف يمكنه أن يصوغ رؤية مختلفة عن العالم وينقلها إلى الآخرين بحيث تكون مصباحاً هادياً لهم يدفعهم إلى التغيير؟ كيف يمكن للشاعر المغترب أن يتواءم مع المجتمع الرافض لإبداعاته، وأن يقيم جسوراً للتواصل تدعمها الحاجة الإنسانية للعيش المشترك؟ هل يحتاج المجتمع الناهض إلى الشاعر؟ هل يحتاج الواقع المأزوم إلى الشعر؟
أسئلة عديدة طرحها الإنسان على نفسه منذ سنوات بعيدة، وأجاب عنها الفلاسفة والأدباء منذ سنوات بعيدة أيضاً. وفي ثقافتنا العربية أجاب عنها الدكتور مصطفى سويف منذ سبعين عاماً في أطروحته للماجستير، التي نشرت طبعتها الأولي عام ١٩٥١ فى كتاب بعنوان “الأسس النفسية للإبداع الفني”. ولما كانت الأسئلة مازالت مطروحة، وكأنها نمط من الميتافيزيقيا لا ينفصل عن وجود الإنسان، فإن الحاجة إلى إعادة طرح هذه الأجوبة تبدو ضرورية وملحّة، خاصة في ظل انهيارات مجتمعية كثيرة وتصدعات عنيفة في منظومة القيم.
الإبداع والأزمة الحضارية:
إن المشكلات الثقافية والحضارية في المجتمع العربي لم يزل معظمها بغير حل، ودور الإبداع بات في تراجع إزاء انسحاب الشاعر الحقيقي من المشهد، وتراجع الذائقة الشعرية لدي الجمهور في ظل وسائط جديدة فرضت على المتلقي أشكال إبداعية مبتسرة، ووصفات جمالية، أشبه ببرامج الطبخ، سريعة التحضير!
إن الانقسام الحاد داخل المجتمع الواحد حول القضايا الملحّة التي تؤرقه يعد واحداً من أبرز السمات التي تميز إنسان هذا العصر، لا أقول الإنسان العربي وحده، بل الإنسان في كل العصور وكافة الحضارات، فاللحظات المفصلية، غالباً، تفرض رؤى وتوجهات على أبناء المجتمع للخروج من النفق المظلم الذي يجدون أنفسهم فيه، وتبدو الحاجة للتواءم والاتفاق مطلباً عزيز المنال.
وتزداد صعوبة الموقف في ظل الشعور بالاغتراب و فقدان الأمان، مع غلق أبواب الأمل، ما يدفع الشباب إلى الانحراف، أو الانتحار. فالمسألة لها بعد حضاري وبعد نفسي، وقضية الإبداع ليست بالأمر البعيد، والحديث عن الشعر والشاعر ليس من قبيل الترف، لأن المسألة، فى التحليل الأخير، يمكن ردها إلى قضية “التجديد”، خاصة في ظل صراع محتدم بين الماضي والحاضر، بين القديم والجديد.
والحقيقة أن اختيارنا لكتاب د. سويف، إنما يرجع، بالإضافة لأهميته العلمية، إلى أهميته الثقافية والحضارية. فما يميز سويف هو حرصه على إجراء هذا الربط بين البحث العلمي من ناحية وبين الواقع الحضاري من ناحية أخري. وليس أدل على ذلك مما أورده في السطور الأولى من التمهيد الذي أعده للبحث عندما سعي إلى تأصيل اللحظة الحضارية التي تعيشها المجتمعات الإنسانية المعاصرة بالرجوع إلى تاريخ الأزمات في العالم القديم، فيقول:
“تجتاز الحضارات في صورتها الحالية محنة قاسية تشبه تلك المحن التي اجتازتها في بلاد الإغريق في القرن الثالث ق. م، وفى الجزيرة العربية في القرن السادس الميلادي، وفى أوربا في القرن الخامس عشر. ووجه الشبه بينها هو هذا التداعي الذي يصيب نمطاً عريضاً من أنماط الحياة اعتاده الناس وألفوا العمل والإدراك من خلاله، وهذا البزوغ للون جديد لا يكاد الناس يعلمون من أمره شيئاً ” (د. مصطفى سويف، الأسس النفسية للإبداع الفني، القاهرة، دار المعارف، ط٤، ص١).
