د. ماهر عبد المحسن
هناك أفلام يمكن قراءتها من خلال مشهد واحد أو عدة مشاهد مفتاحية، تملك من ثراء الدلالة وخصوبة المعنى ما يمكّنها من أن تكون بوابة كبيرة للدخول على العديد من التأويلات.
من هذه الأفلام فيلم “الزوجة الثانية” لمخرج الواقعية صلاح أبو سيف، وقد اخترنا مشهد العمدة عتمان (صلاح منصور) وهو يجبر الفلاح الفقير “ابو العلا” (شكرى سرحان) علي تطليق زوجته فاطمة (سعاد حسني) حتى يتزوجها هو، كي تنجب له الولد الذي عجزت زوجته العاقر حفيظة (سناء جميل) عن إنجابه.
والحقيقة أننا إزاء مشهد عبقري لمخرج عبقري، ونجمين كبيرين فى الأداء التمثيلي. وهو مشهد، بالرغم من بساطته الظاهرة، يختزل قضية الفيلم كلها، من خلال رصد لحظات صمت ثقيلة ونظرات معبّرة، وهى قضية “الظلم”.
وبالرغم من التناقض الصارخ فى اللقطتين: لقطة العمدة الظالم المتجبّر، ولقطة “ابو العلا” المظلوم المنكسر، إلا أن التدقيق فى اللقطتين من شأنه أن يكشف لنا عن أبعاد أخرى عميقة، وربما مغايرة لما بدا لنا منذ الوهلة الأولى.
فنظرة العمدة تكشف عن شخصية مهزوزة، لأنه يمارس الظلم والاستيلاء على حقوق الغير، وهو يعلم بحقيقة الجرم الذى يرتكبه، وربما يخشى العقاب القادم لا محالة، سواء من الأرض أو السماء.
لذلك تشعر وكأنه يحرص على إتمام جريمته الشنعاء، بسرعة، تتضح فى نظرته الزائغة ، وطريقة تدخينه للسيجارة، وعباءته المنسدلة على كتفيه دون تنظيم، فى إشارة إلى سلطته الغاشمة من جانب، والمهلهلة من جانب آخر، بحيث تقبض على مقاليد الأمور، لكن برعونة، وهو ما يفسر لنا انهيار هذه السلطة، وعدم قدرتها على الصمود أمام صراع حريمي يحركه “كيد النساء”.
إننا أمام أعين شهوانية، تحركها الرغبة في الاستحواز على ما يملكه الآخرون (بقرة الفلاحة الفقيرة، أو زوجة الفلاح الكادح). يؤكد هذا المعنى مشهد سابق، معبّر وعميق، عندما كان ينظر، هو وزوجته حفيظة، من فتحة فى الحائط تطل على مجموعة من النساء يرقصن احتفالاً بواحدة من المناسبات الاجتماعية، كي يختارا زوجة للعمدة تنجب له الولد. ودلالة المشهد تكمن في اختيارات حفيظة العملية، التى تركزت فى نساء أرامل ومطلقات، ولا يتمتعن بالجمال اللافت، بينما تركزت عين العمدة على فاطمة الجميلة، لأن الشهوة هي التي تحركه، شهوة الجنس، أو شهوة السلطة.
على الجانب الآخر، يمكننا أن نقرأ نظرة “ابو العلا” المظلوم، ودموعه المحفورة فوق خديه الملتهبين على أنها نظرة دهشة وذهول مما يحدث، خاصة أن اللقطة التالية من هذا المشهد تصور “ابو العلا”، بعد أن القى يمين الطلاق على زوجته، مكرهاً، من الخلف وقد تمزق جلبابه طولياً، فى إشارة إلى كونه طُعن غدراً من الخلف. وبالرغم من أنه تلقي الطعنة، فى الحقيقة، من أمام، إلا أنه تلقاها من السلطة، التى استولت على اعز ما لديه، بدلاً من أن تقوم بحمايته كما هو مفترض.
لذلك اذا دققنا النظر في عيني “ابو العلا”، فإننا لن نعدم شيئاً من التحدى والرغبة فى الانتقام من جانبه، وهو ما تحقق فيما بعد عندما تسلل إلى بيت العمدة، وقرر أن يقتله ليلاً فى ليلة زفافه على زوجته، التى ردته وقررت هي أن تنتقم على طريقتها.
نحن إذن أمام سلطة متهافتة، وبشر كادحين ومقهورين، لكنهم مازالوا يملكون الحيلة والأمل وروح التحدى. وأمام كل ذلك، كان ينبغي أن يسقط الظلم، ويأتى من يعيد الحقوق إلى أصحابها (اخو العمدة)، بعد أن خلخل البسطاء عرش الطاغية.
لقد كان صلاح أبو سيف سابقاً لعصره عندما قدم رسالته الضمنية العميقة على لسان الاراجوز “ده متخلقشي اللي يقدر يغلب مره”.. فالمرأة هي التي تمنح السلطة، وهى التى تسلبها، بينما يرتدى الرجال، فى النهاية، مسوح البطولة والزعامة!
كما يمكن أن نفهم رمزية الأراجوز على أنها تجسيد لمعاني الحيلة والمكر والدهاء، باعتبارها أسلحة المقهورين والمسحوقين تحت وطأة الظلم الذى يبطش ولا يرحم. فقد لا يملك الفقير، الضعيف، القوة اللازمة لمقاومة السلطة الغاشمة، لكنه يملك ما هو أكثر، يملك الحيلة، والإيمان بعودة الحقوق المسلوبة إلى أصحابها.
لقد أحببت هذا الفيلم كثيراً.. فتحياتي لصنّاعه، ولصديقي الرائع الذى ذكّرني به، ومنحني وسام الشرف، عندما رشحني لتقديم قراءة فنية لهذا المشهد، دكتور علي رضوان، صديقي في الحياة، وزميل الدراسة والعمل.

