د. ماهر عبد المحسن
تستفزني كثيراً ظاهرة “البقشيش” أو “الإكرامية”، لأسباب كثيرة، لعل أهمها أنها مسألة غير قانونية، ولا تستمد مشروعيتها الا من العرف الاجتماعي، خاصة فى البلاد الفقيرة كمصر.
ويدعم المجتمع هذه الظاهرة لأسباب كثيرة، منها إدراك البعض للظروف الاقتصادية الصعبة التي يعانى منها أفراد المجتمع، ممن يعملون لقاء أجور زهيدة. كما أن البعض الآخر يدعم هذه الظاهرة من باب الوجاهة الاجتماعية، حتى أنه قد يبالغ في عطائه ما يخلق، في بعض الأحيان، حالة من الطمع، تجعل متلقي البقشيش يتطلع، دائما للأكثر، ما يضع الآخرين في حرج لا مبرر له، سوى نظرة الاستنكار الغريبة التي يبديها الطرف الآخر، السلبى في معادلة الأخذ والعطاء.
وبهذا المعنى، تجد المسألة تحققاً فجاً لجدلية السيد والعبد، التي وضعها هيجل في فلسفته الاجتماعية. فالسلطة تتحول تدريجياً من الشخص الذي يعطي إلى الشخص الذي يأخذ، بحيث يملك الأخير القدرة علي إحراج الأول، وبحيث يشعر الأول بسلطة أو حيثية ما، يمتلكها الأخير. والحقيقة أن السلطة موجودة بالفعل فى المصلحة التي يحتاجها مانح البقشيش، ويتحكم فيها متلقي البقشيش. لذلك تنتشر هذه الظاهرة، غالباً، فى المصالح الحكومية، وأماكن العمل التي تتعامل مع الجمهور مثل المطاعم والكافيهات والسينمات والملاهي.
وتظل المشكلة قائمة، والسؤال مثار، لا عن مصدر هذه السلطة الذى عرفناه، لكن عن مشروعية الظاهرة. وهى مسألة تتطلب تحليلا مفاهيمياً للموضوع برمته.
وفى هذا السياق يُذكر أن أصل كلمة (بقشيش) تعنى : الذى يُدفع عند دخول السوق. ذلك لأن الأتراك كانوا يعتنون بالأسواق عناية فائقة ، وينفقون على نظافتها والرقابة عليها من هذه المبالغ التي يدفعها الزبائن. ثم تغير مفهوم البقشيش حتى أضحى نوعاً من أنواع (العطية) أو الهبة. ويتفق هذا التحول مع المعني اللغوي للكلمة، وهو “عطية مجانية، وإكرامية…”.
وهنا يحق لنا أن نقول إن للمسألة وجهاً آخر، فالعطية هنا ليست مجانية، لأنها لا يمكن أن تتم إلا مقترنة بخدمة، وإلا تحولت إلى حسنة يدفعها العاطي، كنوع من الصدقة، إلى الشخص متلقي العطية. غير أنها، في الواقع، تُدفع مقابل خدمة مدفوعة الأجر، أي أن مؤدي الخدمة يتلقى الأجر مرتين، واحدة بنحو أصلي والأخرى بنحو تبعي. والمفارقة هنا أن الشخص مؤدي الخدمة يتصرف وكأنه يستحق مكافأة إضافية على عملة الذى يتلقى عنه الأجر أصلياً، أو أنه يبالغ فى الدور الذى لعبة، مهما كان بسيطاً، في أداء الخدمة، ويستخدم عبارات فخيمة تبرز حجم هذا الدور، وتُظهر للمانح استعداد مقدم الخدمة لتحقيق مستوى الأداء نفسه مستقبلاً من قبيل “تحت أمرك”، “إحنا في الخدمة”، “نورت يا باشا”. وهى مواقف تنم عن الرغبة في إضفاء مشروعية من ناحية، وعلى استنفار الطرف الآخر لدفع البقشيش من ناحية أخرى.
والحقيقة أن الظاهرة انتقلت من الأفراد إلى المؤسسات، بحيث أصبحت فلسفة ومنطقاً للتعامل يضمن القائم به مزيداً من الدخل، فالأسرة التي تلقت من الأب مصروف البيت دفعة واحدة، تعود لمطالبته بالدفع على مراحل وفقاً لاحتياجات الأسرة على مدار الشهر. والحكومة العاجزة عن تحقيق إصلاح اقتصادي حقيقي، تفرض الضرائب نفسها مرتين، كأن تكون على الدخل وعلى السلعة فى الوقت نفسه، أو على عناصر الإنتاج ثم على المنتج النهائي، بل إن هناك أماكن، مثل المطارات، تحصّل رسوماً للسيارات عند الدخول وعند الخروج.
ولما كان الأمر على هذا النحو، فقد ابتدعت البنوك والشركات وأماكن البيع والشراء مصطلحات جديدة، قادرة على إضفاء المشروعية على هذا اللون المزدوج من الدفع من قبيل “مصاريف إدارية”، “مقابل خدمة”. وهى مصطلحات شبيهة بتلك التي سبق وأن ابتدعها الأفراد، لأن المنطق واحد، من قبيل “الشاي بتاعنا” و “الدخان بتاعنا” و “غدانا” و “مواصلاتنا”، وكأنك مسئول عن تهيئة الجو العام والمزاج العام للقائم بالخدمة.