ولا يقف الوعى الحضاري لدي سويف عند تأصيل الأزمة وتشخيصها من خلال تقديم رؤية كلية لتاريخ الأزمات والمحن في المجتمعات العربية والغربية، لكنه يمتد ليشمل التعرّض لموقف الناس من قضية التجديد، ومدي شعورهم بالأزمة، فيقول:
“وهناك وجه شبه آخر ربما كان أشد خفاءً من الأول، ألا وهو اتجاه الناس نحو هذه المحن، وموقفهم منها، فهم منقسمون فيما بينهم إلى فريقين متباينين، فريق يرون القديم ينهار ولا يرون الجديد ينشأ جنباً لجنب مع زوال القديم، وفريق يرون الانهيار ولكنهم يرون كذلك كيف تنساب بعض أجزاء القديم في الجديد وتساهم في بنائه” (الموضع نفسه).
لا شك أن اللحظة الحضارية التي يضعها سويف موضوعاً للبحث هي لحظة مأزومة بامتياز، لأنها تحمل في طياتها انهياراً على كافة الأصعدة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية، بحيث تتضافر جميعها، وتؤدي في النهاية إلى عجز عن الفعل، ينتاب الأفراد والمجتمعات. وكباحث في علم النفس، يلخص سويف الأزمة في اختلال يؤدي إلى عدم القدرة على التكيف، ومن ثم العجز عن الفعل. فالتحول من القديم إلى الجديد يستوجب تحولاً في طرق التكيف، بحيث تكون هناك وسائل جديدة تناسب التغيرات الجديدة، فنقرأ:
“… فالقول بأن حضارتنا الحديثة قد أصابها بعض الاختلاف، مما أدى إلى انهيار بعض القيم هي مظاهر الصلة بين الأنا وعناصر البيئة، هذا القول لا يعني أكثر من أن عملية التكيف التي كانت قد اختطت لنفسها طرقاً معينة هي بسبيل تغيير هذه الطرق” (المرجع السابق، ص٥).

وهو يطرح فكرته في سياق اجتماعي نفسي إبداعي، بمعنى أنه يمهد بكلامه عن التجديد للحديث لا عن الإبداع الشعري، موضوع الدراسة فحسب، لكن للحديث عن علم النفس التجريبي، منهج الدراسة، كذلك، باعتباره منهجاً جديداً في تناول الظاهرة الفنية بعامة، و الشعرية بنحو خاص، فيقول، معبّراً عن صور التكيف مع الواقع الجديد:
“ومن الطبيعي أن تسود مرحلتنا الحاضرة مظاهر الانطواء ما دامت هذه المرحلة خطوة نحو تكيف جديد، وفى استطاعتنا أن نعتبر نهضة العلوم الإنسانية، أعني العلوم التي تجعل الإنسان موضوعاً لها كعلم النفس وعلم الاجتماع بوجه خاص مظهراً من بين هذه المظاهر” (ص٥).
وإذا كان التكيف، فيما يرى سويف، هو الأساس الذي تنبني عليه قدرة الإنسان على التحول من القديم إلى الجديد، فهو أيضاً السبيل الذي يمكن من خلاله الربط بين الفن والحياة، فما هي علاقة التكيف بالفن؟ وما علاقته بالحياة؟
يجيب سويف قائلاً:
“والتكيف أو التوافق بهذا المعنى غاية النشاط الفني، كما أنه غاية كل نشاط حي… وفي غمرة هذه العمليات، نجد الإبداع الفني عملية يقوم بها الفنان في طريقه نحو التكيف، وكذلك في أي ميدان بالنسبة لأي عبقري. والعبقرية ليست سوى ضرب معقد من التكيف لأنها تتم في مجالات غاية في التعقيد، واختلاف الإبداع عن سائر العمليات التي يمارسها الحي اختلاف في الدرجة فحسب، لا في النوع. من ذلك يبدو أن النشاط الفني من حيث هو عملية، تمتد جذروه في أعماق الحياة” (ص٥٤).
