د.ماهر عبد المحسن


يجد القارئ غير المتخصص صعوبة فى التعاطي مع القضايا الفلسفية الكبرى، خاصة حين تعالج بأساليب مفاهيمية غامضة ومعقدة، لأنها، فى الغالب، تكون صادرة عن أساتذة أكاديميين درجوا على استخدام هذه المفاهيم دون شرح أو توضيح. وليس هناك شك في أن محاولة الخروج من هذا المأزق الإشكالي إنما تتطلب القيام بعملية إصلاح وتجديد للغة الفلسفية بما يتلاءم وذائقة القارئ العادي، وهى مسألة يطول شرحها وتحتاج إلى دراسات مستقلة تخصص لهذا الغرض.
غير أن العلاقة الإشكالية التي نجدها بين الفلسفة والجمهور العام لا تقتصر على صعوبة اللغة المستخدمة فقط ، لكنها ترتبط أيضا بتعقد القضايا التي تتناولها وبعدها عن الاهتمامات الحياتية للناس. ومن هنا تأتى أهمية التساؤل عن مدى إمكانية وجود فلسفة للحياة اليومية، تهتم بما هو آنى وعارض، لكنه يشغل مساحة كبيرة من حياة البشر.
لكى نجيب على مثل هذا التساؤل، ينبغي علينا أولاً أن نعرف لماذا ابتعدت الفلسفة عن الحياة اليومية للناس. والحقيقة أن معرفة الإجابة تكمن في تعريف الفلسفة نفسه. فالفلسفة، في أحد تعريفاتها الشائعة هي “البحث عن العلل البعيدة” ، ولا يخفى ما في هذا التعريف من دلالة على البعد والانفصال عن واقع الظواهر محل التأمل، ولعل أبرز مظاهر هذا الانفصال هو مفردات الحياة اليومية. وفى تعريف آخر وضعه أرسطو “الفلسفة هي العلم بالكلى” وهو أيضاً تعريف يميل إلى الوقوف على مسافة من العالم، لأن “الكلى” هو ذلك الذى يعلو فوق الجزئيات، ومنه تنشأ النظريات وتتكون المبادئ العامة.
والحقيقة أن التعريف الأقرب للحياة وللواقع، هو التعريف الاصطلاحي اليوناني الأكثر كلاسيكية، الذى ينظر إلى الفلسفة باعتبارها “محبة للحكمة” ، والمأخوذ من المقطعين اليونانيين “فيلو” بمعنى “محبة” و”صوفيا” بمعنى “الحكمة”. وهو التعريف الأقرب للثقافة العربية والإسلامية المتأسسة على النص القرآني المقدس الذى يعلى من قيمة ”الحكمة” بحيث يقرنها ب”الموعظة الحسنة” ويجعلهما السبيل الأمثل للوصول إلى هداية البشر الضالين. وفى هذا السياق يقول المولى عز وجل: ”ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة”.
ولكى نقرب المسافة التى بين الفكر والواقع، بين الفلسفة والحياة اليومية، فنحن فى حاجة إلى طريق مزدوجة ذات اتجاهين: البحث عما هو يومي في الفلسفة، وما هو فلسفي فى اليومي.
بالنسبة للحالة الأولى، فيمكننا أن نعثر على كتابات عديدة للفلاسفة، خاصة المعاصرين منهم، تتناول أموراً يومية لم يكن من المتصور، فى العرف الشائع، أن تكون موضوعاً للبحث الفلسفي. فنجد برتراند راسل يتناول قضية العمل وأوقات الفراغ من وجهة نظر جديدة وطريفة في مقال بعنوان ”في مدح الكسل”، وفيه يتوجه بالنقد للمجتمعات الصناعية الحديثة التي بالغت فى قيمة العمل حتى حولت الإنسان إلى محض ترس صغير فى آلة كبيرة لا تتوقف عن الحركة. وراسل، فى الحقيقة، لا يرفض العمل بإطلاق، ولا ينتقص من قيمته على نحو ما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة. ولكنه يرغب في إعادة الاعتبار لاهتمامات الإنسان الشخصية التي تشبع ميوله وهواياته وتشعره بإنسانيته التى فقدها في زحمة العمل والسعي المحموم نحو الربح المادي، خاصة فى المجتمعات الرأسمالية المتوحشة. فما يهدف إليه مقال راسل إنما هو تنظيم وقت الإنسان بحيث يحقق التوازن بين العمل والهواية، وهى مسألة تحتاج إلى توفير قدر معقول من أوقات الفراغ التى يفتقدها إنسان العصر الحديث.
