د. ماهر عبد المحسن
كان قراراً صعباً جدا، اتخذته بعد طول تردد وطول تفكير، أن أبيع مكتبتي الخاصة، التي كوّنتها على مدار سنوات عمري بالكامل ، بثمن زهيد إلى واحد من باعة الكتب القديمة.
فكيف أقدمت على هذه الخطوة الجريئة؟
الكتب، مثل أشياء كثيرة في حياتنا، نبذل الكثير من أجل الحصول عليها ثم، بمرور الزمن، تتحول هذه الأشياء إلى عبء ثقيل ينوء به كاهلنا، حتى أننا نفكر في طريقة للتخلص منها.
ربما يبدو الأمر مختلفاً بالنسبة للكتب، نظراً لأهميتها الكبيرة وقيمتها التي لا تُقدّر بثمن. لكن الحقيقة أن الكتب لا تختلف كثيراً عن الأشياء العزيزة الأخرى التي تضطرنا الظروف إلى الاستغناء عنها، بل إلى التخلص منها.
فما يربطنا بأشيائنا العزيزة هو تلك الرابطة النفسية والعاطفية بهذه الأشياء، هو ذلك التاريخ المشترك الذي يذكّرنا بكل لحظة عشناها بالقرب منها. فالكتاب ليس مجرد ورق وأحبار نشتريها بهدف القراءة فحسب، لكنها علاقة تنشأ منذ اللحظات الأولى لتعرّفنا عليه عند باعة الكتب قبل إتمام صفقة الشراء، منذ أن تقع أعيننا على الكتاب ونختاره من بين عشرات الكتب الأخرى، مروراً بتصفحنا له في الأتوبيس أو المترو، مغمورين بسعادة شاملة ممزوجة بشعور لذيذ بالحصول على صيد ثمين، وانتهاءً بوضعه على رفوف مكتبتنا المنزلية الخاصة ضمن كتب أخرى عشنا معها خبرات إنسانية أخرى.
غير أن عادة القراءة، بمرور الزمن، تتحول إلى رغبة في الاقتناء، لأن حجم المكتبة يزداد والوقت المخصص للقراءة يضيق، خاصة مع تقدم العمر. وبهذا المعنى لا يبقى من الكتاب في الذاكرة سوي خبرة الشراء، أو اللقاء الأول بالكتاب. وفي السياق نفسه يحدث كثيراً أن نشتري الكتاب، لا رغبة في قراءته أو لأنه يلبى حاجة ملحّة (كتابة رسالة أو بحث مثلاً)، لكن لشعورنا، بحكم الخبرة، بأهمية الكتاب، وبأنه سيلعب دوراً ما في حياتنا الثقافية، مثلما يحدث في حالة الموسوعات. وأذكر أني بنفس المنطق اقتنيت موسوعة “مصر القديمة” لسليم حسن، و”قصة الحضارة” لوول ديورانت، و “وصف مصر” التي كتبها علماء الحملة الفرنسية، وكما حدث عندما اقتنيت رواية “الذرة الحمراء” الضخمة، لأن كاتبها الصيني مويان حصل على جائزة نوبل في الآداب في نفس العام . وهو نفس المنطق الذي جعل الناس تحتشد في معرض الكتاب داخل صالة الهيئة للفوز بنسخة من مجلدات “شخصية مصر” التي كتبها جمال حمدان.
إن مثل هذا اللون من الكتب يصلح للاقتناء أكثر مما يصلح للقراءة، أو هكذا يكون مآله دائماً.
هناك أيضاً نوع من الكتب لا يختارها الإنسان بإرادته، لكن يحصل عليها على سبيل الهدية من الأصدقاء أو الإهداء من كتّابها الأصليين، وهنا لا يملك القارئ المثقف سوي أن يقبل الهدية بامتنان لمعرفته بقيمتها بالرغم من أنها لا تدخل في مجال اهتمامه، كأن يكون الكتاب علمياً بينما تكون اهتماماته أدبية والعكس.
وفي كل الأحوال تنمو الكتب وتزحف في كل ركن من الشقة حتى أنها تحتل المنزل بالكامل، فيما يشبه الكائنات الغازية القادمة من كوكب آخر، أو المخلوقات الخرافية الغريبة التي نشاهدها في أفلام الرعب.
إن جلوسك بين كتب لم تقرأها لا يختلف عن جلوسك بين أثاثات منزلك الصماء التي لا تحتوي على أي مضمون، فكلاهما، فى التحليل الأخير ، لا يعدو أن يكون كتلة مادية تشغل حيزاً من الفراغ!
ويظل ذلك الشعور الداخلي الخفي بأن الكتب في أماكنها تحمل قيمة ما، وأنها ستلعب دوراً هاماً ذات يوم محتمل، هو الدافع نحو الاحتفاظ بالكتب حتى النفس الأخير.
أتحدث عن المثقفين والقراء الحقيقيين الذين يقتنون الكتب بدافع من الرغبة في اكتساب المعارف، لا عن هؤلاء الذين يقتنونها كي يضعوها في بيوتهم كقطعة من الديكور. فهنا تتحول الكتب حرفياً الي ما يشبه قطع الأثاث، ولا تحمل من القيمة ما يجاوز قيمتها المادية.
في ظل هذه الاعتبارات ينبغي أن نعترف بأن الكتب الورقية بدأت تفقد سحرها القديم، خاصة بعد ظهور الكتاب الإلكتروني. فمعظم كتبنا التي تزاحمنا في المسكن وتقض مضاجع الزوجة والأولاد موجودة على الإنترنت، ويسهل تحميلها في دقائق. ليس هذا فحسب بل إن حجم الكتب الموجود على النت هائل جداً بحيث يفوق لا مكتبتك الخاصة فحسب، لكن مجموع المكتبات الخاصة التي يمكن أن تتخيلها على مستوى العالم كله.
وبهذا المعنى يستطيع القارئ النهم، من عشاق الكتب، أن يكوّن لنفسه مكتبة خاصة بديلة عن الورقية أكثر حجماً وتنوعاً، والأهم من كل هذا وذاك إمكانية تحميلها والاحتفاظ بها على الكومبيوتر أو الموبايل الذي يحمله معه في كل مكان، ويختار من الكتب ما يناسب اللحظة التي يعيشها، والمكان الذي يحل فيه.
بهذا المعنى يمكننا أن نقول إن فكرة أفلاطون عن عالم المثل، التي صاغها منذ القرن الخامس قبل الميلاد، تجد تحققها الآن في العالم السيبري، فالأفكار توجد على النت (كعالم افتراضي يشبه عالم المثل) أما الكتب الورقية فهي مجرد نسخ مكررة لأصول موجودة هناك. قد تبلي أو تفنى، لكن يظل الجوهر محفوظاً ويمكن استدعاؤه في أي لحظة.
أما عن علاقتنا بالنسخة الورقية التي ارتبطنا بها عاطفياً ، والتي حملت تاريخاً مشتركاً بيننا، فإنها ستتحول حتماً ، مثل علاقتنا بأشيائنا العزيزة التي نفقدها وبالبشر المقربين الذين يفارقوننا، إلى ذكرى جميلة يمكن استدعاؤها كذلك في لحظات الحنين التي تستولي علينا، من آن لآخر. فالنفس أيضاً، فيما يبدو، كعالم المثل تحتفظ بماهيات المشاعر أما موضوعاتها فتضيع في العالم، ربما الي غير رجعة، ولا نحيا نفس الشعور الا في لحظات فريدة يتحول فيها المثال الي واقع!