وإذا كانت العبقرية هي ضرب معقد من التكيف، فكيف يمكن أن نفهمها بهذا المعنى؟ بعبارة أخرى، ماهي العناصر المعقدة الداخلة في صميم الشخصية العبقرية بحيث تجعلها تتكيف مع المجتمع بنحو مختلف عن الإنسان العادي؟
وإذا كان سويف قد ذكر أن اختلاف الإبداع عن سائر العمليات الأخرى التي يمارسها الكائن الحي هو اختلاف في الدرجة لا في النوع، فما هي الصورة التي تأتي عليها أنشطة المبدع في سبيله نحو التكيف؟
يحتاج الأمر إلى دراسة مفهوم العبقرية بعامة، و عبقرية الشاعر بنحو خاص لمعرفة الإجابة. وهذا ما سنتناوله في السطور التالية…
مفهوم العبقرية:
في تحديده لمفهوم العبقرية يعتمد سويف في منهجه التجريبي على شهادات ورسائل المبدعين حول نشاطهم الإبداعي، وينطلق في تحليله من رؤية تكاملية تجمع بين البعدين النفسي والاجتماعي.
وتتبدي براعة التحليل في القدرة على هذا المزج الموفق بين عنصرين متباعدين يدوران في فلك ظاهرة واحدة معقدة، أعني ظاهرة الإبداع.
وفي هذا السياق، يرتكز سويف على فكرة التكيف من ناحية وفكرة ارتباط الفن بالحياة من ناحية أخرى، وهما الفكرتان اللتان اشتغل عليهما في المباحث الأولى من الدراسة.
ويخلص في نهاية التحليل الي أن الشاعر يحتاج إلى الآخر، أي إلى المجتمع، وهو ما يطلق عليه “النحن”، وعن هذا المعنى يقول:
“إن ما يدفع العبقري إلى حركته هو قوة الحاجة إلى النحن، وإن هذه القوة نفسها لتبدو في حياة أبناء المجتمع ممن ليسوا من العبقرية في شيء، تبدو في هذه الرابطة المتينة الخفية التي تربط بينهم، والتي تجعل من الحياة الاجتماعية ضرورة للإنسان، تتخذ أشكالاً مختلفة باختلاف شتى الظروف البالغة التعقيد، لكنها على كل حال هي هي من حيث دلالاتها الدينامية، ولو أن ما يسود من توازن، إلي حد ما، يخفى الأعماق الكامنة وراءه” (ص١٥٤).
والشيء المهم في هذا الاستنتاج أن سويف يساوي، بشجاعة يُحسد عليها، بين العبقري والإنسان العادي، كما سبق وأن ساوي بين العملية الإبداعية وباقي العمليات الحيوية الأخرى التي يقوم بها الكائن الحي. وهو في سلوكه هذا إنما يرتد بالعبقري إلى أصوله الإنسانية الأولى، و بالعملية الإبداعية إلى أصولها الحيوية الاولي كذلك. ولكي نقف على الكيفية التي توصل بها سويف إلى نتائجه النهائية، ينبغي أن نرتد نحن أيضاً، فيما يشبه تقنية الفلاش باك، إلى بداية التحليل.
من خلال النصوص التي أوردها سويف للشاعر شلي، استطاع أن يكشف عن الرابطة العميقة التي تربط الشاعر بالمجتمع، وتفسر المدي الكبير لحاجة الشاعر للمجتمع، ففي أحد النصوص يعبّر شلي عن غضبه من الاضطهاد، لأن المضطهد يسئ إلى من لا يرغب في إساءته، ويفهم سويف النص على أنه “محاولة من الشاعر لأن يقرب الآخرين منه، ومن أعماقه” (ص١٤٤).
وفي نص ثان يتبدى رفض الشاعر لسماع بعض آراء الآخرين في شعره خوفاً من أن تشغله عن مواصلة الإبداع، ويرى سويف أن هذا السلوك يعكس اهتماماً بالغاً برأي الآخرين في شعره.