وفى السياق نفسه نجد لدى هنرى برجسون كتاباً لا يخلو من طرافة بعنوان ”الضحك” يتناول فيه ظاهرة ”الضحك” من وجهة نظر فلسفية، يحاول من خلالها أن يجيب عن سؤال: لماذا نضحك؟ وهو سؤال صعب رغم بساطته الظاهرية، خاصة أن برجسون يتحدث عن الضحك كظاهرة إنسانية عامة وليس، فقط، باعتباره استجابة جماهيرية للأعمال الفنية الكوميدية. كما أنه تساؤل غير شائع أو أساسي فى المباحث الفلسفية. فأسباب الضحك كما يرى برجسون كثيرة ومتنوعة، لكنه يتوقف عند بعض الأسباب التى يمكن أن تخضع للتحليل الفلسفي، منها، مثلا، مسألة التناقض، فالضحك وفقا لهذا التبرير يأتى نتيجة لاحتواء الموقف الباعث على الضحك على شيء من التناقض غير المألوف وغير المتوقع بحيث يصدم الوعى بغته فتنفجر الضحكات. يحدث ذلك فى حالات كثيرة، كأن يتعثر رجل متأنق يشعر بالخيلاء فيقع على قارعة الطريق أمام المارة، أو نسمع طفلاً صغيراً يعنف أبيه لتأخره ليلاً خارج البيت، وهكذا.
ويعتبر رولان بارت من أكثر الفلاسفة المعاصرين الذين أولوا اهتماماً كبيراً للحياة اليومية، فكتب عن الموضة والأكل والتصوير الفوتوغرافي والإعلانات ورسائل العشاق فى كتب تحمل أسماء ”نسق الموضة”، ”إمبراطورية العلامات”، ”الغرفة المضيئة”، ”شذرات من خطاب فى العشق”. لكن يظل كتابه ”أساطير الحياة اليومية” هو الأكثر تعبيراً عن علاقة الفلسفة بالحياة اليومية، لأنه كان فى الأصل مجموعة من المقالات التي كان يكتبها فى إحدى الصحف الفرنسية بانتظام، وتم جمعها فى كتاب في مرحلة لاحقة. وكانت نقطة الانطلاق بالنسبة لبارت في هذه المقالات هى رصد وتحليل الظواهر اليومية المنتشرة في المجتمع ولها تأثير كبير على الإنسان المعاصر، بهدف الكشف عن الرسائل المضمرة فى هذه الظواهر خاصة أنها تمثل خطابات سلطوية تملى على المجتمع من أعلى دون أن يشعر الأفراد بذلك. ومن أكثر الأمثلة طرافة فى هذا السياق تناول بارت للعبة المصارعة وإعلانات المكرونة ومساحيق الغسيل.
هذه أمثلة لحضور اليومي فى الفلسفة، فإذا انتقلنا إلى حضور الفلسفي فى اليومي فيمكننا أن نعثر على أمثلة لا حصر لها، لكننا سنكتفى ببعض الأمثلة ذات الدلالة. ففى الأغاني، الفصحى منها والعامية، نجد حضوراً قوياً للفلسفة، ولعل أشهر الأغنيات فى هذا السياق الأبيات المعبرة عن الحيرة الفلسفية تجاه ظواهر الحياة والمصير التي كتبها إيليا أبو ماضي في قصيدته الشهيرة ”لست أدرى” التى لحنها عبد الوهاب وغناها عبد الحليم حافظ، ومن أبياتها ”جئت لا أعلم من أين ولكنى أتيت.. ولقد أبصرت أمامي طريقاً فمشيت.. كيف جئت؟.. كيف أبصرت طريقي؟.. لست أدرى!”. وهى تذكرنا بكلمات مرسى جميل عزيز في أغنية ”من غير ليه” التي لحنها وغناها أيضا موسيقار الأجيال، ومن كلماتها ”جايين الدنيا ما نعرف ليه، ولا عايشين ليه.. مشاوير مكتوبة لخطاوينا نمشيها فى غربة ليالينا.. يوم تفرحنا ويوم تجرحنا واحنا ولا احنا عارفين ليه”.
