د. ماهر عبد المحسن


منذ أن أعلن الرئيس الفرنسي ماكرون، فى أحد تصريحاته، أنه لن يتوقف عن نشر الصور المسيئة للرسول (صلي الله عليه وسلم )، وقفت الدنيا في العالم الإسلامي ولم تقعد..
وتبدت وقفة المسلمين في الرد على تبجح ماكرون على وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال السباب تارة ومن خلال نشر صور مقابلة تسئ لماكرون على غرار الصور المسيئة للرسول (ص) تارة أخري، وكذا الدعوة إلى مقاطعة المنتجات الفرنسية. وتم التعبير عن مجمل هذا الموقف الدفاعي المعارض والرافض لعنجهية الغرب من خلال أيقونة فيسبوكية وضعها المسلمون على صورهم التي تتصدر حساباتهم الشخصية على الفيس، تحمل عبارة “إلا رسول الله”.
وبغض النظر عن تفاصيل الأحداث التي تسببت في هذا الموقف المتأزم، والتي راح ضحيتها مواطن فرنسي، وشاب شيشاني متطرف، فإن الموقف الإسلامي الرافض للإساءة، كان الأكثر إثارة للجدل في المجتمع العربي، المسلم بخاصة. وتبدى هذا الموقف فى خطاب ناقد، يدّعى العقلانية والتنوير، يرفض هذا اللون من ردود الأفعال التي يعتبرها سلبية وعاطفية، لأنها لن تفيد الأزمة بقدر ما ستسهم في تعقيدها.
والحقيقة إن هذا الخطاب نفسه يحتاج إلى تحليل ومراجعة، لأنه يأتي من الداخل، من بين المسلمين أنفسهم، وهو خطاب خطر، لأنه يظهر بمظهر النقد الذاتي، وفى الوقت نفسه ينطوي على تبرير للسلوك الغربي المسيء، بحسن نية أحياناً وبسوء نية فى معظم الأحيان . كما أنه يتكئ على مجموعة من المغالطات التي، للمفارقة، لم تأت من أعداء الإسلام وإنما من المسلمين أنفسهم، المثقفين، وشيوخ المسلمين.
وفى هذا السياق، يري البعض أن ما فعله ماكرون، من وجهة نظر الثقافة الأوربية، لا يعد ازدراءً للأديان بقدر ما هو تعبير عن حرية الرأي، وهى قيمة لا نعرفها نحن، المنتمين للمجتمعات الشرقية الأقل تحضراً. والأحرى بنا، وفقا لهذا الرأي، أن نتخلى عن التعاطي العاطفي مع مثل هذه المواقف وأن نتعلم من الآخر المسيء كيفية احترام الرأي المخالف وحرية التعبير عنه، خاصة أن الآخر الغربي في سياق ممارسته لحرية التعبير عن رأيه، لا يفرق بين ديانة وأخرى، وإنما يسمح لنفسه بأن يتطاول على الأديان جميعاً.
والملاحظ أن هذا الرأي يأتي من حملة لواء التنوير، الذين يتبنون رؤية عقلية للأمور تتجاوز الدين والعاطفة، بل ترى فيهما سبباً مباشراً للتخلف والرجعية. كما تأتى من بعض “اليوتيوبرس” الذين يعيشون في البلاد الأوربية، أمريكا بخاصة، مثل وائل غنيم ومي الخرسيتي و وائل الصديقي، ويقدمون خطاباً استعلائياً، ذي نبرة تعليمية، بحكم كونهم قريبين من الحضارة الغربية ويفهمون لغة الآخر وثقافته أكثر مما نفهمه أو نعرفه نحن، من أبناء الشعوب المتخلفة، التى ترزح تحت نير القهر والجهل والفقر.
والمفارقة أن الخطاب نفسه تجده من داخل البلاد المسلمة، ومن شيوخ الإسلام، أصحاب الشعبية الذين يُفترض انهم متفقهون فى الدين، وغيورون على نبي الإسلام بنحو أكثر من المسلم العادي. فيرفض مبروك عطية موقف العامة المعادي لماكرون، ويطالب بتطبيق تعاليم الرسول بدلاً من ردود الأفعال العاطفية تجاه الإساءات المتكررة للرسول (ص). وفى السياق نفسه يستدعى خالد الجندي أغنية لحمادة هلال تتحدث عن تعدد الزوجات بشكل كوميدي، ويرى أن التوقف عن إنتاج أو سماع مثل هذه الأغاني أولى من الهجوم على ماكرون، لأن مثل هذا السلوك هو الذى يسئ إلى الإسلام.
والحقيقة إن تناول المسألة بهذا الشكل فيه تبسيط مخل، فالإساءة للرسول (صلي الله عليه وسلم) وللإسلام، خاصة من قبل الآخر الغربي، إنما ترجع إلى سنوات بعيدة، حتى لتجدها لدى مفكرين وفلاسفة كبار، قامت علي اكتافهم حركة التنوير الفرنسية مثل مونتسكيو وفولتير، ومن تأثر بفكرهما فى القارة الأوربية مثل الفيلسوف الألماني هيجل صاحب فلسفات التاريخ والحضارة والفن والدين. ولم تكن المسألة أبداً حرية تعبير بقدر ما كانت تحيزاً مرضياً مقصوداً لتشويه الإسلام، وإقصاء الآخر غير الأوربي من السباق الحضاري، من أجل فرض هيمنة ظالمة على شتى بقاع الأرض فيما عُرف بالمركزية الأوربية. ولعل فى التاريخ الاستعماري لهذه القارة اللصة، التي سرقت شعوب العالم، ومازالت، ما يؤكد هذا المعنى.