ويبدو للوهلة الأولى أن تحليل سويف لنصوص شلي تأتي مخالفة لما توحي به، لأن الشعور بالاضطهاد من ناحية، ورفض سماع آراء الآخرين في شعره من ناحية أخري مسألتان توحيان بنفور الشاعر من المجتمع وشعوره بالاغتراب تجاهه، لكن سويف، فيما نرى، إنما كان معنياً بالتأكيد على حضور الآخر في وعي الأنا الشاعرة، وأن هذا الحضور يعكس رغبة دفينة في القرب من الآخر، ومن الانخراط في المجتمع، رغم فساده، والعمل على إصلاحه. يتضح ذلك في النص الثالث، الذي علق عليه سويف قائلا:
“… فهو يتصل بحركة الشاعر نحو الآخرين ليؤلف بينهم وبينه في نحن، ويتضح ذلك من قوله إنه يحمل بين جوانحه شهوة لإصلاح العالم، أي لتغيير الآخرين، وهو في هذا السبيل يحاول أن يقرّب المثل الأخلاقية العليا إلى أذهان الخاصة من قراء الشعر، يقرّبها كما يستطيع هو كشاعر، إنه يريد أن يصلح العالم لأنه غير صالح، فالآخرون منغمسون في الفساد وهو المصلح الذي سيعمم ما يرى من موجبات للصلاح فيؤلف بين الجميع في جو صالح” (ص١٤٥).
ومن خلال وجه آخر من أوجه علاقة الشاعر بالمجتمع تأتي مسألة “الشهرة” التي يسعى إليها المبدع، والتي تحقق له المكانة وتضفي على إبداعاته المشروعية. ولا يخفى أهمية الشهرة بالنسبة للشاعر، وإن ادّعي غير ذلك، كما أن الواقع يثبت أن كثير من الشعراء، الذين لم ينصفهم النقاد، حصلوا على المكانة والتقدير من قبل الجمهور. وفي هذا السياق، يتحدث سويف، من واقع تحليله لنصوص الشاعر كيتس، عن أهمية الشهرة بالنسبة للشاعر التي تصل إلى حد الرغبة في أن تمتد إلى الأجيال القادمة، فهي عامل مؤثر في إثبات الوجود في حياة الشاعر، وفى تأكيد الخلود بعد مماته، فنقرأ في هذا المعنى:
“… والشهرة طبعاً هي أن تسود “دعوته” ويتقبلها أكبر عدد ممكن من أبناء المجتمع، إن لم يكن جميعهم، وقد يصل حلم الشاعر إلى أن يكون مع الأجيال التي لم توجد بعد “نحن” كما هو واضح في النص الأول من بايرون، أما عن أن كيتس كان يورد في خطاباته بعض أجزاء من قصائده فحركة من الأنا نحو الآخر واضحة الدلالة” (ص١٤٦).
وفي السياق نفسه يطرح سويف ظاهرة “الصالونات الأدبية” على بساط البحث، باعتبارها وليدة ظروف اجتماعية واقتصادية ونفسية. فقد ظهرت الصالونات الأدبية، في المجتمع الأوربي، في القرن التاسع عشر عندما اعتلت الطبقة الوسطى الحكم، واهتمت بتثقيف أبنائها ثقافة عملية تعينهم على تحقيق الربح المادي والعيش الرغيد، وبدا المثقف الحقيقي الذي يهتم بقضايا الأدب والفن والفلسفة مغترباً داخل مجتمع لا يولي هذه المجالات اهتماماً كافياً ويرى فيها نوعاً من الترف، وربما اللهو مادامت الثقافة لا تصب في صالح شهوات البدن، ولا تستجيب لمطالب الإنسان المادية اليومية. ونفس الشيء يمكن أن يُقال عن الطبقات الكادحة التي تستغرق حياتها كلها في البحث عن أسباب العيش اليومية، التي لا تجاوز المأكل والمشروب والملبس والمسكن. وبهذا المعنى، لن تجد، في الغالب، فيمن ينتسبون لهاتين الطبقتين من يسعى إلى أن يكون شاعراً أو فناناً أو فيلسوفاً.