ويمكن أن نعثر على الفلسفة أيضا فى السينما، خاصة أنها فن يعتمد على السرد، وهى إمكانية تتيح فرصة كبيرة للتعبير عن قضايا فلسفية كبرى، خاصة ما تعلق منها بالحياة أو الموت. ويحضرني هنا فيلم ”بنى آدم” لنجم التليفزيون يوسف الشريف، الذى اشتهر بالأعمال البوليسية ذات الإثارة والتشويق. ففي هذا الفيلم مشهد معبر، ومشحون بالدلالات الفلسفية التي ربما تمر على المشاهد العادي دون أن يلتفت لها. فى هذا المشهد يجلس يوسف الشريف أو ”آدم” الشخصية الرئيسية فى الفيلم فوق كرسي هزاز فى مكان مفتوح، ينظر للأفق البعيد فى حالة من التأمل العميق، وتبدو ملامحه ثلجية بيضاء، ثم ينهض آدم من فوق الكرسي، ويمضى خارجاً من الكادر بينما يظل الكرسي الهزاز فى حالة حركة. ورغم بساطة المشهد إلا أن النظرة المدققة تكشف لنا عن معان ذات أبعاد ميتافيزيقية عميقة. ندرك ذلك عندما نعرف فى نهاية الفيلم أن آدم كان قد مات هو وأسرته في الثلث الأخير من الفيلم في حادث انفجار، وأنه كان يواصل حياته فى البرزخ دون أن يعي أنه قد رحل عن الدنيا وصار فى عداد الأموات، وما حركة الكرسي الهزاز إلا تعبير عن حالة ”البين بين” البرزخية التي تقع بين الحياة والموت، أو بين الموت والحياة الأخرى. وهى أيضا تعبير عن الطبيعة الإنسانية المتمثلة فى آدم، الذى كان يحمل فى داخله بذور الخير والشر، فقد كان زوجاً مخلصاً وأباً حنوناً، لكنه كان قاتلاً مأجوراً في ذات الوقت. كما تعبر حركة الكرسي الهزاز أخيراً عن التأرجح التصنيفي للفيلم الذى يقع في المنطقة الوسط بين السينما والتليفزيون، وهو نفس موقع يوسف الشريف الذى يتأرجح بين نجومية السينما ونجومية التليفزيون.
وإذا أردنا أن نأخذ مثالاً من الواقع فلن نجد أنسب من تجربة ركوب الميكروباص التى يعيشها المواطن العربي يومياً، وهى تجربة بسيطة لكنها محملة بالكثير من الدلالات الفلسفية. فمثلاً، إذا ركبت الميكروباص وكان السائق يقود برعونة ويمضى بسرعة كبيرة في الطريق العكسي مخالفاً قواعد المرور، ثم حدث أن احتك بسيارة أخرى قادمة من الطريق الصحيح، ونشب شجار بين السائقين، فسوف تلاحظ أن الركاب سوف ينحازون لسائق الميكروباص المخالف، رغم إدراكهم لجسامة الخطأ الذى أوقع نفسه فيه. والسبب، فلسفياً، يرجع إلى أن العقل الجمعى يميل بطبيعته إلى الانحياز للقائد حتى لو كان يقود غير مبال بقواعد القانون، لأن الأهم بالنسبة للوعى الجمعي أن يستمر الميكروباص سائراً في طريقه بالمخالفة لقواعد المرور أفضل من أن يتوقف عن السير تماماً وتتعطل مصالحهم.
وفى كل الأحوال، لا يعنى ذلك أن تتخلى الفلسفة عن أسئلتها الكبرى، وتتفرغ للأسئلة اليومية الصغرى التى تهم الرجل العادي، لكن يعنى أن يكون هناك فرع أو مبحث فلسفي يهتم بتفاصيل الحياة المتناهية فى الصغر، بجانب المباحث التقليدية التي أخذت على عاتقها الاهتمام بتفاصيل الحياة المتناهية في الكبر. فكلا النوعين من الأسئلة، الكبرى والصغرى، يعبر عن حالة إنسانية واحدة هى ”الدهشة”، وينطلق من هم إنساني واحد هو ”الرغبة في الوصول إلى الحقيقة”.




أضف تعليق