إن ماكرون لم يكن يمارس حرية تعبير لا نفهمها أو نستوعبها كما ذهب البعض، لكنه كان يمثل حلقة لا تنتهى من مسلسل تآمري مقصود، وإلا لماذا هذا التوقيت؟.. ولماذا نشر الصور السيئة بالحجم الكبير فى ميدان عام؟.. ولماذا صرح بأن مدرس التاريخ يمثل الدولة الفرنسية؟.. وماذا عن تصريحاته المعادية للإسلام فى الأسابيع السابقة على مقتل المدرس الفرنسي؟.. لأن المسألة ببساطة ليست حرية تعبير بقدر ما هي لعبة سياسية، يستخدم فيها الغرب كل الأسلحة، المشروعة وغير المشروعة.
وفى هذا السياق، نذكر الحكم الذى أصدرته المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان عام 2018، فى واقعة مماثلة، عندما قامت سيدة نمساوية بالإساءة إلى الرسول (ص)، وقررت فيه أن ازدراء الاديان لا يندرج تحت مبدأ حرية التعبير، وأن الإساءة لنبي الإسلام، تحديداً، لا يعد تعبيراً عن حرية الرأي. وحتى لو اعتبرنا أن ما صدر عن ماكرون يندرج تحت مبدأ حرية الرأي، ألا يعد الرد على ماكرون نوعاً من ممارسة الحق في التعبير عن الرأي؟ ولماذا يطالبنا مثقفونا، من حملة مشاعل التنوير، بأن نكون أكثر أخلاقية من هؤلاء الذين دأبوا على الإساءة إلى ديننا و رموزنا الدينية؟!
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الخطاب الإسلامي المناهض لفورة الشعور الديني، ينطوي أيضاً على مغالطة صارخة، فتطبيق التعاليم التي جاء بها رسول الإسلام لا يتعارض مع التعبير عن الغضب ضد الإساءة التي يتعرض لها الرسول من أعداء الإسلام، كما أن الهجوم على ماكرون وأشباهه لا يتعارض مع الالتزام الأخلاقي فى الإبداع الفني والأدبي. إن محاولة إقامة مجموعة من التناقضات الثنائية بين العقل والعاطفة، بين الالتزام الديني والالتزام الفني من ناحية، و الربط بين تجاوزات ماكرون اللاأخلاقية وبين الحفاظ عل قيمة عليا مثل حرية التعبير من ناحية أخرى، لا معنى له سوى الرغبة، فى إزاحة الشعور الديني من معادلة الصراع السياسي والحضاري.
ففى ظل مؤامرات خارجية وأنظمة داخلية لها حساباتها الخاصة، لا يبقى للإنسان المسلم من قوة يعتصم بها، ويقين يتمسك به سوى قوة الشعور الديني. فهو خط الدفاع الأخير، الذى يمكن أن يجمع المسلمين بعد أن تعددت أسباب الفرقة والشتات. وليس هناك تناقض في أن يجمع الإنسان بين قوة الشعور الديني وقوة المنطق العقلي. فقط نحتاج إلى تنمية الشعور الديني بحيث يمتد إلى حالات الإساءة للإنسان عموماً بحيث يهب لنصرة الضعفاء، ويثور اذا ما غاب العدل.
كما ينبغي ألا نعزل أي ظاهرة عن سياقها التاريخي والسياسي، ولعل فيما يحدث الآن على الساحة ما يؤكد ذلك. فقد وقفت العواصم الأوربية فى صف ماكرون ضد أردوغان، الرئيس المسلم الوحيد، الذي قام بالرد على ماكرون. كما اتخذت السعودية، مسقط رأس الرسول (ص)، فى مفارقة عجيبة، موقفاً مشابهاً عندما أعلنت مقاطعة تركيا عقاباً لها على موقفها المعارض لماكرون، وكان الأولى أن تتوجه بالعقوبة إلى هذا الأخير. كما أن الإعلام المصري، على غير المفروض، يقدم خطاباً تهكمياً، يسخر فيه من الدعوة إلى مقاطعة المنتجات الفرنسية، فى محاولة لإثناء المسلمين عن الاستجابة لهذه الدعوة. ولا تتساءل كثيراً حول غرابة ما يحدث على الساحة، فقط كن واعياً بخطورة اللحظة التاريخية الراهنة التي تمر بها الأمة الإسلامية والعربية، وأن المسألة تتدخل فيها توازنات قوي وصراعات مصالح. وليس من الذكاء التخلي عن أي من أسلحتنا العقلية أو العاطفية، العلمية أو الدينية، الأخلاقية أو الجمالية.


أضف تعليق