ولما كان الأمر على هذا النحو، فقد ظهرت فكرة الصالونات الأدبية التي لا تضم سوي المبدعين والمهتمين بالثقافة الحقيقية، بحيث يسمع بعضهم بعضاً، و يتبادلون الرأي والفكر فيما يصدر عن عبقريتهم الخاصة التي لا تجد الاحتفاء والتقدير المناسبين من المجتمع الغارق في ماديته، خارج الصالونات. ووفقاً لنصوص شيلي وكيتس، يحلل سويف الظاهرة من الناحية السيكولوجية قائلاً:
“غير أن هذا الموقف غير محتمل، ولابد أن توجد حالة توازن تضم الأنا في نحن فتحقق له الاستقرار، وليس من سبيل إلى تكوين النحن لا مع أبناء الطبقة الدنيا ولا مع أبناء الطبقة الوسطى من العاديين، و السبيل إذاً أن يتجمع هؤلاء المثقفون ذوو الثقافة الضخمة وأن يقرأ بعضهم لبعض وأن يتذوق بعضهم لبعض، وهكذا وُجدت الصالونات. وحققت الصالونات “مناخاً سيكولوجياً صالحاً” لحياة الأدباء، والنحن ما هي إلا فلك يتحقق فيه هذا “المناخ” الصالح لحياة الأنا. ولم يكن الأدباء يحتملون الانصراف عن هذه الصالونات. ففي خارجها الجهل والتخبط والانصراف عن كل ما يمت إلى الثقافة بصلة” (ص ص١٤٧-١٤٨).
ويري سويف أن ما حدث في أوربا القرن التاسع عشر يصدق على مصر أوائل القرن العشرين. والحقيقة، فى نظرنا، أنه يصدق على مصر القرن الحادي والعشرين كذلك. ففي دورة تاريخية تعيد نفسها من جديد، يقف المثقف العربي بعامة، والمصري بنحو خاص، ذات الموقف المغترب، فيؤثر العزلة، ولا يجد من يفهمه أو يشاركه الاهتمام سوي المثقفين والمبدعين الآخرين الذين يشبهونه، ويستشعرون الغربة نفسها، خاصة في ظل تدني المستوى العلمي والثقافي واتجاه الإنسان العادي، حتى المتعلم منه، إلى وسائل التواصل الاجتماعي حتى ينهل منها قشور الثقافة ويتعاطى مع توافه الأمور. لقد تحولت الثقافة إلى مجموعات بشرية متشظية، تجتمع بانتظام في أماكن مغلقة، نوادي أو مكتبات أو بيوت للمثقفين، كي تعرض إنتاجها الأدبي والفني والفكري على الحضور من المثقفين الآخرين لتحليلها وتذوقها ثم إبداء الرأي فيها، دون أن تتماس هذه الأعمال مع المجتمع الخارجي وقضاياه الملحّة. والظاهرة، بهذا المعنى، تحتاج إلى إعادة تنظيم بحيث يعود الآخر إلى الأنا ليشاركه اهتماماته داخل الصالونات، وتخرج الأنا من كهفها المغلق إلى خارج الصالونات كي تشارك الآخر همومه الحياتية، خاصة أن خلو الساحة الاجتماعية من المثقفين الحقيقيين منح الفرصة لقليلي التعليم وأشباه المثقفين للسيطرة على عقول الناس من خلال القنوات الفضائية ذات الانتشار الواسع، ومواقع التواصل الاجتماعي ذات المشاهدات العالية!
ويواصل سويف رصد وتحليل الظواهر المحيطة بالعملية الإبداعية، والتي تعكس حاجة الشاعر إلى الآخر. وتعد المرحلة التالية على العملية الإبداعية من المراحل ذات الأهمية الخاصة، والتي لا تقل في أهميتها عن النشاط الإبداعي نفسه، بل قد تصل إلى أن تكون جزءاً من الإبداع، لأنه الجزء الاجتماعي القيمي، الذي يضفي على العمل القيمة والأهمية، ونعني بها مرحلة التلقي.
وتبرز أهمية التلقي، ودور القارئ في فهم العمل واستخلاص الدلالة من خلال مدارس النقد الحديثة التي اهتمت بفعل القراءة وآليات الفهم والتأويل. وقد عُرف، منذ القدم، حرص الشاعر علي أن يعرض شعره على الآخرين (صديق، أو مجموعة أصدقاء، أو ناقد) لمعرفة رأيهم ومدي تأثير إبداعه فيهم. فما هو التفسير النفسي لهذا الحرص؟ ، يقول سويف:
“… هي محاولة بناء “نحن” ، فإن رضا الآخرين عن قصيدته وقبولهم لها، معناه أن الآخرين قد تغيروا بمعنى ما، بحيث أصبحوا أقرب إليه مما كانوا من قبل، وقد يسرت القصيدة هذا الاقتراب، وعلى هذا الأساس يمكن أن نفسر إلحاح الشاعر في أن يعرض أعماله علينا، فإن النحن لن تتحقق إلا بأن يجد على الأقل “شخصاً يحترمه” يتلو عليه ما أبدع على شريطة أن يتذوق هذا الشخص ما قُدم إليه، وأن يرضى عنه” (ص١٤٨).
