د. ماهر عبد المحسن


أثناء فترة الانفلات الأمني، وهروب المساجين، وتشكيل اللجان الشعبية لحماية المواطنين، كان الناس العاديون الذين لم يسبق لهم التعرض لهذا النوع من الخطر يتركون شققهم وينزلون إلى الشارع، يجلسون أمام البيوت والعمارات، لحماية دورهم السكنية، متسلّحين بأدوات بدائية مثل العصى والكراسي والحبال والمواسير المعدنية.
لم تكن هناك رغبة حقيقية في القتل أو الضرب أو استخدام العنف في العموم، لكن كانت هناك رغبة في الدفاع عن النفس والمال والعرض، رغبة في التخلي عن السلبية وروح الانهزام، وإثبات الوجود، في الانتصار للحياة امام خطر الموت المحتمل، الناجم عن عبثية الشر.
أذكر في هذا السياق أني كنت اترك شقتي، ومجموعة من الجيران، وكنا نجلس طويلاً أمام بوابة العمارة، يحمل كل منا سلاحه المتواضع، ونسهر طوال الليل نتحدث ونتسامر، و أعيننا تدور حول المكان لترقب أية حركة أو صوت. أحياناً كنا نشعر بالخطر، وأحيانا يأخذنا السمر، وأحيانا ثالثة يصيبنا الملل، لكننا كنا نملك الاصرار على التواجد، وعلى بث الحياة والطمأنينة في ليالي الأزمة الباردة، المنطوية على مصير غامض يتربص بالجميع.
فى هذه الأثناء كان يمر علينا بعض سكان العمارة، الداخلون أو الخارجون لقضاء احتياجاتهم، كانوا يلقون السلام، أو يكتفون بالابتسامة، أو يمضون دون أن يعيروننا أدنى اهتمام. وفى المجمل كانوا يتصرفون وكأنهم لا يمتون للعمارة بصلة، ولا تربطهم بالأزمة الجاثمة أية رابطة، حتى انك لتشعر وكأنهم غرباء عن المكان، أو الزمان، أو كأنهم هابطون من كوكب آخر.
بعد سنوات من هذه الوقائع، تكرر نفس الموقف، عندما فرضت الحكومة قانون التصالح على العقارات المخالفة. فقد دعا بعض أصحاب الشقق إلى اجتماع السكان فى العمارة التي أقطن فيها للجلوس مع الملّاك الأصليين ومناقشة أمر التصالح حتى لا يتعرض العقار للإزالة أو قطع الخدمات. وبالرغم من خطورة الأمر لم يحضر سوى ثمان أشخاص من واقع ست وستين شقة. وعندما تمت الدعوة إلى اجتماع آخر لاستكمال الإجراءات حضر أربعة أشخاص. والملفت في الموضوع أن العمارة لم تكن مهجورة، وأن سكانها، وهم ملاك للشقق، كانوا يمرون علينا أثناء الاجتماع، ويمارسون حياتهم اليومية فى وجودنا وكأننا هواء.
حقيقةً ليس هذا هو حال كل الناس، لكنى تساءلت عن السبب الذى يدفع هذه النوعية من البشر لمثل هذه السلوكيات السلبية. أي عن الكيفية التي يفكرون بها وقت الأزمات. واذا لم يتحرك هؤلاء ضد الخطر الذى اقترب من باب مسكنهم، وبدأ يهدد أمنهم واستقرارهم، فمتى سيتحركون؟!
الإجابة ببساطة أن هؤلاء قد اعتادوا على أن المخاطر، مهما عظمت، يظل لها سقف تقف عنده، وهو اعتقاد ينبني على فلسفة رحيمة للشر، ترى أن الاشرار، مهما بلغت درجة تجبرهم، فهم في النهاية بشر مثلنا، وليسوا شياطين، وهم بهذه المثابة يحملون بداخلهم شيئاً من التعاطف الإنساني، الذى يجعل بعض اللصوص يسرقون نقودك ويتركون لك بطاقاتك وأوراقك الرسمية، بل وأحياناً يتركون لك من النقود ما يكفى لعودتك إلى منزلك، وهو ما يجعل بعض القتلة يتخلصون من الكبار ويمتنعون عن إيذاء الأطفال. كما أن التاريخ السياسي لتعذيب المعتقلين فى السجون لا يجعل من القتل خياراً ذا أولوية، بل على العكس يظل الجلاد حريصاً على الحفاظ على حياة ضحاياه حتى تستمر عملية التعذيب من ناحية، وحتى يكون بعيداً عن طائلة المسئولية من ناحية أخري، وفوق هذا وذاك لوجود رابطة إنسانية خفية بين الجلاد والضحية. وفى أحيان كثيرة يتحكم في المسألة سلم من القيم والأولويات الأخلاقية يجعل السارق لا يخطف، و الخاطف لا يقتل، والقاتل لا يزني، وهكذا. وبهذا المعنى، لا يتوقع الكثيرون أن تستخدم أي من الدول التي تملك السلاح النووي سلاحها فى إبادة العالم، أو أن تعمل حكوماتهم، مهما بلغت درجة جورها وعسفها، على النحو الذى يؤدى إلى القضاء كليةً على حياة المواطنين.
