د. ماهر عبد المحسن
علاقة الإنسان بالحيوان علاقة بعيدة الأمد، وهى لا تقف على شعوب معينة أو حيوانات محددة.. وإن اختلفت هذه العلاقة باختلاف الزمان والمكان.
والحيوانات الأليفة، بنحو خاص، مثل القطط والكلاب، لها حضور طاغ ومميز فى حياة الإنسان المعاصر. وإذا تحدثنا عن مجتمعاتنا العربية، فسنجد أن للكلب مكانة مزدوجة، ونوع من العلاقة التى يمكن أن نصفها بالمتناقضة، إذا ما قارنا الأفكار بالسلوك.
وبهذا المعنى نجد للكلب، فى حياتنا، دلالة أخلاقية متدنية تجعله سُبّة نصف بها نوع حقير من الناس، ونجد له مكانة اجتماعية سامية تجعله يحظى باهتمام يفوق، فى كثير من الأحيان، الاهتمام بالبشر، لكونه يتمتع، أخلاقياً، بدرجة عظيمة من الوفاء لا نجدها فى الكثير من الناس.
ولكى نتبين أساس هذه المفارقة، ينبغي أن نعود إلى حضور الكلاب في ثقافتنا التي تشكل وعينا الجمعي ، وحضوره فى ممارساتنا الحياتية اليومية.
على المستوى الثقافي ، نجد أن الدين والفن والموروث الاجتماعي، قد ساهموا فى وضع الكلب في مرتبة دنيا في الوعى الجمعي. فقد استدعى القرآن الكريم الكلب في مواضع سلبية كان يصف فيها نوع سيء من البشر يكذّب بآيات الله “إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث” وفى الحديث الشريف “لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب… ” ، وفى الفقه ارتبط الكلب بالنجاسة. والحقيقة المنصفة تجعلنا لا نغفل أن الخطاب الديني، نفسه، تحدث عن الكلب الذى كان سبباً فى دخول رجل الجنة، وهى قصة فيها إشارة مهمة لضرورة الرفق بالحيوان كما أن الفقه أباح للناس إيواء الكلاب في حالات الضرورة العملية مثل الصيد والحراسة. لكن، فيما يبدو، فإن تغليب الوعى الديني لجانب العبادات على جانب المعاملات، جعل الصورة السلبية للكلب المرتبطة بالنجاسة تتفوق علي صورته الإيجابية المرتبطة بقدرته على مساعدة الإنسان في تحقيق غاياته العملية.
وفى الفن نجد حضوراً قوياً للكلب، خاصة فى السينما، على نحو ما رآينا فى أفلام : اللص والكلاب، زوجتي والكلب، الشموع السوداء. والملاحظ أن الأعمال التي تتناول الكلب بنحو رمزي، مثل اللص والكلاب وزوجتي والكلب، إنما تتناوله في سياق ثقافي واجتماعي يتسم بالخسة والنذالة، أي في سياق يعتمد على الصورة السلبية للكلب، وفي المقابل يتم استدعاء الصورة الإيجابية للكلب فى الأعمال التي تتناوله بنحو واقعى كما في فيلم الشموع السوداء.
ففي الفيلمين الأولين، كان أحدهما يرمز بالكلاب إلى البشر الأوغاد الذين يدفعون الإنسان البريء إلى أن يتحول إلى سفاح، وكان الآخر يرمز إلى الإنسان الخائن، وفى الفيلم الثالث حيث لا يرمز الكلب إلى الإنسان، ولكن إلى المعنى، معنى الوفاء والإخلاص، فقد تم تصويره كمنقذ للإنسان ومكتشف لجرائمه.
وفى المأثور الشعبي تربى الوعى الجمعي على مقولات من قبيل “… ديل الكلب عمره ما ينعدل لو علقوا فيه قالب”، “الجنازة حارة، والميت كلب”، “الكلاب تعوي والقافلة تسير”.. وكلها أمثال تحط من شأن الكلب، وتحصر كينونته فى النباح الذى لا يعبّر عن شجاعة حقيقية بقدر ما يعبّر عن جبن متخفي وراء رداء الشجاعة المزعومة. والغريب أن هذه الصفات تجافي الواقع العربي القديم الذى استخدم الكلب في الصيد والحراسة.