تصدق هذه الظاهرة كثيراً وتبرز هذه الأيام في ظل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يحرص الشاعر علي أن ينشر قصائده على حسابه على الفيس أو في “الجروبات” المتخصصة في الشعر، والتي هي بمثابة صالون أدبي افتراضي، وينتظر ردود أفعال الأصدقاء من خلال عدد التفاعلات التي يحصل عليها منشوره الشعري. وعلى أساس حجم هذه التفاعلات يقيس حجم نجاحه، ومدي قدرته على تحقيق التواصل مع الآخرين.
غير أن ما يعيب هذه الطريقة هو أن الحسابات الشخصية يدخلها الأصدقاء، فى الغالب، من منطلق التواصل الاجتماعي الخالص، ما يجعل المنشور الإبداعي يأخذ شكل المناسبة الاجتماعية أو الحدث الشخصي، الذي يستوجب الإطراء والتبجيل مثل وقائع الميلاد والوفاة والترقيات المهنية وأعياد الميلاد. ومن ثم تفقد هذه الخطوة معناه، لأن الشاعر لا يسعد كثيراً بالمتلقي الذي يبارك له على نشر قصيدة قدر سعادته بمن يقرأها ويتذوقها ويعبّر بالكلمات عن إعجابه بها والأسباب التي دفعته لهذا الإعجاب.
عبقرية الشاعر:
تحدثنا في السطور السابقة عن عبقرية المبدع بصفة عامة، من خلال تحليلات د. مصطفى سويف لنصوص الشعراء، وتبيّنا كيف أن مسألتي التكيف مع البيئة من ناحية، ومحاولة الاتجاه نحو الآخر (النحن) من ناحية أخرى كانتا بمثابة القوة المحركة والدافعة للمبدع تجاه القيام بإبداعه، لكن سويف يعود ليتساءل عن السمات التي تميز عبقرية الشاعر عن بقية المبدعين الآخرين، فيقول:
“قلنا من قبل إن حركة العبقري متّجهه إلى استعادة النحن في تنظيم جديد، غير أن المشاهدة تدلنا على أن لكل عبقري طريقه الذي يسلكه في هذا السبيل، فهذا يسلك سبيل العبقرية العلمية، وذاك يسلك سبيل العبقرية الفنية في التصوير أو الشعر أو الموسيقى، والبعض يسلك سبيل العبقرية السياسية، وهكذا. فماذا يحدد لكل هؤلاء العباقرة طريقه؟ أو بالأخص لماذا يكون العبقري شاعراً في بعض الأحايين؟ ” (ص١٥٧).
ولكي يجيب سويف على هذا السؤال، فقد استعان بفكرة الإطار كعامل نوعي لتحديد عبقرية الشاعر، والفرض الذي يضعه هو القول بأن هذه العبقرية في نوعيتها إنما ترجع لنوع الإطار الذي يحمله الشاعر، فما المقصود بالإطار؟، يقول سويف:
“… هو نظام تلتئم فيه خبراتنا مكونة أبنية متكاملة على حسب ما بينها من تقارب أو تشابه. فخبراتي بتذوق الأعمال الفنية تلتئم في كل إطار إستطيقي، وخبراتي بميدان البحوث العلمية تلتئم في إطار آخر، وخبراتي الناتجة من كثرة مشاهدتي للكتب تلتئم مكونةً إطاراً خاصاً، وهكذا. فنحن نحمل في نفوسنا عدداً وافراً من الأطر ننظم بها أفعالنا جميعاً، سواء أكانت تذوقاً أم إدراكاً أم أي فعل آخر” (ص١٦٣).