والطريف أن للبقشيش وجهاً آخر يستحق أن نتوقف عنده، وهو الدفع المرتبط بالمناسبات الاجتماعية السعيدة، ويسمي فى هذه الحالة “الحلاوة”. والفلسفة هنا أكثر تطرفاً، لأنك مطالب بالدفع المزدوج كذلك، لكن فى اتجاهين مختلفين: الأول تجاه الشخص الذي حمل إليك الخبر السعيد أو الذى توقع لك هذا الخبر، والآخر، الذى لم يحمل الخبر ولم يتوقعه، لكنه شاركك الفرحة أو كان “وشه حلو عليك”. وكلها حالات لا تنطوي علي أي خدمة حقيقية أو عمل شاق يستوجب المقابل.
والحقيقة أنه بالرغم من أن الفلسفة واحدة، وهى الأخذ المزدوج دون مسوغ، ما يخل بعدالة العلاقة التي بين الأطراف الداخلين فيها، إلا أن حالة المناسبات السعيدة تجد مبررها فيما يمكن أن نطلق عليه “المقايضة الاجتماعية ً. فالأشخاص الذين يطالبونك بالدفع لمجرد أنك صاحب المناسبة، وأنهم يشاركونك الفرحة، ولو بالصدفة، هؤلاء الأشخاص يجدون أنه لزاماً عليهم أن يدفعوا عندما يكونون هم أصحاب المناسبة، خاصة بالنسبة للذين سبق وأن دفعوا لهم.
غير أن المسألة لا تخلو من إشكالية، لأن المناسبة قد تكون سعيدة بالنسبة للآخرين، لكنها لا تكون كذلك بالنسبة لك. وفى هذا الصدد، حكي لي أحد الأصدقاء عن طالب كان يحلم بدخول الجامعة، لكنه حصل على درجات متدنيّة لا تؤهله لتحقيق حلمه، فجلس حزينا، منتظراً جواب التنسيق فى حالة من اليأس البالغ، وعندما جاءه ساعي البريد بجواب الترشيح، الذى حمل له معهداً فنياً، وهو أمر كان متوقعاً، وقف الساعي متهللا، يطالبه “بالحلاوة”!
وتنقلنا هذه الواقعة إلى لون آخر من ألوان هذه الفلسفة الاجتماعية، غير الواعية، وغير العادلة، عندما يتعلق الأمر بوقائع المرض والوفاة، حيث تهيمن مقولة “مصائب قوم عند قوم فوائد”. فالإنسان المريض أو المتوفي يمثل، في التحليل الأخير، مصدراً للارتزاق، لأن الإنسان، الذى كان يعمل ذات يوم، يتحول إلى موضوع للعمل، ومن ثم ينتظر القائمون بالعمل حوله المقابل لما يقومون به. غير أن المنطق نفسه يستمر في العمل، عندما تجد نفسك مطالباً بالدفع للمستشفى، وللطبيب وللممرضة، وللتومرجية، ولعمال النظافة، ولعمال الأمن. إنها فلسفة معوجة، وغير عادلة بالمرة، أن يشعر العامل، الذى يتقاضى أجراً مقابل عمله، إنه يستحق مكافأة على هذا العمل، والنتيجة الطبيعية لهذا المنطق المغلوط أن العامل لا يؤدى بإتقان الا اذا ضمن البقشيش أو الإكرامية، ما يعنى أن الإهمال هو القاعدة، وأن الإجادة والإتقان هما الاستثناء الذى يستحق مكافأة أو أجر آخر خلافاً للأول. وواضح أن السلوك هنا مخالف للأخلاق وللدين، الذى يرفع راية الإتقان كشعار إسلامي مهم، كما فى الحديث الشريف: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”.
وتتبدى المسألة بنحو أكثر تطرفاً في حالة الوفاة، فبالرغم من حجم المصاب ومرارته، إلا أنه يتحول إلى حزمة من الالتزامات الثقيلة التي ينبغي أن يوفيها أهل المتوفي، للحانوتي والمغسل والتُربي والمقرئ، وإن كان المغسل، فى معظم الأحيان، يرفض أن يتقاضى مقابلاً لعملية الغسل، ويقوم بها تطوعاً، طمعا في الأجر الأخروي. وربما كان تفسير ذلك قرب المغسل من جسد الميت، ما يجعل لعظة الموت حضوراً أقوى.
غير أن الظاهرة الأكثر بروزاً فى سياق حديثنا عن ثقافة الأخذ دون مسوغ، هي ما يعرف ب “الرحمة”، وهى ظاهرة تحاصرك داخل المقابر من قبل الترابية والمقرئين. فأنت تجد نفسك مطالباً بالدفع دون تلقى خدمة حقيقية، سوى الدعاء للمتوفي وطلب الرحمة. وهى بنية التسول نفسها، أن يتحول الدعاء إلى سلعة، غير أن الدعاء في التسول يكون للحي لا للمتوفي، والذى يكون غالباً، للمفارقة، بالصحة وطول العمر. ولعل فى ذلك ما يبرر رد الفعل المتجهم للمتسول، الذى يبادر نحوك بالدعاء ولا يتلقى المقابل.
وفى الأخير، نحن إزاء ظاهرة معقدة، تتدخل فيها عناصر نفسية واجتماعية واقتصادية، وتعد مؤشراً جيداً على حالة التكاسل والاستسهال التى تهيمن على سلوكيات الأفراد والمؤسسات، ما أدى إلى حالة من الترهل الاجتماعي، التي أدت بدورها إلى نوع من البطء في الحركة وفى الإنتاج، ومن ثم في التغيير.
(نُشر فى المجلة الثقافية الجزائرية الإلكترونية، بتاريخ 5/9/2020)