غير أن الحياة العصرية أفرزت نوعاً مختلفاً من العلاقة بين الإنسان الكلب، أعادت لهذا الأخير اعتباره، لكن على حساب الإنسان. فالحديث عن مناقب الكلاب يأتي دائماً في سياق الحديث عن مثالب الإنسان، خاصة في أخلاقيات التضحية والوفاء.
وفى هذا السياق كتب دكتور سعيد توفيق أستاذ علم الجمال عن صداقة الكلاب التي تفوق صداقة الإنسان بمراحل، وكيف أنه حزن كثيراً لموت واحد من الكلاب التي كانت تحرس فيلته، وذلك في كتابه “الخاطرات”. وتحدثت بعض الفتيات المضربات عن الزواج، عن أهمية الكلب المدرب في حياة الأسرة في ظل عدم وجود رجل. وانتشرت في الشوارع ظاهرة الشباب والشابات الذين يسيرون بصحبة كلب بوليسي مدرب على حماية صاحبه. والحقيقة أن هذا المشهد جاء نتيجة لثقافة مرفّهة أفرزتها طبقات متوسطة أتاحت لأبنائها فرصة اقتناء الكلاب وتربيتهم، بدافع من تقليد الطبقات الأرستقراطية على الأصالة، أو بدافع من رغبة حقيقية في تحقيق الحماية خاصة فى ظل انتشار الجرائم وغياب الأمان الحقيقي، الذى يسمح للمواطن أن يتحرك بحرية دون حاجة إلى من يحرسه. وهو دافع يذكّرنا بموضة “البودي جارد” التي انتشرت بين الفنانين العرب في التسعينيات من القرن الماضي في ظل حوادث الإرهاب التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، وتزامناً مع عرض فيلم “الحارس الخاص” لكيفين كوستنر و ويتني هيوستن، الذى ساهم في انتشار الفكرة، وذيوعها بنحو جذاب ومثير.
لكن اللافت في الأمر أن علاقة الناس بالكلاب التي جاءت نتيجة لثقافة اجتماعية جديدة ، قد أفرزت، أيضاً، نوعاً من الثقافة التي تتخذ من الكلاب موضوعاً لها. فبدأنا نسمع من قبل هؤلاء المصطحبين للكلاب، والمهتمين بتربيتهم أحاديث تدور حول أنواع الكلاب وأسعارها وصفاتها، بل وانتشرت كتب وبرامج ومقاطع فيديو تدعم هذه الثقافة وتغذيها بالمعلومات وبأحدث الوقائع والأخبار. كما نشأت بين الشباب العاطل عن العمل تجارة جديدة تقوم على بيع وشراء الكلاب.
وفى كل الأحوال، نحن نتحدث عن حضور الكلاب في حياتنا كمجتمعات عربية لها عاداتها وتقاليدها التي تحرص على الحفاظ عليها، ولا أعتقد أن الهوس باقتناء الكلاب أو التعاطي معها كحيوانات أليفة يمكن أن يصل إلى الحدود الشاذة التي وصل إليها في الغرب من عقد القران على الكلاب، والتوصية بمنحها الثروات بعد الوفاة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، في ظل تحسّن العلاقة بين الإنسان العربي والكلب من ناحية وترديها بين الإنسان والإنسان من ناحية أخرى، هل مازالت الازدواجية قائمة في الوعى الجمعي بين الثقافة والمجتمع، بين الفكر والواقع؟ أم أن السنوات القادمة ستحمل لنا اتساقاً بين ما يبدوان، على السطح، أنهما نقيضان؟ وهل سيتوقف التطور الأخلاقي عند هذا الحد، أم أن تردي العلاقة بين الإنسان والإنسان، ستجعل هذا الأخير سُبّة تلطخ ثوب الفضيلة، الناصع البياض، الذى ترتديه الكلاب، اذا ما انعقدت بينهما المقارنة فى زمن عزت فيه التضحية ومات الوفاء؟!