وتردنا فكرة الإطار، فلسفياً، إلى مفهوم” الوعى التاريخي الفعال” عند الفيلسوف الألماني المعاصر هانز جيورج جادامر، والذي يعني أن فهمنا للنصوص المعاصرة يتأثر بمعارفنا التي حصّلها الوعى في الماضي، وهي نفس الفكرة التي قال بها دكتور يوسف مراد (أستاذ سويف والمشرف على رسالته) عندما قال “… لابد أن يستخدم الشخص المدرك معلوماته السابقة وأن ينظر إلى الحاضر في ضوء الماضي” (مبادئ علم النفس العام، القاهرة، دار المعارف، ١٩٤٨، ص١٦٣، نقلاً عن سويف، ص١٥٨).
وتكشف تحليلات سويف لنصوص الأدباء في هذا السياق عن وعي المبدعين بأهمية الإطار، الذي يمثل البناء الداخلي، الفكري والثقافي، والنفسي للشخصية، ما يدفعهم، بوعي أو بغير وعي، إلى الاهتمام باستيعاب أكبر قدر من الأعمال الأدبية، والآثار الفنية التي تركها المبدعون السابقون، سواء في الماضي أو الحاضر، فكيتس يتجه معظم اهتمامه الي الاطلاع على الشعر، وشعر شكسبير بوجه خاص، و رودان، المثّال، ينصح بأن نهتم بمعرفة آثار الفنانين الذين سبقونا، لاسيما في الفن الذي يشغلنا أمره، و رامي يكثر من قراءة بايرون و لامارتين وشوقي بوجه خاص، وعبد الرحمن الشرقاوي، كذلك، يكثر من قراءة الشعر والأدب بعامة ويقف عند بعض الشعراء والأدباء بوجه خاص، و توفيق الحكيم كان يقرأ المسرحية مرتين أو ثلاثاً ليتتبع أسلوب الفنان، لأنه لم يكن يهتم بالموضوع قدر اهتمامه بالأسلوب.
ويعالج سويف قضية الإطار في سياق مشكلتين أساسيتين: الأولى تتعلق باكتساب الأديب الإطار عن طريق الاطلاع على الأعمال الأدبية خاصة، والثانية تتعلق باشتراط أن تكون عملية الاطلاع، الرامية لاكتساب الإطار، منظمة تنظيماً خاصاً.
بالنسبة للمشكلة الأولى، يستدعي سويف رأي يوسف مراد ذي الدلالة العميقة عندما يقول:
“إن لم يكن الشاعر أو الأديب أو الفنان ذا ثقافة واسعة، أجهد عقله في اكتسابها لما أتيح له أن يصوغ الآيات الفنية الخالدة التي تطوي الدهور طياً بدون أن تفقد روعتها، بل تزداد جمالاً كلما اتسعت آفاق الإنسان الثقافية، وأصبح أوسع فهماً وأنفذ بصراً” (المرجع السابق، ص٢٤٣، نقلاً عن سويف، ص١٧٤).
ويستكمل سويف الفكرة، لكن من منظور مختلف، يأتي من جهة الإنسان العادي الذي لا يحمل إطاراً أدبياً، ويكون بالتالي عاجزاً عن قرض الشعر، فيقول:
“… وكثيراً ما تمر بنا نحن الذين لسنا من الشعراء، لحظات تحمل موضوعات وآراء كان من الممكن أن تستحيل الي قصيدة رائعة، لكن هذه اللحظة لا تلبث أن تتلاشى، لأنها لا تكون ذات دلالة بالنسبة إلينا، إذ أن الإطار الأدبي غير متوفر لدينا” (ص١٧٥).
والحقيقة التي لا ينبغي أن نغفلها أن فكرة الإطار لا يمكن التعويل عليها بمفردها بحيث نعزي إليها مجمل العملية الإبداعية بنحو ما توحي به الفقرة السابقة. فلا شك أن الخلفية الثقافية والفكرية للشاعر لها دور كبير في الرؤية الإبداعية التي يقدمها، لكنها ليست أساس الإبداع، الذي يقوم على عناصر كثيرة ومعقدة، بعضها واع وبعضها غير واع، بعضها موروث وبعضها مكتسب، بعضها فردي وبعضها اجتماعي، بنحو ما سيرد في الفصل المتعلق بالإبداع في الدراسة نفسها.