والحقيقة أن نظرية “الشرير الرحيم” التي نقترحها لا تصلح بمفردها لتفسير سلبية الكثيرين تجاه المخاطر التي تحيط بهم. لأنه يظل هناك هذا الاحتمال الرهيب الذى يجعل من يهدد بالقتل يتجاوز مرحلة التهديد ويضغط على الزناد. فالشرير الرحيم هو في التحليل الأخير شرير، وليست هناك أية ضمانة حقيقية فى أن يغلّب تعاطفه الإنساني على رغبته فى الإيذاء، خاصة أن فلسفة الشر تجد مصلحتها فى الإيذاء لا في التعاطف.
وبهذه المثابة يمتنع بعض السلبيين عن السلوك الإيجابي اعتماداً منهم على الأطراف الأخرى التي تتسم بالإيجابية مهما قل حجمهم. فوجود بعض الأفراد القلائل في حراسة العمارة أثناء الانفلات الأمني كان يكفي لأن يشعر باقي السكان بالأمان، ووجود نفس هذه القلة يكفي أيضاً لحل مشكلة التصالح مع الدولة وإنقاذ العقار. فالحل عند هؤلاء السلبيين يمتلك قوة ذاتية تمكّنه من التحقق والفاعلية بقليل من الجهد وقليل من الأفراد، إننا إزاء نظرية أخرى تبرر السلبية يمكن أن نطلق عليها “القوة الذاتية للحل”. وخطورة هذه النظرية، إذا تحولت إلى اعتقاد إنما تكمن في أن السلبيين قد يشعرون بأن مشاكلهم، آجلاً أو عاجلاً، سوف تُحل من تلقاء نفسها حتي لو لم يتحرك أحد لإيجاد الحل.
وفى هذا السياق أذكر أن أحدهم ذكر لي ذات مرة أنه عندما تواجهه مشكلة مستعصية، لا يفكر فيها كثيراً وإنما يحاول أن يتشاغل بأي شيء آخر كأن يشاهد مباراة في الكرة، أو يستمع إلى أغنية، أو يخرج مع أصحابه، وعندما يعود يجد أن المشكلة قد حُلت. وذكر لي آخر أنه في حالة وجود أية مشكلة تواجهه، ما عليه إلا أن يخلد إلى النوم، وعندما يصحو في اليوم التالي يجد كل شيء على ما يُرام.
ولا تتعجب كيف لمن لديه مشكلة مستعصية أن ينام أو ينعم بممارسة هواياته الممتعة!
فهؤلاء لا يبذلون الجهد في الهرب من المسئولية، وإنما يمتلكون، بالفطرة أو بالتربية، طاقة سلبية تمكّنهم من الامتناع عن الفعل في المواقف التي تستدعى الفعل. والحقيقة انهم لا يمتنعون كليةً عن الفعل، ولكن عن الفعل المسئول، الذى سيترتب عليه أعباء، بدليل أنهم يواصلون حياتهم ويقومون بأفعال أخرى كثيرة عدا المواجهة والتصدي للمشكلات والمخاطر التى تعترض هذه الحياة.
وفى كل الأحوال، إننا إزاء نمط من التفكير الخرافي، الذى لا يستند إلى أى منطق متماسك، ولا ينطلق من أرضية علمية ثابتة. فوجود الخير في بنية الشر مسألة متناقضة، والنتائج التي يظن البعض أنها من الممكن أن تأتي دون مقدمات فيه إهدار لمبدأ السببية، كما أن حدوث الفعل دون فاعل إنما هو نوع من الميتافيزيقا المستحيلة.
إننا في حاجة إلى إعادة بناء أفكارنا ومعتقداتنا بحيث تقف على أرض صلبة، كما أننا في حاجة إلى إعادة توجيه طاقاتنا وقدراتنا بحيث تأتى افعالنا في الوقت المناسب والموضع المناسب. وفى الأخير، ينبغي علينا، من منطلق الضرورة لا الترف الفكري، أن ندرب أنفسنا على الشعور الحقيقي بالمخاطر، والقدرة على التوقع الدقيق للكوارث، خاصة أننا بتنا نحيا فى عالم فقد فيه الأمان معناه ، وصار الوجود برمته محض احتمال!


أضف تعليق