ولا أدل على ذلك من أن الكثيرين ممن يعشقون الكتب ويقرأون الأدب بنهم لا يستطيعون كتابة الشعر، ليس هذا فحسب، بل أن النقاد الذين يطلعون على النصوص الشعرية بنحو قد يفوق الشعراء أنفسهم لا يستطيعون أن يكتبوا الشعر إلا إذا كانت داخلهم شعلة الإبداع، التي اختلف حولها الأدباء والمنظّرون، والتي تتميز عن أي لون من ألوان القراءة مهما كان قريباً من الشعر. فالقراءة قد تمنحك الرؤية والأسلوب، لكنها لن تستطيع أن تجعل منك شاعراً إذا لم تكن كذلك منذ البداية. فالموهبة، عموماً، هي هبة إلهية يودعها الله سبحانه وتعالى في قلب المبدع، ولا تُكتسب بالمران مهما اجتهد القارئ أو المثقف الذي يفتقر إليها.
وتتضح المسألة أكثر عندما ننتقل إلى المشكلة الثانية، والذي تتعلق بطريقة تنظيم الإطار. فالقارئ الموهوب، صاحب القدرة على الإبداع، يقرأ ويتذوق ما يقرأه بنحو مختلف عن القارئ العادي. فالمبدع يقرأ على النحو الذي يخدم أغراضه الإبداعية مثلما يقرأ الباحث على النحو الذي يخدم أغراضه العلمية. فقد كان كيتس يقرأ شكسبير بطريقة مختلفة عن أي قارئ عادي له، لأن قراءته كان لها توجيه خاص، ودلالة خاصة وضحت في الخطوط التي كان يضعها تحت بعض العبارات، والملحوظات الهامشية التي كان يكتبها، وكذلك العبارات والتشبيهات ذات الطابع الشكسبيري التي كانت تظهر في خطاباته وقصائده.
ويمكن أن يُقال الشيء نفسه بالنسبة لتوفيق الحكيم الذي لم يكن معنياً بالحكاية في الأعمال الأدبية التي كان يقرأها، قدر عنايته بأسلوب الكتابة وخلق الشخصيات ونسج الأحداث، وعندما أدرك أن غايته هي الحوار أخذ يبحث عنه، ويتتبع خطواته في كل ما يقرأ. ويقول سويف تأكيداً لهذا المعني:
“… ومن ثم فإن قراءتي لإحدى قصص جويس أو فرجينيا وولف لابد أن تترك لدي أثراً مغايراً لما تتركه لدي أصدقائي الأدباء الذين يقرأونها باتجاه خاص. والظاهر أن هذا الاتجاه يكون له أثره الفعال في جعل هذا الإطار منتجاً، فى حين أن الأطر التي يحصل عليها غير الفنانين من تذوقهم تكون غير منتجة” (ص ص١٨١-١٨٢).
ويُلاحظ أن ما ذكره سويف يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الموهبة هي التي تصنع الإطار وليس العكس. فالقراءة المجردة لا تجعل القارئ غير الموهوب مبدعاً، لكن الموهوب هو الذي يجعل القراءة منتجة. وفي كل الأحوال يخلص سويف إلى نتيجة هامة تمزج ما بين عبقرية الشاعر والإطار، بحيث تستوعب الأبعاد النفسية والاجتماعية للعملية الإبداعية، وتصلح آلية تأويلية لتفسير الكثير من ظواهر الفن والإبداع التي تحدث في عالمنا المعاصر، بالرغم من بعد المسافة الزمنية بيننا وبين تاريخ كتابة الدراسة، موضوع مقالنا، ما يعكس مدى خصوبتها وقدرتها على تجاوز العصر الذي كُتبت فيه.
أما عن النتيجة، فقد طرحها سويف على النحو الآتي:
“إن مهمة الإطار كعامل نوعي في عبقرية الشاعر لا تتضح إلا بأن نضع هذا الإطار في بناء شخصية تعاني توتراً دائماً من ضغط الحاجة إلى النحن. فإن مثل هذه الشخصية التي تبدو مدفوعة إلى استعادة النحن لابد منها كأرضية يقوم فوقها الإطار المبدع، بحيث يعين هذا الإطار الطريق إلى هذه الاستعادة” (ص١٨٣).








أضف تعليق